الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحزاب الأزمات

مناف الحمد

2014 / 5 / 7
مواضيع وابحاث سياسية



دعيت إلى حضور مؤتمر يعلن عن تأسيس حزب إسلامي جديد في غازي عنتاب التركية وقد سوّق له مؤسسوه على أنه حزب مدني بمرجعية إسلامية وسطية الأمر الذي مثّل لديّ ظاهرة تعبّر عن استمرارية حالة التصحّر السياسي، وخلوّ الساحة من فعل حقيقي للتيار الديمقراطي، وقابلية المجتمع للرضوخ لاستبداد جديد.
فالمعضلة التي تجسّدها محاولات قولبة ظروف الواقع المتغيرة داخل النص الثابت ليست إلا تعبيراً عن حالة مجتمع يفتقر إلى ميكانيزمات الاندفاع إلى الأمام، ويرهن حاضره ومستقبله لماضيه ويجترّ تجارب فاشلة كان لها دور بالغ السوء في تاريخ سوريا.
يمثّل السياق الاجتماعي في إحدى فرضيات علم اجتماع المعرفة حوضاً مائياً ذا مستويات عمق متفاوتة وهويفتح سكوراً لبعض الممكنات محوّلاً إياها إلى واقع، ويغلق أخرى مبقياً إياها في حدود الإمكان، وهذه الممكنات هي الأجوبة على الأسئلة الكبرى في هذه الفرضية.
يبدو أن نشاط تأسيس أحزاب على أساس ديني في ظروف المأساة السورية ممكن يفتح له السياق سكوراً لتحويله إلى واقع على اعتبار أنه الجواب الأكثر قدرة على الاستجابة لمآلات الحدث السوري بما تنطوي عليه من فقدان المجتمع لبوصلته في ظل دوامة العنف التي تطحنه، وفي ظل فقدان الثورة لفكر يقودها وهو أحد الأسباب التي مكّنت النظام من حرف مسارها وتحويلها إلى ثورة مسلحة وصولاً إلى فتح الأبواب أمام التيارات المتطرفة وتمهيد تغلغلها في الساحة السورية.
ليس جديداً أن تعمل تيارات الإسلام السياسي على تسويق برامجها في ظروف الأزمة فهذا ميدانها الذي دأبت على العمل فيه عبر تاريخها، ولكنّ المشكلة أن هذه الظاهرة كفيلة بإحداث نكوص في مسيرة المجتمع الذي قام بالثورة لنفض غبار الاستبداد عن كاهله وليس لإحلال استبداد آخر محله.
فبالرغم من كل دعاوى مؤسسي الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية أن أحزابهم أحزاب مدنية ذات مرجعية إسلامية وسطية، فإن هذا لا يحلّ عقدة التناقض بين مفهوم الديمقراطية وبين الاستناد إلى المرجعية النصية مهما حاولوا في طروحاتهم النظرية تمييع هذا الاستناد تحت غطاء الإيمان بالوسائل الديمقراطية مختزلين الأخيرة إلى صندوق اقتراع.
وعقدة التناقض هذه تتمثل في أن الديمقراطية نزع للأسسية، ونفي للمركز الثابت ومكان للغياب لا للحضور -غياب القائد بعد حضوره، وغياب الحزب السياسي بعد حضوره - وصحيح أن الحضور مرافق للغياب ولكن الغياب هو ما يمنح الديمقراطية جوهرها وميزتها الأساسية.
ومن غير الممكن لعمليات التجميل لأحزاب تقوم على أساس ديني أن تنجح في التوفيق بين ماهية الديمقراطية تلك وبين الاستناد إلى مرجعية نصية مقدسة.
وبرغم ادعاء جلّ تيارات الإسلام السياسي نبذ فكرة الدولة الدينية التي يقدمونها عن جهل أو تجاهل على أنها مطابقة للدولة الثيوقراطية مع أن الأخيرة ليست إلا نوعاً لجنس الأولى فإن طرحهم الأساسي المتمثل في أن كلام الله هو المرجع المطلق في الأمور الدينية والدنيوية ليس إلا شكلاً من أشكال فكرة " الحاكمية لله "ولا ينفع هنا التخلي الشكلي عن هذه الفكرة _التي اخترعها أبو الأعلى المودودي في سياق سياسي واجتماعي معين ثم قام سيد قطب باستيرادها ومحاولة استزراعها في سياق آخر مختلف _ لأن الطرح السابق لا ينفصل عن فهم هذه جماعة ما لهذا الكلام المعد مطلقاً، وهو فهم مشروط بطبيعة الحال بظروف هذه الجماعة وبمصالحها، مما يستلزم فرض هذه الجماعة في حال تقلّدت مقاليد السلطة لهذا الفهم على باقي الجماعات، وهي النتيجة عينها التي تقتضيها فكرة الحاكمية لله والمضمون نفسه الذي تنطوي عليه دولة الكهنوت.
إن واقعة تمثيل المبدأ المتسامي التي تقوم عليها هذه الأحزاب هي القاسم المشترك بينها على اختلاف برامجها ورؤاها وهي الكفيلة بدحض طرحهم القائل بأن الدولة التي يدعون إليها هي ليست الدولة الثيوقراطية كما تمثلت في أوربا العصور الوسطى.
فالتمثيل للمبدأ المتسامي هو جوهر الدولة الدينية ،وتمظهره بأشكال مختلفة ليس إلا عرضاً لهذا الجوهر، إضافة إلى أن واقعة التمثيل هذه باعتبارها معطىً غير طبيعي فهي تحتاج إلى إيديولوجيا تسوغها وقد رافقت عملية التسويغ هذه كل أنظمة الحكم الديني.
وتمثل الديمقراطية إحدى الوسائل التي يستفيد منها التيار الديني لاجتراح أيديولوجيا التمثيل هذه فلأن أساليبها متنوعة، وهي لا ترجح اختيارا لأحدها على الآخر، وتعتبرها جميعا مشروعة وجديرة بالاعتبار يأخذ هذا التيار أسلوباً واحداً منها ويشرحه شرحاً وحيد الجانب فتكون نتيجة هذه المعالجة الهرطقية هي الأيديولوجيا.
ولأن هذه الإيديولوجيا مرتبطة حتماً بالتراث فإنها كفيلة بمسخ فردية الفرد وإلغاء ذاتيته لأنها تعتبر التراث _وهو هنا الإسلام مجرداً - كائناً كلي القدرة مجرداً قادراً على حل كل المشاكل الراهنة والمستقبلية.
لا سبيل إلى مصادرة حرية الذين يدعون إلى أحزاب دينية، ولكن إدراك خطرها على سيرورة التحول الديمقراطي أمر أكثر من ملح فلا حاضن أمثل للتيارات المتطرفة من هذه الأحزاب التي تعمل الإيديولوجيا التي تعتري برامجها على على إلغاء ذاتية الفرد واستقلاليته بمسخها أولاً لحرية الاختيار بين القيم لأنها تعمل على قوننتها وبالتالي فرضها، وبتذويبها ثانياً الحدود بين الخاص والعام لأنها تفترض أن في النص المرجعي حلّاً لجميع المشاكل، وبإعطائها ثالثاً مفهوم الأمة والجماعة أولوية على مفهوم الفرد.
لا شك أن التجربة ستكشف دوغمائية هذه الأحزاب ولكن لا بدّ من عدم الاتّكال على هذه الثقة بمعزل عن مفعولات التركيب لأفعال للفاعلين الاجتماعيين، ولا مناص من تحرّك سريع من قبل التيار الديمقراطي المدني لاحتلال موطئ قدم في الساحة، وعدم تركها خالية للاعب يتقن الضرب على وتر العاطفة واستثمار ظروف الأزمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو