الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( محجر رقم 1 ) - قصة قصيرة -

عبدالكريم الساعدي

2014 / 5 / 8
الادب والفن


في أقبية المجهول كنّا نمارس كتلة من الأحلام في قعر العالم السفلي، ننسج من همس الحزن والغربة المميتة صمتاً ينخر عباب المسافات، كانت العتمة وقوافي الفزع قبلتنا ، نختبىء خلف ظلّ الأنين والانتظار، نحمل طيوفاً على طرف الخيال وسط لهيب السياط ، ولمّا تزل أنفاسنا لاهثة نحو وجه الشمس ، منقوعة بغضب دفين ، كنّا في رحلة كسوف تماماّ ،كمّموا أفواهنا بالرعب ، والعيون لم تر غير الظلام ، كانت جروحنا تغسل بالملح على ضفة ضحكات استهزاء واحتقار ،وكلام نابي لم يستطع نطقه الا أبناء الشوارع ، كانت الكلمات مؤذية جداً :
- هل التقينا من قبل ؟ لم يجبني . كنّا نتّكأ شهوراً على دكّة الصوت ، يحتوينا الفراغ والعتمة قلقاَ وأرقاً ، يشكّلنا ضجراً مرّ المذاق ، نصول ونجول في مساحة لاتتسع للجسد ، مساحة تشبه القبر ، ربما كنّا نرقد في عالم من التوابيت ، لا أدري ، لكنّي أعلم أنّنا شربنا من كأس واحدة ، إنّه يرقد بين ضلوعي بقايا أسى ، دموعه تلامس مقلتي باشتهاء ، يداه النحيلتان فيهما شيءٌ من ارتعاشتي ، كان يحلم بالحياة وأنا لا أعرف غير أن وجهي يحمله ليل طويل ، ليل أطفأني غياباً على ضفة عالمٍ ليس له ملامح . وحين يستبدّ بي القلق واليأس يطفأ مخاوفي بدفء كلماته ، كلمات تنبّىء بحفيف أمل محمولٍ على كتف جراح البائسين :
- من رحم العتمة يطلّ النور ، والصبح يحمل نداه ، هذه الجراح ستحملنا يوماً ومضاً ، أنشودةً تهزأ من كلّ هذه الأطواق، سنتحرّر من قيودهم يوماً ما ، لاتخش شيئاً ياصاحبي.
- ألم نلتقِ من قبل ؟
- هو ذات الوجع والخراب، هي ذات الأحلام .
- لكنّك تحملني جرحاً ودمعاً بين الحدقات !
كنّا نبحث بين فراغات العتمة عن نسمة هواء أو شعاع ضوء ، غريبان منبوذان في العراء، لا لون لهما ، يختنقان بمجامر العزلة ، عزلة خانقة تغمرنا بالأنين والدموع ، تغمرنا بشهقات أقرب لشهقة الموت ، حاولت مراراً أن أعبر أمسي لحتفي الذي ينتظرني منذ شهور ، لكنّي لم أقوَ على الأمر ، ماكنت لأرغب أن أكون بقايا قبر ، لا أحد يسمع صراخي وأنين جرحي :
- من أين قدمت ؟
- لا أدري . وأنت ..؟
- من جادة الأمس ، أعدّ خطواتي التائهة فوق طرقٍ قذرة.
- وأين نحن الآن ؟
- في بطن الحوت . ابتسمت على رغم الوجع ، ياترى هل لمح ابتسامتي ؟ سيكون سعيداً بها...
لم يكن بيننا سوى مسافة أنفاس وبيننا وبين العالم أسوار من الصمت وجدران من الفزع ، صلبت عليها أحلاماً وأماني عصافير تحلم بزقزقتها، كنّا نحلم بصرير الباب ، نرتجي قطرة ماء من فصول ارتدت أقنعة الجفاف :
- إنّك مازلت ترقب خوفي ،وتبثّ في خواء الصمت أنفاسك النقية ، إنّي أراك لاتحصد من حقول السراب غير الأوهام كما الظمآن يلهث خلف السراب . ما زال خوفي ويأسي ينمو في فراغات العتمة والفراغ ، وهو يحمل شراع الرفض ، ويكتب بالجراح ذاكرة الغضب في ظلّ غيمة عابرة يحلم بالأمطار :
- دع أحلامك تتنفس المدى ، فخلف الجرح تسكن حراب الغضب وغفوة أمل ، خبّىء دموعك عنّي ، واسمع صدى العاصفة ،ارنو ببصرك بعيد أ ، ألا ترى معي ذلك الفنار الشامخ على مرفأ الغربة والعزلة ؟
لا شيء سوى أشباح وحدتي ، سأم يؤسر خطى الصبر ، أقتات منه جوعي وعطش المنافي ،وأعماق الروح تتلظى ألماً ، تتفجر لوعةً وجوى ، لم أرَ غير أشجار ذاوية وقوافل من الموتى تبحث في الظلام عن مأوى لها ، وخلف الغروب مدنٌ تلتحف أسمال أبنائها في عزّ البرد ، وأراني وسط الضباب ألتقط من بين متاريس الذاكرة وجهاً يسطع بظلّ أوجاعي ، أستظلّ به . فجأة وقبل أن يتداعى صرح الفجر عانقني صرير الباب ، تجندلت مثخناً بدموعي وبقايا ذكريات بعثرها النسيان ،تتواثب دقات قلبي للعناق ، حدّقت في الفراغ ، لم أرَ غير وجوه كالحة :
- أين خبأتم وجه الشمس ؟ تستّروا بجنوني :
- إنّك تهذي ، لا أحد غيرك .
ترجّلت من خطواتي العاثرة بأفق الشك ،وعيناي تترقران بالصراخ والدهشة :
- أين أنت يا أنا ؟ ها أنا أطلّ من أرصفة الوجع ، أطلّ على شمسك المتوهجة بالرغبة . يفترشني سقف الفراغ والعتمة ، يغتصب ذعري صمت مريع ، أتسوّل وضوح الرؤيا لعلي أدرك ظلّه ،ارتحل مهاجراً من منفى الى منفى ، من عتمة الى عتمة وسط حجب من ظلام ، لا أدري حين سمعت صرير الباب أ دخلت محجر المجهول أم خرجت منه ؟.... لا أذكر شيئاً سوى أنّني كنت محمولاً على ( بطانية ) خضراء تقطر دماً! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي