الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيروت سمير قصير

صبحي حديدي

2005 / 7 / 19
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


مرّت، يوم 15 من الشهر الجاري، الذكرى الأربعون لاغتيال الكاتب والمؤرّخ والصحافي الشهيد سمير قصير (1960 ـ 2005). وقد تكفّل أهله ورفاقه وأصدقاؤه وزملاؤه بتنظيم تأبين رفيع يليق بالراحل من جهة، ويكرّم الرحيل بوصفه قضية مفتوحة على المستقبل من جهة ثانية، لا تخصّ لبنان وحده، ولا تنحصر تجلياتها في ثقافة إباحة الدم والاستئصال وإطلاق كاتم الصوت مثل كلب مسعور، لأنها إنما تشمل اغتيال عشرات الرموز السياسية والفكرية والثقافية والمسلكية التي كان سمير قصير أحد أبرز حامليها.
وكان طبيعياً أن يقرأ المرء ما يمسّ أغوار القلب في مشاعر الياس خوري وغسان تويني وجوناثان راندل ومارسيل خليفة وأكرم البني والياس عطا الله وجيزيل خوري، وكذلك المشاعر التي نقلتها وصنعتها أغنية مارسيل خليفة أو شريط عمر أميرالاي ـ أسامة محمد. وكان مشروعاً، بالنسبة لي شخصياً، أن أتأثر على نحو عاطفي إضافيّ بما جاء في كلمتين تشتركان في سمات خاصة: رياض الترك، ومحمود درويش.
الأوّل لأنه رافع صوت سورية، جارة لبنان وعزيزة سمير قصير لأسباب شتى ليس أشدّها مغزى أنّ السيدة ليلى دميان، والدة الراحل، سورية طرطوسية؛ ولأنّ الترك هو الضمير الأبرز لسورية المتعطشة إلى كلّ ما كان يصبو إليه الراحل من حرية وستقلال وديمقراطية وكرامة إنسانية، ونهضة وطنية؛ ولأنّ مشاركته جاءت مسجّلة بالفيديو بالنظر إلى أنه ممنوع من دخول لبنان بقرار أمني! ثمة، أيضاً، هذه الحقيقة التي كشف الترك النقاب عنها في كلمته، المبدئية الذكية الصلبة الحانية في آن: "لعلّ الكثيرين منكم يجهلون هذا التفصيل الإنساني البسيط: أنني أتحدث عن راحلٍ لم تكتحل عيناي برؤيته وجهاً لوجه، ولم يسبق لنا أن التقينا مرّة واحدة، والتواصل بيننا اقتصر على المحادثة الهاتفية. مفارقة الأقدار هذه، فضلاً عن شروط الإستبداد وانتهاك الحرّيات في بلدينا، لم تمنعنا من التواصل والتشاور وتبادل الرأي. وإنني كنت وأظلّ قريباً من افكاره حول النهوض العربي عموماً، وحول الإصرار على أنّ استقلال لبنان مرتبط مباشرة بالمعركة من أجل الديمقراطية في سورية".
والثاني، محمود درويش، لأنّ سمير قصير إبن فلسطين مثلما هو إبن لبنان وإبن سورية، لأسباب شتى أخرى ليس في طليعتها ـ هنا أيضاً ـ أنّ والده، حنا قصير، فلسطيني الأصل. وهكذا، كان مؤثراً على نحو خاصّ أن يقول درويش، في كلمة مسجّلة بدورها: "سمير قصير، الراقص الرشيق في حقول الألغام، الساخر من كل انسجام مع عبودية مفروضة أو مختارة، هو أحد أسماء التفوّق على صَدَفة الهوية وعلى التخصص في مدوّنة واحدة. لذلك صدّق أن في وسع الفلسطيني أن يكون لبنانياً، وأن في وسع اللبناني أن يكون فلسطينياً عربياً، وأن من واجب العربي أن يكون مشاركاً بالتفكير على الأقل في التداعيات التي تتركها انقلابات العالم المعاصر على ما يُعدّ له من مصائر"...
وفي يوم الذكرى الأربعين استعدت، بدوري، صديقي الراحل الجميل بالطريقة الوحيدة المتوفّرة بين يديّ هنا: أن أكتب عنه مجدداً، وأن أتحدّث عن أحبّ كتبه إلى نفسي. معروف، بالطبع، أن للراحل العديد من المؤلفات اللامعة، أبرزها ربما "مسارات من باريس إلى القدس"، 1993، بالتعاون مع المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك. غير أنّ كتابه المفضّل عندي هو "تاريخ بيروت" l Histoire de Beyrouth، الذي صدر في باريس سنة 2003 عن دار النشر الفرنسية Fayard، لأنه في نظري قد يكون الأكثر تعبيراً عن مجمل مواهب قصير الكاتب والمؤرخ والمثقف الملتزم، وذوّاقة الأدب أيضاً.
والكتاب مجلد ضخم يقع في 732 صفحة، ويحتوي على عشرات الصور والوثائق النادرة، وفيه نتابع تاريخ مدينة بيروت بمختلف مراحله الزمنية، ومختلف جوانبه السياسية والإجتماعية والمعمارية والثقافية والتجارية وحتى المطبخية. وهو كتاب بديع فريد في أكثر من اعتبار، لكنّ سمته الأساسية هي المزج البارع والذكيّ بين المعرفة العميقة والمتعة العالية، وتشويق سرد الحكاية التاريخية خصوصاً.
وسمير قصير يبدأ تاريخ المدينة من العصور القديمة، فنعرف أنّ بيروت في عهد الفينيقيين كانت مجرّد محطة سفر صغيرة بين المراكز الثلاثة الهامة صيدا وصور وبيبلوس، وظلّ موقعها هامشياً في التاريخ الإسلامي والعثماني، رغم خضوعها للإحتلال الصليبي طيلة 170 سنة. وللتمثيل على حجم المدينة، نتذكّر أنّ عدد سكانها كان، في نهاية القرن الثامن عشر، 4000 نسمة، بالقياس إلى سكان دمشق البالغين 100 ألف نسمة.
مكانتها سوف تبدأ في البروز مطلع القرن التاسع عشر، حين قرّر إبراهيم باشا فتح الدولة أمام التأثير الأوروبي، فتحولت بيروت إلى رأس جسر لما يمكن تسميته "غربنة" الشرق. وبين الإستقلال سنة 1943 واندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، شهدت بيروت عصرها الذهبي كمدينة نهضوية عصرية منفتحة ليبرالية، وعاصمة النشر والصحافة والحريات، وملجأ الساسة والمثقفين والمناضلين العرب الذين ضاق بهم الإستبداد العربي على اختلاف أنظمته وأنماطه.
وعن بيروت هذه يقول قصير، في عبارة آسرة: "هنالك مدن يغلب فيها الثابت على المتحوّل، امّا بيروت فهي المدينة التي ينحصر ثابتها في تحوّلها الدائم"...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس