الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشهد من سيناريو الطغيان

عماد فواز

2014 / 5 / 13
مواضيع وابحاث سياسية



ربما يقيم الطغيان ملكا إلى حين، لكنه لا يمكن أبدا أن يقيم عدلا.. وتاريخ مصر الطويل مليء بأسماء وحكايات الطغاة وسفاكين الدماء، والغريب أن المصريون غالبا كانوا يرون جرائم الطغاة بطولة، ربما بسبب تصديقهم الأكاذيب بفعل التكرار، ولهذا السبب تحديدا كثر "عبيد المأمور".. فتجدهم بوفرة داخل كل حكاية، وشاع بين العامة اعتياد المسمى، وباتت عبادة المأمور بالتدريج شرف وعز وجاه في نظر العامة.. أما بالنسبة للمأمور نفسه – الطاغية- فهو عادة لا يحترم عبيده ولا يثق فيهم بسبب انعدام الكرامة لديهم وتخليهم عن المبادئ والشرف بفعل الخوف أو الطمع في المال والسلطة!.


وقد ذكر "الجبرتي" حكاية محمد بك الدفتردار، احد السواعد القوية التي اعتمد عليها محمد على باشا في تثبيت حكمه، وتشديد قبضته على الشعب المصري، وقام في هذا السبيل بدور لا يقل كفاءة عن الأدوار التي قام بها إبراهيم باشا أكبر أبناء الوالي، والكتخدار محمد لاظوغلي نائب الوالي، وصالح قوش بطل مذبحة القلعة، وغيرهم من أركان النظام الجديد، وكلهم جاءوا برفقة محمد على ، جنودا في جيش الاحتلال العثماني الذي وصل مصر في فترة الفوضى التي أعقبت خروج الحملة الفرنسية، ولكنهم لم يخرجوا من مصر أبدا، وأصبحوا سادة البلاد والمتحكمين في مصيرها على مدى قرن ونصف قرن من الزمان، عاشوا خلالها يقنعون المصريون بأنهم المأمن الوحيد من الفوضى وإرهاب المماليك!.

وكان محمد الدفتردار وحشا كاسرا، يحمل بين جنبه قلبا صخريا، لا تعرف الرحمة أو الشفقة سبيلا إليه، وكان عاشقا للدماء، وكان محمد على يستخدم هذا النوع من البشر لفرض سيطرته وأحكام قبضته على ربوع مصر.

وحدث أن كان الدفتردار يطوف على بعض القرى، عندما تقدم فلاح بائس عارضا شكواه، فقال: لقد تأخرت عن سداد الضريبة المستحقة علىّ وقدرها ستون قرشا، ولكن ناظر الأرض أبى إلا الدفع، فاستولى على بقرتي الوحيدة، وأمر جزار القرية بذبحها ثم قسمها ستين جزءا وأمر بتوزيعها على الفلاحين بواقع قرش واحد للجزء، وأعطى الجزار رأس البقرة لقاء عمله، وبعد أن جمع المبلغ، مضى وتركني، دون أن أتذوق حتى ولو قطعة واحدة من لحم البقرة التي كنت اعتمد عليها في زراعتي.. وكانت تساوى ضعف المبلغ الذي جمعه.

فلما فرغ الفلاح من قصته، مضى الدفتردار إلى القرية، وأطلق المنادي يطلب من أهلها التجمع في الجرن، والتف الفلاحون في شبه حلقه، بينما بعث الدفتردار في استدعاء الناظر والجزار الذي ذبح البقرة، ثم أمر الجند بتكبيل الناظر بالحبال وإلقائه في وسط الحلقة، وتوجه بالحديث إلى الجزار قائلا: كيف سمح لك ضميرك بذبح بقرة هذا الفلاح المسكين وهى كل ما يملك من حطام الدنيا؟!.. فارتعد الجزار ولكنه تمالك نفسه وقال للدفتردار أنا يا مولاي عبد المأمور.. ولم افعل سوى ما أمرني به الناظر.. فسكت الدفتردار برهة وكأنها دهر، فألقي بسهام نظراته النارية على الناظر المطروح أرضا، وقال للجزار: لو أمرتك بأن تذبح الناظر مثلما ذبحت البقرة.. فهل تفعل؟.. فقال الجزار على الفور: لقد قلت يا مولاي إني عبد مأمور.. أطيع الأوامر التي تصدر إلى من سادتي.. عندئذ انتصب الدفتردار واقفا وصرخ في وجه الجزار: إذن فإني آمرك أن تذبح هذا الوغد.. فخف الجزار مسرعا وأخرج السكين من جيبه، وانقض على رقبة الناظر، فحزها حتى فصل رأسه عن جسده.. وساد الوجوم أهل القرية.. وجمدت الدماء في عروقهم، وظلوا واقفين مذهولين أمام هذا المشهد الرهيب.. وبعد أن فرغ الجزار من مهمته، نهض منتظرا باقي الأوامر، فقال له الدفتردار: والآن آمرك أن تقطع جثته ستين إربا.. ماعدا الرأس.. ومضى الجزار في تنفيذ الأمر بهمة ونشاط حتى فرغ من تقطيع الجثة ستين إربا.. وهنا التفت الدفتردار نحو أهالي القرية صارخا: على كل منكم أن يشتري قطعة ويدفع قرشين.. وصدع الأهالي بالأمر.. وأخذ كل منهم قطعة من لحم الناظر، ووضع قرشين..فلما تجمع مبلغ مائة وعشرين قرشا، تناولها الدفتردار ودفع بها إلى الفلاح المنكوب ليشتري لنفسه بقرة جديدة.. ثم التفت إلى الجزار وقال "كما أنت أخذت رأس البقرة جزاء لك على تعبك، خذ بالمثل رأس الناظر جزاء لك على تعبك في ذبحه وتقطيعه، وانطلقت منه ضحكات كأنها زلزال مدمر.. ثم نهض وغادر القرية، ومن خلفه جنوده.. بينما أهل القرية ذاهلون.. وكأنهم يشهدون كابوسا كريها.

لقد ظن هذا الوحش البشري أنه أقام عدلا، ومحا ظلماَّ!!.. وما درى أن العدل الذي يتحقق عن طريق الطغيان والعنف هو عين الإرهاب.. ولو كان حكم على الناظر بدفع ضعف ثمن البقرة للفلاح لكان أقام عدلا، ولو أن الجزار – عبد المأمور- ناقش الدفتردار في قراره واقترح عليه تخفيف العقوبة، وعدم مساواة البشر بالبقر، ربما كان استجاب الوحش له وأنقذ رقبة إنسان، وربما لو اتحد العامة من أهالي القرية وصرخوا في وجه الدفتردار بالرحمة واظهروا له الرفض حتى فى شراء لحم إنسان، لما تمادى الوحش في إرهابه كما روى الجبرتي فيما بعد في معرض حكاياته وأساطيره عن الدفتردار.

إذن التاريخ يؤكد أن الطغيان لا يفرضه الطاغية منفردا.. بل يحتاج لكي يسود إلى عبيد ينفذون أوامره باقتناع وفخر، ومواطنين ضعاف مستسلمين يبدو عليهم الذعر عقب كل فعل إجرامي.. ومع تكرار الجرائم أمامهم يعتادونها، ثم يتحول الطاغية المجرم في نظرهم إلى بطل وزعيم إذا كان يملك موهبة الخطابة وقلب الحقائق، واستخدام مفردات البطولة لتعريف جرائمه وتسويقها للعامة في الحكايات!.. ويستمر الزمن في عرض الطغاة، والتاريخ يسطر حكاياتهم.. والعامة هم العامة.. يندهشون ويضيقون ثم يعتادون ويتغنون.. وتنتهي أسطورة وتولد أخرى.. ويستمر المسلسل.. يتغير الأبطال والأحداث واحدة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيف عمر.. طريقة أشهى ا?كلات يوم الجمعة من كبسة ومندي وبريا


.. المغرب.. تطبيق -المعقول- للزواج يثير جدلا واسعا




.. حزب الله ينفي تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالقضاء على نصف


.. بودكاست بداية الحكاية: قصة التوقيت الصيفي وحب الحشرات




.. وزارة الدفاع الأميركية تعلن بدء تشييد رصيف بحري قبالة قطاع غ