الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رجل الشارع والإنسان العادى

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2014 / 5 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


يكفى أن تسير المرأة فى الشارع لتكون نهبا للحملقة أو تسمع كلمة تهدر كرامتها، أو تمتد يد تتحرش بها، كأنها امرأة الشارع أما رجل الشارع فهو يمثل الشعب أو يشكل الرأى العام، الذى تعمل القوى الحاكمة حسابه فى الانتخابات والمظاهرات والثورات، لكن هذا الرجل من الشعب يصبح بلا قيمة حين يدخل مكتبا حكوميا وإن كان كشك مرور.
جربت أن أذهب وحدي، دون وساطة، الى مكاتب الحكومة، وشهدت إهدار كرامة الإنسان العادى على يد الموظفين، من أصغر حارس واقف على الباب الى الجالس فى التكييف بالمكتب الفخم وبالأمس شعرت بالألم فى العمود الفقرى فذهبت الى أقرب مستشفي، قاومت الرغبة فى المرور على مكتب المدير، وقلت لنفسي: ربما تحسنت معاملة الحكومة للشعب المصرى "العظيم" بعد ثورته "المجيدة" وقفت فى طابور المرضى، الفقر والمرض محفوران فى الوجوه الضامرة الممصوصة، تذكرنى بالوجوه، فى منتصف القرن الماضى، حين كنت طبيبة بمستشفى قصر العيني، لكن العيون أصبحت أكثر حزنا، والنساء أكثر بؤسا، ملابسهن أكثر سوادا وترابا، يحملن أطفالا لهم جماجم العجائز، مضت ساعة حتى وصلت الى الباب المغلق المكتوب عليه: غرفة الكشف، واقف على الباب ممرض عملاق يشبه سيدنا رضوان (كما تخيلته فى طفولتى) لا أحد يدخل الى الجنة إلا بإذنه.
جاءت سيدة أنيقة بالمكياج تشبه مذيعات التليفزيون، رحب بها الممرض: اتفضلى يا أستاذة، وأدخلها قبلى رغم أنها جاءت بعدى، فاعترضت وأشرت للممرض أن يحترم الطابور، لكنه رمقنى باستهتار: أنا عارف شغلى يا ست الكل على فكرة لقب "ست الكل" يجرى على ألسنة الرجال الذكور وينم عن الاستهانة بالمرأة التى يسمونها "الأنثى".
قلت له بغضب: أنا مش "ست الكل" والنظام لازم تحترمه، رد غاضبا: أنا عارف النظام كويس يا حاجة ولقب "حاجة" ينم عن استهانة أكثر بالمرأة، قلت بغضب أشد: أنا مش "حاجة" أولا، ثانيا، لازم تحترم النظام، اللى ييجى الأول يدخل الأول.
فى هذه اللحظة جاء ضابط أنيق فوق كتفيه نجوم، ضرب له الممرض تعظيم سلام وفتح له الباب، قبل أن ينغلق الباب اندفعت داخل غرفة الكشف وأنا أهدد الممرض بتقديم شكوى ضده. كان الطبيب يكشف على مريض، إلى جواره ممرضة، ترتدى حجابا حول رأسها شفتاها مدهونتان بالأحمر وحاجباها على شكل قوسين رفيعين، رحبت الممرضة بالضابط الأنيق وأفسحت له الطريق، ثم اعترضت طريقى، وطلبت بلهجة السلطة أن أعود الى الطابور خارج الغرفة، فانفجرت بالغضب ورفضت التنازل الذى يضع النظام، ولم يكن أمامى الا تهديد الطبيب وقلت، سأطلب الآن مدير المستشفى فى رقمه المحمول تغيرت لهجة الطبيب على الفور، تلاشت الخشونة والغلظة فى صوته، ابتسم فى رقة وقال معتذرا، متأسف يا دكتورة اتفضلى، وقدم لى الكرسى لأجلس، ثم طلب من الضابط ذى النجوم الانتظار مؤقتا خارج الغرفة، لكنى رفضت الكشف الطبي، كنت قد فقدت الثقة فى الطبيب وفى قدرته على علاجي، وخرجت من المستشفى أشعر بالمرض والإعياء، من شدة ما أصابنى من غضب وإرهاق، الى جانب الأسى والحزن، على هذا الشعب المسكين الذى يتاجر الجميع باسمه العظيم وثورته المجيدة.
هذا يوضح ما يمكن أن يتعرض له الإنسان العادى من إهانات، لو أن المرض أصابه، أو مأساة فى حياته أجبرته على دخول مكتب فى الحكومات التى ترفع شعار الثورة: العدل والحرية والكرامة.
الإرهاب المسلح يهدد بلادنا، لكن هناك إرهاب آخر لا يقل خطورة، يهدد الشعب العادى الذى قام بالثورة، ونزف فيها الدماء والأرواح والعيون والأفئدة وفلذات الكبد، إنه الإرهاب الموروث منذ آلاف السنين، الكامن فى مخ الجهاز المصرى الحكومي، الذى يعتبر الإنسان العادى من الشعب
"عبدا" لا يساق الا بالضرب والركل أو الشتيمة والسباب.
ويختزن الشعب المصرى الألم والهوان، ويجتره كالجمل والحصان، ثم يفيض به الكيل فيتمرد ويثور، لكن الحكومات (بعد الثورة) قادرة دائما على إرهابه إخضاعه، طالما أن الأحزاب السياسية والنخب المثقفة، جزء من الحكومة، تحت اسم المعارضة، وطالما أن أصحاب البلايين فى الداخل وأصحاب المعونات فى الخارج، يفرضون إرادتهم على الدولة والحكومات، تحت اسم الديمقراطية والسوق الحرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل يُعقل هذا ؟؟؟؟
فؤاده العراقيه ( 2014 / 5 / 14 - 08:14 )
هل يُعقل لهذه العقول أن تغفل عن المبدعين رغم أن المفروض أن يكونوا في المقدمة ليقودوا تلك العقول الغافلة ولكن عقولهم صارت نتاج للرؤوس العفنة الحاكمة لهم , والرؤوس العفنة هم نتاج للبلد الذي صار امبراطورية على العالم أجمع
الحلقة تدور بالبلدان العربية كافة وتبدأ من أصحاب المعونة الخارجية إلى السلطات الحاكمة والأحزاب والنخب المثقفة, ذوي المصالح الذاتية ,لقمع الشعوب وحصرها في نطاق التخلف والعوز وانتظار المعونات وشل القدرات ليعلوا رصيدهم من التخلف والأموال ويغرقون أكثر في أنانيتهم

مواقف مثل هذه تشد عزمنا أكثر لمحاربة الفساد بشتى الطرق والإمكانيات فلا سبيل لبزوغ الشمس سوى الكشف عنها كما تفعلين
ولو تبادلت الأدوار معهم لحملتكِ على ظهري كما حملتِ هموم الإنسان المظلوم رغم إن فعل مثل لا يليق به كلمة هموم لأنه يرفع عن كاهلنا جميع همومنا لأنها تغسل ارواحنا من نرجسيتها ..أحيي فيكِ صمودكِ وقوتكِ .. وننتظر بفارغ الصبر الجزء الرابع من أوراقي حياتي واليوميات التي تدوينيها هنا


2 - هل يُعقل هذا ؟؟؟؟
فؤاده العراقيه ( 2014 / 5 / 14 - 08:15 )
هل يُعقل لهذه العقول أن تغفل عن المبدعين رغم أن المفروض أن يكونوا في المقدمة ليقودوا تلك العقول الغافلة ولكن عقولهم صارت نتاج للرؤوس العفنة الحاكمة لهم , والرؤوس العفنة هم نتاج للبلد الذي صار امبراطورية على العالم أجمع
الحلقة تدور بالبلدان العربية كافة وتبدأ من أصحاب المعونة الخارجية إلى السلطات الحاكمة والأحزاب والنخب المثقفة, ذوي المصالح الذاتية ,لقمع الشعوب وحصرها في نطاق التخلف والعوز وانتظار المعونات وشل القدرات ليعلوا رصيدهم من التخلف والأموال ويغرقون أكثر في أنانيتهم

مواقف مثل هذه تشد عزمنا أكثر لمحاربة الفساد بشتى الطرق والإمكانيات فلا سبيل لبزوغ الشمس سوى الكشف عنها كما تفعلين
ولو تبادلت الأدوار معهم لحملتكِ على ظهري كما حملتِ هموم الإنسان المظلوم رغم إن فعل مثل لا يليق به كلمة هموم لأنه يرفع عن كاهلنا جميع همومنا لأنها تغسل ارواحنا من نرجسيتها ..أحيي فيكِ صمودكِ وقوتكِ .. وننتظر بفارغ الصبر الجزء الرابع من أوراقي حياتي واليوميات التي تدوينيها هنا


3 - فوق راسي يا استاذة
ماجدة منصور ( 2014 / 5 / 14 - 08:57 )
ليتني كنت في مصر يا أستاذة...كي أحملك فوق كتفي طوال عمري!!0
كل نبي في وطنه مهان.0
لك إحترامي


4 - رجل الشارع
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 5 / 14 - 13:13 )
ما حدث ياسيدتي في مستشفى مصر هو نفسه ما حدث لي في مستشفى المغرب . فالغريب في الأمر هو أن العرب كلهم محنة واحدة رغم اختلاف البلدان واختلاف الأنظمة . لكنها ثقافة واحدة هي من أسس لهذا الواقع المر . فهل هذه الثقافة تحتاج إلى تغيير جذ ري أم تحتاج فقط إلى إصلاح أو تعديل ؟ الجواب هو التغيير الجذري وبناء ثقافة جديدة أساسها الحرية والكرامة والمساواة بين الجميع . فأنا شخصيا أتفادى دخول الإدارات العمومية في بلادي فليست هناك إدارة واحدة مستثناة من التسيب
وانعدام النظام وتكريس المحسوبية الفساد عم كل شيء عندنا مما جعل الطبقة الكادحة تتكيف مع الواقع المر


5 - حلم العدل المصري المستحيل
عماد عبد الملك بولس ( 2014 / 5 / 14 - 13:42 )
كالكلب يطارد ذيله أو برغوثا ينهش جلده، هكذا نطارد العدل في أحلامنا

طالما ننتج للدنيا أبناء بلا مستقبل، فلا أمل في العدل


6 - امه العربان
على سالم ( 2014 / 5 / 14 - 13:46 )
من المؤسف ان مصر لن ينصلح حالها ببساطه ,لقد تمكن الداء تماما من الجسد ,مصر جزء من منظومه امه العربان الهالكه المتخلفه البدويه العفنه ,مايحدث فى مصر يحدث فى العراق وسوريا وليبيا واليمن وباقى الدول التى ابتلت بدعوه الحبيب المصطفى الصحراويه,هذا سرطان بدوى من الصعب الشفاء منه

اخر الافلام

.. أبرز القضايا التي تصدرت المناظرة بين بايدن وترامب


.. الرئيس الأميركي جو بايدن ومنافسه ترامب يتبادلان الاتهامات بع




.. هل يتنحى بايدن؟ وأبرز البدلاء المحتملين


.. توثيق اشتباكات عنيفة في رفح جنوبي قطاع غزة




.. آيزنكوت: يجب على كل الذين أخفقوا في صد هجوم السابع من أكتوبر