الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : لينافا أرملة الرب

بديع الآلوسي

2014 / 5 / 14
الادب والفن


كان يوما ً مفعما ً بالدفء ، ظلت فيه الطبيعة تحتفي بالجبل ، وهو يحاول إنضاج التين وأحلامنا . بعضنا كانوا يُزيّتون أسلحتهم ، فجاة ً اطلق ( هَجار ) بلهجة بهدينانية صرخته :
ــ أيها الموت أنتظر ، أنتظر حتى ننتصر .
كنا سريتين من الأنصار الشيوعيين ، نهيم في الجبال والدروب بحثا ً عن بطولة ما ، محتمين بالأشجار وتضاريس المكان كوسيلة لابد منها للتخفي ، وفي الموعد المحدد التقينا عند استراحة ( صندور ) المنعزلة في بطن الوادي
كانت كل مفرزة من مفارزنا القتالية تطلق على نفسها كلمة : سرية ، للتمويه على العدو . ولكن في حقيقة الأمر، أن كل سرية لم تتعد أكثر من خمسة عشر شخصا ً في هذه الظروف المعقدة ، كنا نُدرك أن العدو يتحين الفرص ليوقع بنا ، كما كنا نتربص به محاولين مباغتته والانقضاض عليه . لذا كان يتهمنا بالعصاة او المتمردين
بعد فترة وجيزة من التحاقنا بالجبل ، اختار مقاتلونا لأنفسهم تسمية : الأنصار، أما الحلفاء الأكراد فأطلقوا على أنفسهم : البيشمركة ، وكثير منا كان يعتقد بأن كفاحنا المسلح له علاقة بحلم يتعلق بمصير الوطن .
لذا بالتأكيد كانت ثورتنا لا تروق للسلطة ، لذلك تحاول بكل الوسائل التعتيم على عملياتنا العسكرية . لكننا بعد كل معركة حياة أو موت نخوضها نتساءل : هل سمع أهالي البصرة أو بابل أو .. كيف أصبنا جنود أو جحوش (1) العدو بالهلع . ما كان من شيء يستأثر باهتمامنا أكثر من التواصل مع الفلاحين المحليين الأكراد ، الذين لطالما كانوا يستغربون من مكوثنا في المكان و يوجهون لنا مثل هذا السؤال الذي يدلل على تعاطفهم معنا :
ـ لماذا تتحملون كل هذه المشقة ؟
طيلة فترة مكوثنا في مناطق كردستان المحررة (2) ، كنا في حذر دائم وكانت أرواحنا متوثبة وهي تواجه الموت . لكن وبالرغم من كل ذلك ، لم صبنا الوهن ولم نفكر سوى بالأمل ، موقنين بأن السلطة ستتداعى وستنهار لا محالة ، لكن متى ، وكيف ؟ هذا ما لم نتمكن من التكهن به . في تلك الحروب الصغيرة والكبيرة التي خضناها ، لم ننس أن أرواحنا الهائمة اختارت ذلك الواجب المقدس ، مؤمنين أن محاولتنا ستسهم في قلب المعادلة والعودة إلى بيوتنا سالمين . و كنا نردد متسائلين :
ـ ماذا نفعل أمام نظام يتباهى بالدمار والبطش ؟
المهم في الأمر أننا تركنا أهلنا وديارنا ووظائفنا ومباهج الحياة كافة واعتصمنا بالجبل ، مواجهين الصعاب والموت ، كما أننا اخترنا أن يكون لنا وللوطن هدف وحيد هو الحرية
هكذا نحن أذن ، محاربون متطوعون لا ننتمي إلى جيش نظامي ، والغريب في الأمر هنالك أكثر من نصير ترك نعيم الدول المتحضرة والتحق بنا في الجبل ، مقتنعا ً أن حضوره سيعطي للحركة ديمومتها وللتجربة قوتها ، وثمة بعض منا جاء من مدن العراق المختلفة هروبا ً من الظلم أو رفضا ً للحرب المستعرة .. وهكذا اقتضت الضرورة أن نكون جميعا ً بأسماء مستعارة حفاظا ً على سريه العمل وتمويها ً على العدو لكي لا يلحق الأذى بعوائلنا في داخل الوطن ،
لذا منا من سمى نفسه : حيدر كمكي ، وآخر أبو ميسون ، أو أبو روزا ، أو اسكندر ،أو سالم الصابئي، أو حازم ايطالي ، وكذلك هًجار باروشكي ، ذا التاسعة عشر ربيعا ً، بملامحه الكردية وروحه المتحمسة .
على الرغم من تباين أعمارنا واختلاف تجاربنا لكننا كنا عصبة واحدة ، أما أكثر ما كان يميزنا عن بيشمركة القوى المتحالفة معنا فهو تنوعنا فبيننا رفاق من العرب والكرد والتركمان والكلدو آشوريين السريان والأرمن واليزديين والصابئة المندائيين
وحين التقت السريتان الثالثة والسابعة لضرورات لم يكشفها لنا المسؤول العسكري او السياسي ، مما ترك الباب مفتوحا للتكهنات حتى ان بعضنا راح به الظن ان اللقاء لغرض مهاجمة موقع للعدو او اقتحام ربية للجحوش ، ومنا من حسم النقاش و قال :
ـ أيا ً يكن الأمر ، فاجتماعنا يبعث على السعادة ؟
بعد مضي عدة سنوات أصبحنا أكثر تآلفا ً مع الظروف الصعبة التي كنا نعيشها ، وقلما تبدو على وجوهنا أمارات التذمر باستثناء ذلك الحنين إلى الأهل والذي لم نجد له من مهرب ، منغمسين في تفاصيل لا تخص أحدا ً سوانا ، إذ كنا نقضي النهارات في تلك الأماكن التي غالبا ما نصل إليها مع شروق الشمس ، والتي كنا نطلق عليها تحببا ً: محطات الاستراحة . في تلك الأماكن الخلابة تركنا ذكريات كثيرة وعشنا ساعات جميلة لا تنسى ، مما أوحى لبعضنا أن يقول ضاحكا ً :
ـ يا لحياتنا من نزهة خطرة .
في حينها كنا لا نبالي بشيء ، نضحك ونتسامر ، وفي الوقت الذي كان بعضنا ينشغل بتحضير الشاي ، كان منا من ينزوي ليقرأ كتاباً او يسجل بعض ذكرياته ، وليس غريبا أن يخلد البعض للراحة أو النوم ، كما كنا في الاستراحات نوزع المهام ونضع الخطط لمهاجمة العدو .
نعم.. عندما نفكر بتجربتنا أو بحرب العصابات يخطف في بالنا ذلك الثائر الذي يدعى : (تشي جيفارا ) ، الذي اقترن اسمه بالثورة ، فلا غرابة ان يكون محبوبا ً بالنسبة لنا وحاضرا ً في مخيلتنا . لذلك كله كان بعضنا يحفظ عن ظهر قلب عبارته الشهيرة : أذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد ، سيفقد إنسانيته شيئا ً فشيئا ً . وبما أننا كالبراغيث كما يقول ، فإننا كنا نباغت العدو ونزعجه متى نشاء ، كذلك كنا نتوقع مفاجأته لنا في أي لحظة ، ولتجنب هذا الاختراق ، فأننا ما أن نصل إلى تلك الاستراحات حتى نوزع مهام الحراسة ونتناوب عليها ، والتي في الغالب تكون على قمة تله ، أما دور الحارس فهو أشبه ما يكون بجرس ألإنذار ، يرصد خلو السماء من الطائرات المداهمة وكذلك مراقبه السفوح التي حولنا خشية تسلل أو اقتراب العدو منا .
في كل الفصول ، ومع غروب الشمس ، كانت سريتنا الثالثة تأخذنا في حركتها صوب قرى تحمل أسماء غريبة منها : رأس العين ، كناصكي ، كوسه ، باخرنيف ، دوكري ، صندور ، لينافا ....…
كنا نسير نصف ساعة أو ساعتين أحيانا ً ، دون أن نسأل عن وجهة تحركنا ، فذلك أمر متروك لحذق المسئول العسكري اوالسياسي . مع ذلك ولمزيد من الحذر تكون مسيرتنا الراجلة أشبه بخيط متقطع ، بين رفيق وآخر مسافة عشرة أمتار تقريبا ً .
جولتنا اليوم انتهت بالوصول إلى الحدود المتاخمة لمناطق السلطة ، حيث قرية باخرنيف المحاذية للشارع المؤدي إلى مدينة دهوك .
على الرغم من أننا جميعنا لا يحب لغة السلاح إلا أننا أصبحنا مقاتلين بحكم الضرورة ، فمنا مَن تدرب عليه في لبنان ، ومنا من تعلم مهاراته في الجيش ، وبعضنا حصل على الخبرة من خلال تواجده مع المقاتلين .
كانت منطقة الدوسكي مكان عملنا وحركتنا ، وكنا نعدها ملكا ً لنا بجبالها ووديانها وحقولها وفواكهها وأنهارها وعيون ينابيعها ، ربما لهذا كنا نعد هذا المكان المنفلت من قبضة السلطة مكانا ً ساحرا ً ، حتى ان بعضنا كان يردد :
ـ يا لها من جنة واسعة ، خلقها الله ونسيها أكراما ً لنا .
كنا في لحظات الاسترخاء أو المشقة لم ننس شُهداءنا ، الذين كأنهم يقتفون أثرنا محذرين : انتبهوا من فخاخ العدو الملعون . هذا الهاجس لم يمنعنا من مواصلة مهامنا اليومية ، متحفزين للمفاجآت التي ستواجهنا . وفي كل مرة يصيبنا الوهن ، نتذكر إننا ضيوف على كردستان . ويقتضي الواجب علينا حماية الفلاحين الفقراء ، الذين كنا نعدهم حاضنة الثورة وزادها وحطبها الهش
على الرغم من حالة تفاؤلنا ، لكن ما أن وصلنا قرية باخرنيف حتى زاد خيالنا يقظة ً ، فوجدونا قريبا ً من مناطق العدو كان يثير في نفوسنا هواجس كثيرة ، ولكن تبقى رغبة اقتحامها حلما ً لذيذا ً .
بعد قرية باخرنيف تجاوزنا جدولا ً صغيرا ً ، وتوجهنا لقرية أخرى لا تبعد عنها أكثر من خمس دقائق ، تلك القرية هي لينافا المحاطة بالمرتفعات الصخرية والأحراج والتي يمر بمحاذاتها نهير موسمي ، لم يتوقع أي منا بأنها ستُنكب في صباح اليوم التالي بحدث يشبه لعنة القدر لا ندري ما قاله أهالي القرية بعد انسحابنا منها .. ربما قالوا :
ـ كل ما أصابنا من حيف هو بسببهم .
وربما قالت بعض النسوة المفجوعات :
ـ كل ما حَل بنا بسبب حظنا السيء .
كان بحوزة كل رفيق ثلاثة أو أربعة شواجير ورشاشة كلاشنكوف ، وبعضنا كان معه عفاروف أو بي كي سي ، وقسم منا يحمل رمانة يدوية آو( آر بي جي) ، كنا مخلصين إلى بعضنا البعض ، فدون ذلك يكون هلاكنا أمرا ً محتوما ً . كما كنا جميعا نردد في خلدنا :
ـ دون الإيمان بحلم النصر يكون وجودنا ضربا ً من العبث .
بعد الغروب ، عاد الرفاق شيئا ً فشيئا ً ، بعد أن قضوا أمسيتهم في ضيافة أهالي لينافا ، هذه القرية التي لا تتجاوز الثلاثين بيتا ً ، الأخبار حبلى بما يسر وما لا يسر ، لم نتوقع ما ينتظرنا ، وتحسبا ً لاي طاريء ، أوصينا الهاربين (3) في قرية باخرنيف أن يكونوا حذرين ويبلغونا بتطورات الموقف حال شعورهم بأي خطر أو تقدم للعدو .
من سوء حظنا ، إننا حدسنا بما سيباغتنا ، لكنا لم نُبال كثيرا ً ، ولم نبادر بوضع نقطة إنذار متقدمة . كنا نتوقع ان هذه الليلة المقمرة ستمر كآلاف الليالي الهادئة .
في بعض الأحيان ، كنا نسمع بتعرض فرد أو وقوع فردين في كمين للعدو ، فكردستان لا تخلو من العملاء والمندسين ، فأمرا ً كهذا وارد الاحتمال ، لكن وقوع سرية في فخ فذلك يُعد حدثا ً مفجعا ً ، أما وقوع سريتين في كماشة قاتلة فذلك يُعد كارثة حقيقية .
في الوقت المحدد بعد العشاء ، اكتمل وصول كل الرفاق إلى الغرفتين ، اللتين خصصتا لنومنا ، على أطراف القرية . وبما أنه ليس لنا ما نتسلى به ، لذلك هجع كل منا في فراشه ، وردد بعضنا :
ـ تصبحون على خير يا رفاق .
بعضنا تفوهوا بتعليقات وأسئلة نصف مسموعة :
ـ لو كان هنالك تلفاز لكان لهذه الأمسية طعم آخر .
ولما كان الزمن يمضي بنا ، لم يكن أمامنا سوى أن نحسن التصرف ، هكذا أبلغ كل حرس بنوبة حراسته ، وقبل السابعة مساء ً بقليل مضى الحرس الأول ، ممعنا ً النظر بما حوله ، مراقبا ً كل ما يهدد حياة الآخرين أو يعرض حياتهم للتهلكة .
هكذا انتهى ذلك الليل بسلام ، دون أن ندري إن ما ينتظرنا هو أعظم .
وجاء النهار وأنبلج ، حيث أدخلتنا الحياة بامتحان لم نألفه أو نكن نتوقعه ، نعم ، ودون أن ندري ، تمكنت قوات من الجيش بصحبة عدد من الجحوش كإدلاء من التسلل و تطويق قريتا باخرنيف ولينافا ليلا ً ، مال بنا الظن انهم قرروا مهاجمة القرية وحرقها ، ومنا من تكهن ان عملية العدو لها هدف وحيد هو: إبادتنا .
كانت لحظات صعبة ومفزعة ، كنا مستغرقين في أحلامنا ، حين استيقظنا على صرخات مضطربة تردد :
ـ القرية مطوقه ...انسحاب ..
هذا الخبر جاء به آخر الحرس ، حين رأى مصادفة ً رجالا ً غرباء يختفون خلف الأدغال ، ويتوعدوه بلهجة عربية واضحة :
ـ أقترب … اليوم نهايتكم .
ما أن علمنا إن العدو وضعنا في الهدف ، حتى تحفزت في ارواحِنا رغبة الانتقام والقتل ، لكن المشهد كان غامضا ً وملتبسا ً ، وهذا ما جعل الدقائق الأولى أكثر رهبة وذهولا ُ .
وفي هذه الأثناء جاء رجل طاعن في السن يتكأ على عكاز ، بوجه شاحب وعينين قلقتين ، وبكلمات مضطربة ، أشار إلى الجهة المقابلة للجبل ، ناصحا ً :
ـ من هنا ، انسحبوا .
علمتنا السنون الماضية أن الاصطدام المباشر بعدو يفوقنا عدد وعدة يعني انتحارا ً . لم نعرف لماذا لم يبادر ويهاجمنا ؟ ، إلا إننا وبسبب توتر الموقف ، تركنا غرفتا النوم على وجه السرعة ، وبعجالة تحزمنا بشواجير الرصاص وارتدينا أحذيتنا ، ولم نفكر إلا بشيء واحد هو : كيف سننجو ؟
في ذلك الصباح انتابتنا أحاسيس مُلتبسة ، حتى إننا لم نفكر ماذا يعني الموت . هول الصدمة ، جعلنا أكثر نشاطا ً وخفة في الحركة ، لحظة مغادرة القرية ، لم ينتبه أي منا مَن ترك وراءه من الرفاق ، جسامة الحدث جعلنا لا نلتفت الى الوراء .
المسؤول العسكري تحرك بحيوية مع حيدر كمكي للسيطرة على التلة ، لتأمين انسحابنا بأقل الخسائر . لكن بعضنا تأخر قليلا ً ولم يعرفوا بالضبط منفذ الخروج من هذه المتاهة . حقا ً، ضاقت دائرة النجاة ، لذلك ما ساور بعضنا هو : من سيخرج من هذه الشدة سيكتب له عُمر جديد .
أصبحت القرية مكانا ً للموت أو المغامرة . كذلك المجهول صار يحاصرنا هو الآخر بأسئلة تشبه الهلوسة ، شاقة وصعبه وبلا أجوبة :
ـ اللعنة ، أين العدو ؟ وكيف باغتنا ، وهل هو في القرية ؟ …
تسنى لبعضنا أن يتجاوز مجال الخطر ، وغدا تخطي النهير الموسمي والطمى انتصارا ً . كان الفزع يتغلب على الإنهاك ، كما ان رغبة الحياة انتصرت على الإعياء النفسي ، لم نركض سوى خمسين او سبعين مترا ً ، لكن ما يدعو للغرابة ، لا نعرف لماذا تركنا العدو نمر بسلام . ونحن نحاول تسلق ألتله ، سمعنا نداءات من سبقونا ، فأدركنا بان الحظ معنا . في خضم تلك الأحداث المتصارعة ، بعضنا ترحم على ذلك العجوز ، كونه انتشلنا من ذلك التيه . بعدها أجتاح صدورنا حماس غريب ، جعلنا أن لا نكون مكتوفي الأيدي ونواجه الموقف كما يجب .
كنا نتسلق التلة بحذر ، منا من رأى أفراد العدو ومنا من ظل بصره شاخصا ً إلى تلك الأدغال والأحراج التي تحصن خلفها الجيش والجحوش .
بعضنا تساءل مندهشا ً:
ـ مَن أرتكب هذا الفعل الشنيع وأخبر العدو بوجودنا ؟.
لكن بعضنا تجاهل ذلك ، متصوراً أن الأمر حدث عن غير قصد كما في الكثير من الحكايات التي تؤدي بها المصادفة إلى اكتشاف كنز او تتسبب بمقتل بطل .
بما إن التلة التي وصلناها كانت شبه جرداء ومكشوفة أمام العدو ، لذلك أصبح الموقف أكثر تعقيدا ً ، احتمينا بانحناءات الأرض التي تسلقناها ، وبعضنا وجد في الانبطاح وسيلة للتخفي .
وبدأت المعركة ، وغدا أزيز الرصاص سيد الموقف ، في بادئ الأمر كنا نحاول إسكات طلقات العدو ليتمكن بعضنا من التسلل إلى نقطة أكثر أمنا ً .
منا مَن كان يحث الخطى بقفزات خفيفة ، ومنا من خال هذه الواقعة مجرد كابوس ليس إلا ، كما ان بعضنا واجه الموقف بعناد وصلابة .
بدت تلك اللحظات كأنها تشير إلى حكمة مجانية تقول :
ـ إن البطولة تحتاج إلى نوع خاص من الصبر .
في منتصف المعركة غدت ألتله مكانا َ خطراً جدا ً ، لذا صار لزاما ً علينا الوصول إلى تلك الحفرة الكبيرة ، التي تحولت في تلك الساعات العصيبة إلى موضع قتالي آمن ، مَن سيصل إليها سيتجنب كثافة طلقات العدو الطائشة .
أدركنا حينها أن أي إطلاقة تصيبنا ستربك وضعنا وتجعلنا أقل قوة وحماسا ً .
استفزاز العدو أيقظ في نفوسنا كثيرا من الهواجس ، منا من أطلق سؤالا ً جزعا ً:
ـ ماذا بوسعنا أن نفعل ، هل نواصل الرمي ؟
لكن ، بما أننا لا نعرف ما سيواجهنا على نحو واضح ، لذلك كنا حذرين ومقتصدين بذخيرتنا ، متوقعين كل الاحتمالات ، التي ستؤول إليها تعقيدات المعركة .
ثمة شيء قد حدث ، مثل قدر مشؤوم ، تحرك سالم الصابئي محني الظهر محاولا الوصول إلى الحفرة التي لا تبعد عنه سوى ثلاثة أمتار ، أملا ً الوصول إليها دون أن يصيبه الأذى ، غير انه لم يفلح ، على الرغم من رمينا الكثيف على العدو .
في تلك اللحظة المغمومة ، مرقت رصاصة طائشة ، أصابته ، لم نسمع بعدها سوى صرخته الباردة التي تشبه الأنين :
ـ آآآه ...آآآآي .
القريبون منه شاهدوه وهو يدور حول نفسه كما في أفلام السينما ، على أثرها سقط قريبا ً من الحفرة ، هذا التداعي المباغت ، أعاق انسحابنا ، زحف بعضنا حتى وصل إليه ، كانت خاصرته اليمنى تنزف دما ً ، لم يكن سهلا ً الانتقام من العدو ، الذي غير مجرى الأحداث لصالحه . خاصة ً ، بعد أن جرح رفيقين آخرين بإصابات خفيفة . بدت تلك الساعات ثقيلة بزمنها الكثيف و المتغير .
في حضرة هذا الهياج ، أعصابنا المتوترة لم تسأل : ماذا يعني النصر ؟ لكننا وقفنا معا ً لمقاومة ما يحدث ، كانت أمزجتنا متعكرة بسبب ملامستنا للحافات الموت المدببة ، لم يدر بخلدنا إن الأمر الفضيع سيطاردنا حتى النهاية .
كان العدو يضحك علينا ، أو ربما أنه خائف مثلنا ، في نهاية المطاف تمكنا بصعوبة من الوصول إلى الحفرة ، ومع هدوء أطلاق النار استطعنا بعناد سحب رفيقنا الجريح . انسحابنا غير المنظم لم يساعدنا على الإجابة على تساؤلنا الصغير :
ـ ألدينا شهداء ؟
سكت أزيز الرصاص بعد أربع ساعات من المناوشات ، ما أن اعتصمنا بالجبل حتى تضاءل الخطر وقل توترنا ، منا من قذف الشتائم على العدو ، ومنا من اعتبر الحادثة واقعة ًسوف لا تنسى ، ولكننا جمعيا كنا متأكدين من شيء واحد هو : ان الحرب جولات ، وان كل معركة تحمل في طياتها امتحان و تجربة .
قبل الظهر بقليل صرنا نراقب حركة العدو عبر المنظار ، قد بدا المشهد جميلا ً ومثيرا ً بسمائه الغامضة ، كأنه يلفت انتباهنا إلى أن مواجهة الموت لعبة محفوفة بالأسرار . كان الحظ معنا ، حيث تركنا نتذكر ونردد :
ـ إن الحُر مَن يختار حلمه .
بعضنا آمن إن الضحكَ في لجة المأساة انتصار ، لذلك ومع شعورنا بالهدوء النسبي ولطرد الانزعاج صرنا نشعل سجائرنا منتظرين انسحاب العدو الملعون .
بعدها تحولت السكينة إلى موقف متوتر ، أثارت الحيرة والقلق في نفوسنا من جديد ، حال رؤيتنا تصاعد الدخان من قرية لينافا الجميلة ، الله وحده يعلم ماذا فعلوا بها ! ، توقعنا أن العدو الهائج كوحش كاسر أضرم النار في ببيوتها المسالمة ، وربما قتل أفرادا ً من أهلها أو أعتقل أناسا ً أبرياء .
هذه الهواجس زادتنا غما ً . على تلك السفوح الجبلية جلسنا بأحاسيس متناقضة وفرت منا المفردات ، شعورنا بأن لينافا ترتجف من الخوف ، زاد من إحباطنا وضاعف ذلك الشيء الذي دار في خلدنا ، آذ ليس مقدورنا فعل أي شيء . انتظرنا وصول قوة من الفصائل الحليفة الأخرى ، لكنهم أتوا متأخرين ، كل ذلك جعلنا ندرك أن العدو حقق هدفه في هذه الجولة .
قبل أن تأتي الطائرات ، جال في أذهان من كانوا على التلة ، تساؤل واحد هو : ألدينا رفيق ما قد حوصر في القرية ؟
في هذه الأثناء ، لم يكن للزمن من بوصلة ، أرواحنا كانت مستفزة ، ملامح وجوهنا المكفهرة طالها الإعياء ، حاولنا جاهدين ان نواجه الفاجعة كحقيقة لا مفر منها ، وأحسسنا أن الموقف مُتطفل بمفاجأة نحسة ، لذلك قال بعضنا بأسى:
ـ الذئاب الذين في لينافا ، هم أعداء لكل الوطن .
ما أن سمعنا أزيز طائرات الهليكوبتر ، حتى احتمينا بالصخور والأشجار ، في محاولة منا لتجنب خسائر إضافية . فجميعنا يعرف أن العملية قد انتهت ، وما حضور الطائرات إلا لتأمين انسحاب قطعات العدو المهاجمة .
بعد ان انتهت المعركة وتنفسنا الصعداء ، قرر بعضنا النزول الى القرية ، لمواساة أهلها ومعرفة ما حل بها . ما أن تسللنا و تجاوزنا النهير الصغير ، حتى واجهتنا امرأة تولول ، ما أن اقتربت حتى قالت :
ـ احد رفاقكم قد أصيب بين الأدغال .
موقفها النبيل أشعرنا بالخجل .. لكن ما شغلنا حينها ، مَن الذي أصيب ، وهل هو على قيد الحياة ؟ . هرعنا إلى المكان . كان الرجل الطاعن في السن الذي يتكئ على عكاز، يسبق خطواتنا ، حاملا ً بطانية ملونه ، في محاولة منه لتأدية ما ينبغي فعله شعرنا بأنه يمتلك رباط جأش أكثر منا جميعا ً .
ركضنا بين الأحراج يمينا ً ويسارا ً حائرين ، لنعثر عليه أخيرا ً ، وجدنا هًجار باروشكي ، ذا التاسعة عشر ربيعا ، طريحا ً ، كل ما كان يتمناه هو ان لا نحرك جسده النحيل ، جميعنا يعرف أن هذا الرفيق اللطيف ينحدر من أسرة فقيرة ، وأنه قبل ثلاثة شهور أختار لعبة التمرد والتحق بالثورة ، متلهفا ً للانغماس بتجربة اكبر من عمره ، مبتهجا ًبهذا التحول غير مبال برائحة الموت ، ربما لتتباهى حبيبته أمام كل الصبيّات : يا لفتى عمري من رجل جميل وشجاع ..
عندها قررنا نقله إلى مقر الفوج الثالث للعلاج ، كان يصرخ طوال الطريق ، بسبب تلك الشظية التي أصابت عموده الفقري .
هكذا خرجت لينافا من فم الموت لتحيا ، وتنبئ كل زوارها أن الله سيصب اللعنة على العدو . ولكي لا تفرغ الذاكرة من محتواها قالوا لكل الأطفال :
ـ يا أبطال ، انتم الأمل …...
ما أحوجنا اليوم للحزن
عزاؤنا كان يتمثل بذلك الإحساس المرير على رفيقنا هَجار ، الذي أصبح بعد أربعة أيام من صراع مرير تحت التراب .
أما سالم الصابئي فقد كانت أصابته خطرة ، وظلت روحه معلقة بين الحياة والموت ، بعدها …....

انتهت ــــــــــــــــــــــــــــ 4 /1 /2014

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجحوش : تسمية تطلق على المرتزقة الأكراد .
(
2) مناطق كردستان المحررة : هي المناطق المحاذية للمدن الكردية ، منها أنطلق الكفاح المسلح بين عامي 1979 حتى 1988

(3) الهاربين : تسمية تطلق على الرجال الرافضين للحرب ، الذين احتموا في المناطق المحررة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا