الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحاكم اخيرا ..

احمد العتر

2014 / 5 / 15
الادب والفن


_أخيرًا .. الكرسي الكبير هكذا قال لنفسه؛ بعد أن أغلق عليه كبير الياوران باب مكتبه الرئاسي بالقصر الكبير على أطراف العاصمة، المكان الذى اختاره خصيصًا لهدوءه وبساطته وروعة الحديقة التى يحب أن يقضى فيها وقت الغروب لممارسه التامل الذى يحبه ويمارسه منذ طفولته، متأملا جمال الطبيعة الرباني.. كانت الغرفة مضيئة بفعل أشعة الشمس التى تخللت من نافذته المفتوحة، رغم الإصرار الأمنى على غلقها فتوصلوا أخيرا لإسدال الستائر بدعوى الحفاظ عليه، ولكن يبدو أن ضوء النهار الفاضح يدخل إلى الغرف المغلقة بأسرار قديمة منذ الأزل لينيرها، وينبئ ببداية عصر التنوير الذى بشر به الناس وحلم به شخصيًا. مكتب فخم من طراز لويس الرابع عشر مع فوتيه أنيق لا يعرف طرازه ولكنه ينتمى لأحد الملوك أيضًا ذكَّره بشقته القديمه فى حي السيدة زينب، وأيام دراسته الجامعية، وكيف كان يستخدم الكرسي كمكتب لحوالى ثلاث سنوات إلى أن عقد صفقة صغيرة مع بائع الخردة فحصل بفضلها على مكتب لا بأس به، نجاه من إنحناء الظهر. ابتسم بزاويه فمه اليسري كما تعود، كان توزيع الأضواء والمصابيح يبهجه حقًا، وقد زينت الغرفة بلوحات سريالية لم يفهمها وإن بدت تنتمى إلى الفن الحديث الذى يقدِّره ولا يفهمه، إنه يحتاج إلى لوحات جديدة .. أخذ يبحث فى حقيبته عن مفكرته الصغيرة، التى تعود أن يحملها منذ سنوات نسى عددها فلم يجدها، نظر إلى المكتب أمامه فوجد مفكرة أنيقة معنونة من الأعلى باسم "رئاسة الجمهورية" بجوارها قلم فخم ماركة رونسون. لا بأس، فلن تضيف الماركات والخامات من قيمة الكلمات وهو أدرى الناس بذلك فكتب : ملحوظه رقم 1: تغيير لوحات المكتب بلوحات .. ثم شطب العبارة وكتب: تغيير لوحات القصر والمكتب بلوحات للفنانين المصريين المعاصرين، كمحمود سعيد وشعلان وعبله وغيرهم، واعتماد الإحلال التدريجى فى كافة المبانى التى تتبع الرئاسة لتحويل اللوحات العالمية إلى لوحات محلية لفنانين مصريين قدامى أو معاصرين
. يعجبه الكرسي فعلا .. وفكرة أن هذا الكرسي الكبير هو الذى جلس فيه محمد على والخديو إسماعيل والملك فاروق وناصر وغيرهم ممن حكموا مصر، تزيده إرتعاشا، خاصة عندما أدرك أن ما يفعله الآن هو نفس ما فعله مينا ورمسيس الثانى وتحتمس الثالث، وكل الفراعنة العظماء، تأثر حتى التمعت الدموع فى عينيه، فأغلقهما، وذهب بخياله إلى يوم بعيد مضى، عندما كان طفلًا صغيرًا فى التاسعة، وقد اعتاد على الإنتقال مع والديه فى محافظات مصر؛ لطبيعة عمل والده كمهندس كفء فى إنشاء المحطات الكهربائية، وكيف شعر بالغربة فى هذه المدينة الصغيرة منذ اليوم الأول؛ لافتقاده لمكتبة جده الكبيرة التى كان ينهل منها فى الأعوام الثلاثة السابقة، منذ تعلم القراءة بفضل أم مثقفة دفعته للمعرفة قبل حتى إلتحاقه بالمدرسة .. ذهب إلى المكان الوحيد الذى قد يجد فيه مكتبه بعد أن أضناه البحث فى الشوارع "قصر الثقافة" وكان مبنى مهيبًا وكبيرًا، قامت ثورة يوليو بتأميمه من أحد الأمراء السابقين، لتحيله إلى قصر ثقافة، وقاده الاهمال إلى مبنى متهالك فقد رونقه وجماله القديم، وأصبح رمزًا لكآبة عصر الثقافة الحكومية المؤممة. دخل من الباب الكبير وهالته ضخامة القصر من الداخل، ولكن مساحة مجدبة فقيرة لم تُفرش بسجادة ولا يوجد بها لوحة واحدة، اللهم صورة مؤطرة لديكتاتور دميم كان يحكم فى هذا العصر، ويشبه بارونات المخدرات فى باراجوارى، اسمه "مبارك"، وقد ثار ضده هو وسط الملايين من الشباب رفاقه فى الثورة الأولى التى حدثت في يناير 2011، قبل ان يدخلوا فى عصور أكثر ظلمًا وظلامًا؛ استلزمت خوض عدة ثورات متتالية .. تحت الصورة الكبيرة جلست كبومة عجوز موظفة حكومية أربعينية إلى مكتب ألوميتال صغير، تحيك شيئًا ما بأبرتي تريكو طويلتين، مشى إلى مكتبها وهو يرتعش فقد كان طفلًا خجولًا، ثم سألها متوترًا بصوت متهدج : لو سمحت المكتبه فين ؟؟ مرت دقيقة من الصمت، مضت عليه كعصور من الظلام، ثم تنحنح وقال بصوت مرتفع قليلا: عايز المكتبة لو سمحت؟ فرفعت البومة رأسها عن فريستها وحدقت فيه بنظرة من خلف زجاج نظارتها السميكة، وبضحكة ساخرة باردة لم ينساها فى حياته؛ قالت بصوت كفحيح بومه: مكتبه !!!، الطرقة دى امشي فيها تانى أوضة، روح هناك واسأل هيقولولك ... ثم انكبت ثانيًة على فريستها بأبرتي التريكو، بدت وكأنها تطعن أيامها الرتيبة المملة حتى كادت تقطر دمًا فى يدها، وليست مجرد حياكة شيئًا ما لحفيد ... سرت فى الطرقة الطويلة الجرداء، حتى سمعت صوت موسيقى، ظهر لى كأنه وحي لنبي تائه، يبحث عن إله، مضيت أركض تجاهه، فوجدت رجلًا سمينًا، يرتدى حذاء باتا أبيض "كوتشى" يحمل كرشًا ضخمًا، ويرتدى باريه أسود يدارى صلعة سمراء، وجهه غليظًا، كان يوجه مجموعه من الشباب، فتيان وفتيات بدوا كفراشات مذعورة أمامه، كانوا يرقصون رقصة عرفت بعدها أنهم فرقه الفنون الشعبية، وأن مدربهم ذلك الذى ضحكت منه؛ هو الكابتن محمود نوارة، أو "عم نوارة" كما يسمونه، وهو صاحب النشاط الفنى الثقافى الوحيد فى هذا القصر، بل وهذه المدينة، حتى أنه يتكفل بمصاريفهم من جيبه الخاص، لأن الوزارة لاترسل سوى قروش، وأنه برغم كل معجزاته؛ لم يستطع أن يعلمنى الرقص كما أراد، لأنى "مخشب" كما صرخ وهو يسب لى الدين كعاته، ولكنه علمنى أن الموسيقى الفقيرة لأوكورديون فقير؛ قد تمنح اشياء عظيمة كالحياة والحُلم لصبي كاد يموت غربًة فى بلاد غريبة
. عاد إلى الواقع الذى يعيشه الآن، فخورا بنفسه، وقلب الورقة الأولى من المفكرة المعنونة أمامه باسم "رئاسة الجمهورية"، وكتب على رأس الورقة الثانية: "قرار بقانون: الغاء وزارة الثقافة، رفع ميزانية التقافة المصرية، وإنشاء مفوضية لإدارتها تتكون من الكتَّاب والمثقفين الآتى ذكرهم، وأخذ يكتب اسمائهم وهو منتشي، أنه بصفته الرجل الكبير الآن؛ يثأر لبلده وشعبها ويمنحهم حقا سرق منهم لعصور، ويقتنص لأساتذته حقا لهم؛ وكانوا ظنوه قد نسي، ويرد الاعتبار لثورة ظنوها قد ماتت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا