الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل نجوت ...؟

جوتيار تمر
كاتب وباحث

(Jotyar Tamur Sedeeq)

2014 / 5 / 18
الادب والفن


هل نجوت..؟
جوتيار تمر
كانت القرية تعيش حالة من الفوضى جراء سماعها بتحرك قطاعات من الجيشين النظامي والشعبي إليها، بدأ الكل يبحث عن الاخر ليعلم ماذا يفعل وكأن الجميع فقدوا في تلك اللحظات القدرة على اتخاذ قرار مناسب يجنبهم ويلات ما هو آت.. اصيبوا بالدهشة وهم في تلك الفوضى وقد أحاطت القوات تلك بهم، وأصبحت الطائرات تغطي سمائهم..وما لبث الدخان يتصاعد من كل مكان..جثث محترقة.. وجوه شاحبة..عيون حمراء.. افواه تتقيأ.. وأثناء ذلك سيارات تملئ المكان.. فيساق من نجى اليها..سيارات مغلقة تماماً لامجال للتهوية فيها سوى نافذة صغيرة لاتكفي.. كلار وديانا طفلتان ضمن هذا الموكب الشنيع..الاولى لم تكمل ربيعها الثامن والثانية في سنتها العاشرة..شاهدتها وهي تمسك بيد أختها وتلتصق بها وكأنهما توأم.. الجميع في هلع وصورتهما بذهني هلع آخر..شاهدت كلار حين ارتطم رأسها باحدى حافات السيارة من الداخل فعلى الرغم من الظلام داخلها إلا أن وميضاً كان يتسرب الى داخلها من تلك الفتحة التي كانت في سقف السيارة.. نهضت لامسكها فوجدت قدماي لاتحملاني..لكني تغلبت على عجزي ووصلت إليها بشق الانفس اذا برأس ينزف حاولت ان امسح الدم لكني لم اقوى كانت قواي تضعف فالاوكسجين داخل تلك السيارة لم يكن ليكفينا ونحن فوق العشرين شخص داخلها..شعرت ببرودة يد كلار ادركت حينها بانها فقدت الحياة..ولااعلم كيف صمدت ديانا..التي سرعان ما عرفت فوفاة اختها لاحظت دموعها..شعرت بصرختها الداخلية التي ارادت من خلالها ان تشكو الارض والسماء..شعرت بحرقتها..شعرت ببرودة جسدها بعدها بلحظات لاسيما انها سقطت مباشرة عليّ..كم شعرت بالهوان وانا حينها لم استطع أن أرفع يدي لامسكها قبل ان تسقط..وكم شعرت بالموت عندما ايقنت بانها هي الاخرى قد فارقت الحياة..مضى الوقت..ونحن لم نزل نسير على طريق فيه مطبات كثيرة.. فجأة توقفت السيارة وفتح الباب الحديدي على مجزرة من نوع اخر..ظننت بأنهم أخذونا إلى سجن ومعسكر كما كانوا يفعلون عادة..لكني وجدتنا على حافة حفرة كبيرة ممتلئة بالجثث..لم اكن افرق بينها لكونها جمعت الصغير بالكبير الرجال بالنساء..رائحة الدم تملئ المكان..واصوات البنادق وهي تطلق نيرانها يصدع كل شيء..وما هي الا لحظات واذا بهم يرموننا في الحفرة، الاحياء منا والاموات..فسقطت على حافة الحفرة وشعرت بجسدي يتكسر وانا انقلب الى الهاوية..اظنها كانت عميقة جداً لتستوعب كل تلك الجثث..سقطت وجهي..فوجدتني سقطت على جثث متراكمة وعلى يميني وجدت ديانا الصغيرة قد انغمست بدماء الجثث..وما هي الا ثواني حتى بدأ الرصاص ينهال كالمطر..اصابت احدى الرصاصات رأس ديانا الميتة اصلا.. ولاني كنت على الحافة لم تصبني احداها..لكني من شدة الوقوع كنت قد لصبت بالتواء في ساقي الايسر..ورضوض في باقي جسدي..تمالكت نفسي لحين انتهاء الرصاص.. بقيت على وضعيتي دون حراك لاني لم ارد ان يشعروا باني لم ازل حياً ومن حسن حظي كان النهار يسدلبستائره لتمتزج العتمة بالارواح الصاعدة ورائحة الموت والدم المتناسل داخل تلك الحفرة. حيث أخذ ملك الموت استراحة والجنود قد عادوا إلى مخيمهم المرابط للحفرة وكأنهم كانوا ينتظرون المزيد لهذا لم يطمروها بالتراب.. فقدلاحظت بأن تحت الجثة التي وقعت عليها تراب وبعض الاكف خارجة منها..انتظرت لحين انتصاف الليل تقريبا قبل ان اقرر البحث عن مخرج..واستطعت بعد جهد ان اتحرر من الجثث تلك وازحف ببطئ نحو الاعلى..من خلال طريق خاص ينزل منه الجنود ليتأكدوا من موت الجميع، لااعلم كيف استطعت ان اتجاوز الحراس.. لكن ما اعلمه جيدا هو ان رائحة المكان كانت تكفي بأن يعلم الانسان على بعد مئات الامتار بوجود آلة موت خاصة تجيد القتل هناك..بعد مسير لما يقارب الساعة والنصف شاهدت بعض الاضواء صادرة من وادي..فاتجهت نحوها وانا لااعلم اذا كانت لاصدقاء او لبعض زبانية الموت هولاء الذين تحررت منهم.. كنت لا اشعر بساقاي من شدة التعب لكني تحملت لعلي انفذ بجلدي واصل.. اقتربت فوجدت الانوار تنبعث من (دير) صغير توجهت اليه مباشرة وطرقت الباب ففتح لي قس لم ازل احتفظ بملامحه في ذاكرتي.. قس في الخمسين من عمره تقريباً ابيض البشرة لحيته بين بياضها وبعض الشعيرات السودء فيها توحي بوقار..متوسط الطول.. شاهدني فتوجه بسرعة اليَ وامسك بي قبل ا ن اقع، قلت له انقذني..فاخذني الى حجرة داخل الدير وطلب من بعض رفاقه ان يأتوني بماء..شربت رشفة فشعرت بالحياة تعود اليّ وكأني لم اشرب ماء من اسابيع.. لم اشعر بعدها بنفسي..وحين استيقظت وسألت أين أنا..قال لي القس انك بأمان فانعم بالراحة..اتوا ببعض الاكل لي وعندما انتهيت قال لي هل انت مرتاح الان..قلت نعم..فقال لي عندما تستطيع الحديث قل لنا ما حدث لك.. فقلت استطيع الآن..فرويت له القصة اكملها..دون ان اخفي أي تفصيل لكونها محفورة بذهني..قال لنصلي للرب بان يمنحهم الخلود والرحمة.. ارتاح الان فانت تحت رعاية الرب..اظنني بقيت عندهم في الدير لاسبوع قبل ان تداهم قوات الجيش تلك القرية ايضاً فحملوا اهلها جميعا بمن فيهم انا والقساوية والاطفال والنساء والرجال الى تجمع قسري، وظنوا وقتها باني قس في الدير لانهم لو علموا باني هارب من جحيمهم" حفرتهم" لتخلصوا مني بسرعة، فسياستهم تقضي بعدم ترك ادلة واثار تشهد على جرائمهم.. وجدت داخل ذلك التجمع اطياف من الناس حيث وكأنهم تعمدوا جمع الاطياف الدينية داخله، كان التجمع عبارة عن بيوت قديمة لاتكفي سوى لأربعة اشخاص وقد اقحموا فيها ما يقارب العشرة اشخاص.. وقاعات كبيرة كانت كما بدا لي المعسكر تابع للجيش من قبل..وقد اقحم في تلك القاعات المئات من الارواح بدون ماء وأكل وأي شيء من مقومات البقاء.. بعد أيام في ذلك التجمع..شاهدنا تحركاً غريباً وسمعنا بانهم يأخذون المسيحيين والايزيديين وهولاء كانوا في التجمع قبل جلبنا اليه فكان عددهم كبيراً قياساً بنا بالمسيحيين.. وبالفعل تم ترحيلهم جميعا ومن ضمنهم القساوسة الذين ساعدوني.. لم يعرف أحد اين تم اخذهم.. وحتى بعد أن نجونا وحين عدت لتلك القرية لأسأل عن القس "شليمون" وأصدقائه.. لم يعرف احد عنهم شيئا فكل من عاد الى القرية كان ممن استطاع الهرب اثناء المداهمة لانه كما فهمت لم يكن هناك من ناجي.
ابقوا علينا نحن فقط في التجمع حيث بدأوا بتصفية الرجال شيئاً فشيئاً.. وبعد أسابيع من الترحيل والترحال بين معسكر إلى آخر..استطعت أنا وبعض الرجال الآخرين من التسلل والهرب بعد ان وقعت حادثة قتل عشوائي في احدى المعسكرات.. فمررنا بإحدى القرى لعلنا نجد فيها أحداً إلا انها كانت ركام والجثث المحترقة قد تعفنت ورائحتها تغطي المكان كله.. فخرجنا منها متوجهين الى الحدود ومن حسن حظنا ان ابو علي احد الرجال الذين نجوا معنا يعرف تلك المناطق فقادنا الى الحدود وعبرناه.. وسلمنا انفسنا إلى قوات تلك الدولة فأدخلونا الى معسكر وبقينا هناك الى حين أصبح بامكاننا العودة.
مضى على تلك الاحداث سنوات..الا انها لم تزل مشاهدها تدور في رأسي وأمام عيني كأنها أمس.. ذاكرتي لم تفرط بأية تفاصيل يمكن أن تخفي تلك الجرائم أو تخفف عن أبناء الحقد والدم العنصري ما يمكن أن يخرجهم من دائرة التعمد في القتل والإبادة الجماعية..فهولاء بحق كانوا صورة حية لكل الحقد المزروع في قلوب أسيادهم تجاهنا لكوننا لاننتمي إلى عرقهم..كنت منذ أول خطوة تخطيتها خارج الحفرة وإلى الآن أتساءل ترى هل نجوت..أم إني أعيش وهم النجاة.
14/7/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة