الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصرة عام 11 (الحلقة الرابعة)

حيدر الكعبي

2014 / 5 / 20
الادب والفن


ولكنْ أيةُ بصرة؟
واتسعت غرفتي الصغيرة بزيارة المزيد من الأصدقاء. الشاعر مجيد الموسوي تلبّث عند الباب ليرى إن كنتُ سأعرفه. شفتاه تغالبان الابتسام. "دعوه،" قال يسكت الأصواتَ الملقِّنة. وحين أطلت التحديق فيه طوى نظارتيه ودسهما في جيب قميصه، وأضاف "وها قد خلعتُ النظارة." لقد وخط الشيب شعره، لكن عينيه مازالتا طفلتين، مازالتا سوداوين ومضيئتين ويقظتين. قلت: "مجيد . .؟" فأشرق وجهه بابتسامة. ومجيد الموسوي هوالشقيق الروحي لعبد الخالق محمود. كلاهما كان مدرساً في معهد المعلمين، وكلاهما شاعر مقل، زاهد،عاشق للظل. قال لي عبد الخالق مرة: "كنا—مجيد وأنا—ندخل على مدير المعهد، هو من اليمين وأنا من اليسار، هو يمسح الغبار برفق عن كتف المدير الأيمن، وأنا أنفخ بلطف على كتفه الأيسر. فيقول المدير: خلصوني شعدكم؟ فأقول (برقة بالغة): بصراحة، أستاذ، مجيد وأنا نرغب في تمضية الظهيرة في ركن هاديء نحتسي فيه شيئاً من الخمر العراقية. فيقول المدير: ومن شوكت تطلبون إذني؟ فأقول: الواقع، أستاذ، أننا أحوج الى شيء آخر (ويفرك سبابته بإبهامه)، فيقرضنا نقوداً." آه، يا عبد الخالق. لكم تمنيتُ لو كنتَ جئتَ مع مجيد، ولو كنتَ بددتَ حيرتي بقهقهتك المدوية: "من قال إنني مت؟ متى كان هذا؟ ها، ها، ها . . لا، هذه قوية فعلاً."

ثمة وجوه شابة ألتقيها للمرة الأولى: واثق غازي، عادل الثامري، صفاء خلف، هيثم جبار. لقد أرضى غروري أن يكون اسمي مألوفاً لهم. وبالمقابل، هناك شعراء من جيلي لم يبدُ عليهم أنهم سمعوا باسمي كهاشم شفيق الذي قدمني إليه عبد الباقي فرج فجادَ عليَّ بمصافحةٍ فاترة. وفي يومٍ تالٍ سألني إن كنتُ المسؤولَ عن إصدار هويات إتحاد الأدباء، فاكتفيت بالابتسام، وتطوع عبد الباقي بالإجابة.

في الصباح التالي تناولتُ الإفطار في كافتيريا الفندق مع علي نوير وعبد الباقي. الأول أعرفه منذ عام 1970، أيامَ كنتُ أُتأتيء بالشعر وكان هو يتحدثه بطلاقة. إنه إحدى الأشجار الخضراء القليلة المتبقية من حديقة شعرية زحفتِ الصحراء على بعضها واقتطع الحطابون بعضها الآخر. أما عبد الباقي فكنتُ رأيته آخر مرة في بغداد في الثمانينات، الزمن الذي حلَّتْ فيه المشانق محل ربطات العنق. تنظر فلا ترى سوى أوداج المذيعين المنتفخة وعيونِهم الناطّة، وتنصت فلا تسمع سوى المارشات العسكرية. قلت حينها: "كيف الحال؟" فردَّ مقتبساً سعدي يوسف: "المشتهى ما انتهى." قلت "تناولت الإفطار" ولست واثقاً أنني تناولته. كان هناك بيض وزبدة ومربى وخبز. لكنني كنت أَجْوَعَ الى الكلام مني الى الطعام. وفيما نحن كذلك، أقبل عبد الكريم كاصد هاشّاً باشّاً ودعاني لشرب الشاي. هذا الشاعر يذكّرني بنيكوس كازانتزاكيس:"حياتي صرخة، وكتاباتي كلها تعليق على هذه الصرخة." قلما وجدتُ شاعراً انعكستْ حياته في شعره بمثل هذا الوضوح. كانت آخرُ مرة رأيته فيها عامَ 1978 عند مدخل مقهى البرلمان ببغداد. يومها فوجئت، وأنا أخرج من مغاسل المقهى، بالشاعر الراحل مهدي محمد علي يجلس وحيداً على مصطبة قريبة من المطبخ مواجهاً التلفزيون وظهره الى الشارع. كنت طالباً في كلية الشريعة، وكانت عناصر من الأمن الطلابي تتعقبني. لم أشأ أن ألفت انتباههم الى مهدي، فحييته تحية موارَبة دون أن أتوقف عنده، واتجهت نحو الباب. سمعته يقول: "استريح،" فلم ألتفتْ. لم يخطر في بالي أنّ تلك ستكون آخرَ مرة أراه فيها. ثم، على بعد أمتار من المقهى، حانت مني التفاتة فلمحتُ عبد الكريم يهم بدخولها. لقد انجمدتْ صورته وهو يتجه الى باب المقهى في ذاكرتي كما في شريط فيديو تم إيقافه. وها هو، بعد كل تلك السنوات، يستقبلني بذراعين مفتوحتين وابتسامة عريضة.

ضحى ذلك اليوم خرجتُ بكاميرتي مع عادل مردان وعبد الباقي. اخترقنا شارع الوطن طولاً باتجاه نهر العشار. كنت أرغب في شراء عصّارة بنسلين لطفحٍ جلديٍّ في إحدى ساقَيّ. دلّني عبد الباقي على صيدلية قرب (عمارة النقيب). في داخلها فتى دون سن الحلم، نحيف،مستقيم كالقصبة. قلت: "عمي عندكم بنسلين؟" كان جوابُه أنِ التقطَ من رفٍّ الى يمينه علبةً بطول اصبع الطباشير وصفقها على الدكة التي أمامه صفقةَ (صاي) الدومينو. وأصابتْني عدوى ثقته بنفسه فدفعتُ ثمن العلبة بلا نقاش دون أن أعرف هل هي دواء للعيون، أم للجلد، أم زيت مكائن.

عند رقبة جسر الأميرالتقطتُ صورة لـ (مقام علي)، فعبَرَ الشارعَ شرطيٌّ نحوي. قال: "حبيّبْ ليش تصوّر؟" قلت: "ليش؟ التصوير ممنوع؟" قال: "إي ممنوع." لم تكن هناك قطعة تشير الى منع التصوير. ولم يكد الشرطي يعود الى موضعه حتى لمحتُ، عند مدخل مبنى الجوازات القديم، رجلاً كهلاً يرتدي دشداشة وسترة، السترة تصل الى الركبتين والدشداشة أطول بشبر واحد، وطاقية رأس بيضاء ونعالاً جلدياً من ذوات الإصبع، وكنت أظنها انقرضت، وفي يده اليمنى مِسبحة خرزاتها بكبر البلح ولون الشاي، وفي اليسرى سيجارة محتضرة تكاد جمرتها تكوي أصابعه، ينظر الى الكاميرا بارتياب. بدا لي أنه كان قد شمَّ الكاميرا قبل أن يراها. سمعته يقول كابحاً السعال: "خير؟ شكو؟" طَمْأنْتُه الى أنني من سكان المنطقة القدامى، وأنني أصوّر البناية لا سكانها، فهدأتْ وساوسه. ذكّرني هذا بفيلم (الأهوار) لقاسم حول. ففي أحد مشاهده تبدو امرأة عجوز مُعَصَّبة تتقي الشمس بيدٍ متغضنةٍ موشومة وتقول للمصور: "يُمَّه مالْكَم؟ نسوان عرايا ضرايا . ." لكن، بعد أن ينجح كادر الفيلم في كسب ثقة الأهالي، تظهر النسوة وهن يردحن هازجات: "ها النوبة الفن گام يگص."

أجّرنا زورقاً بخارياً اتّجهَ بنا شمالاً صوب سايلو الحبوب. كانت الشمس في مرحلة الإحماء. وفي رأسي استيقظتْ ذكريات (الكسلات) والأبلام العشارية ذوات النهايات المعقوفة الملونة. ذات كسلة غفوت في الماطور. وحلمت أن أحدهم يصب سطلاً من الماء فوق رأسي. صحوت على رشقة ماء عنيفة. رأيت بلّاماً يخرج من المياه الخضراء ويمسك بالماطور من الجانب الذي أجلس فيه، والماطور يترنح تحت ثقل البلّام. ورأيت النهر يفتح فكّيه الخضراوين عن هوة داكنة، في أعماقها يربض (عبد الشط) ويتطلع إلي بعينين كبيضتين مسلوقتين، ورأيت أسماك القرش تشق بزعانفها جلدة الشط كما لو بمشرط، ورأيت لعابها الأزرق يسيل من أشداقها الشقّية الشبيهة بحدوات الخيل. وسمعت البلام يقول: "عمي آنا أريد بليمي." كان ماطورنا قد صدم بلم الرجل وهشَّمه. كان ذلك عيداً. وكانت الشمس كسولاً وبريقها لا يؤذي العين. والناس يحملون دفوفاً وصنوجاً وطعاماً في أكياس. وهناك زينات من الورق الملون وضجيج كثير. ورحت أتأمل شط العرب الآن. رحت أتأمل ألسنة أمواجه الرمادية، ورغوة زَبَده الأُجاج. تُرى ما الذي يرسب في قاعه؟ حشوات قنابل؟ بنادق صدئة؟ رمانات يدوية؟ ألغام؟ أسلاك؟ الحرب معلقة في الهواء كالقدر، أشمها حيث أذهب، كجثة حيوان لامرئي. هذا الشط الهائل، الذي كانت تعبره البواخر العملاقة والمهيلات والدُوَب والماطورات والطبگات وطلاب الجامعة وطالباتها، بدا مهجوراً، معبوثاً به، أشعثَ، مبهذلاً. وبدا النخيل كئيباً عقيماً حائل اللون. هنا وهناك نخلة معزولة. هنا وهناك نخلة جرداء تماماً، جذع بلا رأس. " لا أريد أن أراه،" ردّدتُ قول لوركا في سري. وأدرت وجهي الى داخل الماطور، الى عادل وعبد الباقي. وجّهتُ إليهما الكاميرا ورحت أماطل وأؤجل التقاط الصورة حتى اصطدتُ ابتسامتيهما. هنا البصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل