الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحطة - قصة قصيرة

محمد جهاد

2014 / 5 / 29
الادب والفن


في محطة قطار القرية المنسية لا شيء سوى مصباح متدلي من سقف باحتها، خافت الضوء، مترنح، يستجدي السكون والريح التي بلون الغبار تكاد تقتنص منه ما بقي له من بريق.
لا مسافرون يثيرون الضجيج ولا حتى طير اضاع اهله يهفو مضرجا بالحنين وينوح مستنجدا، حتى جدران المحطة خلت من شتائم الصبية والسياسين المتصابين وقد بدت حائرة هي الاخرى وكانه معبد هاجرت اصنامه قبل ان تعبد.
تشتد الريح لتخفت قليلا ثم تشتد، والنواميس باجنحتها التي غدت بلون الغبار ما تكاد تقترب من الضوء الا وتكون نادمة على يوم ميلادها في تلك القرية التي عطش نهرها قبل ساكنيها.
اوراق الاشجار اليابسة تندفع للرقص بين ناصية وناصية بدوامات متلاحقة وتهفو لتطير قليلا ثم تهوي من سكرة الموت الساكن فيها لتمسح بوجنتيها المتكسرتين ارضية الرصيف الذي ما عاد يجدي الاعتناء به.
ها هو القطار المبطيء يجتاح صمت المحطة المريب بهدير صافرته الازلية النائحة وتمتمات عجلاته التي تزلزل الارض وتوقد النار في احزان الناس القاطنين في الجوار، النائمون اليقظون الذين اعتادوا سماع قصائد واغاني تشجب جبروت هذه الصفائح الفولاذية المطرزة بالنوافذ المهترئة أطرها، وقصص و روايات عن سرقة القطار اللعين لاحبتهم، غيداء وحمد والريل وما ادراك ما الريل.
يتقدم القطار ببطيء شديد مقتحما ظلمة الليل بمصابيحه الساطعة فتدق اجراس المحطة سبع دقات متلاحقة لتعلن وصول المارد الجبار الذي لا يملك سوى القسوة والصياح ونفث البخار ولا يقوى على السكون دون ان يسمع الدنيا صرير انزلاق دوالبيه الحديدية فوق سكته الفولاذية التي ترافقه اينما ذهب.
يقفز الفتى ذو الحزام الجلدي الاسود الغليظ من المجهول، حافي القدمين، بشعره الفاحم المغبر مهرولا نحو باب القطار حاملا في جعبته ما قد يسوّقه الى الركاب الحالمين بالوصول الى الضفة الاخرى في فجر الغد حاملين معهم احلامهم واشواقهم وهمومهم وحتى اوهامهم.
ما كاد يصل الفتى اليافع الباب حتى فتحت على مصراعيها وبانت الوجوه التي اصابها الخدر من سطوة الكرى ونشوة الوسن متاملة ان تشتري مما حمل من طيب اهل قريته وبراعة انامل امه الشيماء التي ما زالت تسكن بيت الطين وفي الصباح تعجن فضلات البهائم بالقش والتبن لتوفر الوقود لخبزها.
انتفض الشيخ المتجمد الملتحف بعبائتة المتهرية من خلف كومة من احجار البناء المركونة قرب الجدار متفحصا الوجوه كجندي يستطلع من ملجأه الشقي حركات العدو المريبة، يبقي راسه فوق ساعده المستريح على كومة الحجر في وضع لا يدل على قرب المعركة، وحتى اجفانه السمر التي اعتلتها خطوط الطول والعرض ما زالت رغم سكرتها المعلنة للجمهور تتيح له الرؤية بوضوح.
دقائق ودوى صفير الاحزان وبكل قسوة نفث القطار زفراته الاولى المفعمة برائحة الوقود على سكة الحديد التي حملته وهنا على وهن، وما زال الفتى بالحزام الاسود الغليظ يعارك بلواه فلا يقصيه الخطأ الحسابي ولا الناس تغسل ذنوبها في التنازل عن ما بقي لهم من فتات العملة وها هو القطار الذي لم يعرف الرحمة يوما يصفر ثانية صفيره النهائي للمغادرة ليصمت كل شيء الا محرك القطار وصريرعجلاته التي بدات تنزلق بهدوء لتجر العربات واحدة تلو الاخرى الى مصيرها المحتوم.
استدار الفتى ذو الحزام الاسود الغليظ نحو مصباح المحطة المغبر متحسبا لطريق العودة وهو يجر ذيول الخيبة من مهنة لم تزده الا شقاءا وشقوقا في قدميه العاريتين ولا شيء يواسيه في مصابه حتى تمتمات المديح من حنجرة امه الحنونة عند عودته.
اقترب الفتى من كومة الحجر وما زال المقاتل الشيخ الملتحف عبائته يمشط ساحة المعركة من خلال جفونه المصابة بخطوط الطول والعرض حتى نظر اليه بازدراء شديد ثم حاول تجاهله عند الوصول اليه كي لا يسمعه قصة ابنه الذي سيعود يوما في مثل هذه الساعة حاملا معه الامانة وهدايا له ولامه التي تعيش في الجوار بصمت وخشوع.
هل لمحت حمد، بصوت خافت وكانه يعرف الجواب مسبقا، انه يرتدي عباءة بنية اللون مطرزة بخيوط بيضاء؟
هو لن ياتي، اجاب الفتى ذو الحزام الاسود وهو يضع كيس الطعام قرب جذع الشيخ المتآكل، هذا عشاؤك، لن ياتي اقسم لك لن ياتي، لن ياتي وانت هنا طول الوقت، اذهب واهجع في دارك الذي تركته منذ عشر سنين، عد لرشدك أما مللت.
سيعود لقد حلمت به عائدا، اجاب الشيخ، لكنه اطول من قبل لقد كبر وصار رجلا، لقد كان يصيد السمك بكل مهارة ويغني بصوت عذب عن غيداء التي احبها، لم يكن عدلا، ولكنه سيعود ليسقي الزرع والدواب ويسكت الكلاب النابحة، اقسم لك سيعود.
لم يابه الفتى وهو يدخل البيت الطيني لامه الحنون وهي شاخصة امامه فرمى الجعبة وما حملت على الحصير المفروش في الباحة منذ الازل مستنكرا ما جنته يد القضاء و جدوى الدعاء من امه وان كانت بالرجاء لطول العمر له.
اعانك الله حمد، ولدي الحبيب، هل انت تعب، استرح واشرب قليلا من الماء، لقد يبست مشارب البهائم وعلينا ان نحفر الساقية اكثر في فجر الغد، هل اوصلت العشاء لابيك؟
يجرد الفتى خصره من الحزام الجلدي الاسود الغليظ ويستلقي على الفراش القطني المتعكر ليرى امه الحنون بعد قليل تغطيه برفق كي لا توقض الغبار وتطيل الدعاء له وهو يحلم بعودة المياه الى مجاريها في فجر الغد الذي سيطول انتظاره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل


.. كلمة أخيرة - شركة معروفة طلبت مني ماتجوزش.. ياسمين علي تكشف




.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب