الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قفطانك محلول:

عزالدين بوركة

2014 / 5 / 31
الادب والفن


لم نكن يوما فلاحين.. وكيف يمكن لنا ذلك؟ نحن رحالون.. جد جدي رحال، وجده رحال، من الزمن المرابطي. نجر خلفنا آثارنا والمعز. نحب الأرض التي تشتاق إلينا.. نشرب لبن جمالها، ونعد الشاي تحث شجر الزيتون، تاركين معزنا يطير.. نعم ! معزنا يطير.. نقبل الأرض قبل مغادرتنا.. نُودِعها أرواحنا الأولى.. فلنا في كل أرض روح..
نحن عطارون.. من نسل الرحالين. نبيع كل شيء، لأي شيء.. حتى لبن العصفور ولسان الحمار ومخ الضبع.. والذبابة اليتيمة، وأخبار القبائل الغابرة، خلف جبال الأطلس، وكثبان الرمال هناك.. في الشام أو العراق. لم يسبق لأقدامنا أن وطأت أرض العراق قط.. عندنا الجواد يأتوننا بما خفي من أثر سلاطين بغداد.. جدي كان يحدث ملك الجان.. وجدتي كانت تصنع "الحسوة" ب"المْصَاخِن" صباحا لزوجته الحامل..
*******
كان يوم الأحد ، حينما قرر"محماد"، جدي أن يهدي جدتي قفطان مطرز جالبا إياه من أرض وهران- أبعد منطقة وطأتها قدمه- بالسْفِيفة وخيوط مُذهبة. لم يعرف جدي كيف تُحرث الأرض أو تُفلح.. لكنه عرف كيف تصطاد النساء.. لم يزرع يوما بذرة، مع ذلك أنجب دَزِينَة من الأبناء.. وهاهي جدتي الآن تجوب المنزل وتتمختر، خمس وخميس في عين العديان.
*******
جميل هو ذاك القفطان الأصفر، الحريري، المزيَّ والمُطَرّز بأحجار كريمة.. وكم هي جميلة تلك العرضة/المانكان، وهي تُخاَصِرُ خاصرتيها بِمْضَمة ذهبية، مراكشية الصنع.. كانت جدتي الأجمل وهي مرتدية قفطانها سبع أيام متواصلة.. تجول به القبيلة شبرا شبرا.. -"بْصَحَتْ لالة فاطمة". ماشطة شعرها للخلف على شكل "لاكوب" من القرن الثاني عشر ميلادي زمن آخر سلاطين بني عباس، ومماليك الأندلس..
لا أعرف أيهما تطارد عيناي.. هل القفطان الأصفر، أو صاحبته.. ذات القوام "المانكاني"، كأنها لم تلتهم شيئا مند سنة.. بخصرها الضيق، ومؤخرتها النحيفة، ورموشها المنحوتة بعناية.. وأكتافها العالية.. صورة لأفروديت.. بعيني كليوباترا المُكحلتين. يكفيها طولا.. ليست بحاجة "لطالون".. تمشي ذهابا وإيابا.. شمالا وجنوبا.. فوق المنصة/العاكسة لما تحث القفطان.. كلمة القفطان.. تستهويني، تذكرني بشيخات من العصر الوطاسي. لسن بحاجة للنحافة.. ولا للمكياج. يكفيهن ضخامة أردافهن واتساع مناكبهن، لدرجة أنك لن تلاقي يداك وأنت تُخَاصِرُ إحداهن. مُكتفية بصوتها وهي تطرب صاحب القصبة، القايد، وأعوانه.. لتصير فاتنة القبيلة.. قاتلة الذكورة.. ليست بحاجة للتمويه، لتقول لك أنها راغبة فيك.. عليها فقط أن تمدّ فخذيها من فتحة القفطان، وتسقط من يدها منديلها المطرز بالطرز الفاسي.. وتغمز بعينها اليمنى. لا أعرف الفرق بين الطرز الفاسي ولا الرباطي.. ولكني أحببت هذه الكلمة فقط.
يصعب ترويض صاحبة القفطان.. يصعب تقبيلها، ما عليك إلاّ أن تنظر الى الثوب وتطريزه، و إلى الحزام المذهب وإلى التاج فوق رأسها، وإلى فتحة القفطان الواصلة إلى أعلى الفخذ.. لست في حاجة إلا أن تعرف أنه قفطان على شكل "روب" من عهد نابليون.. لتفزع روحك، وتغادر ذاك الجسد. ويطير لك العصفور، من سماع اسم نابليون.. المدوي كمدفع انجليزي..
ها هي المانكان الثانية تدخل على أنغام أنشودة الإنتصار. بصدرها الصغير، الذي يشبه حمامتين تغازلان بعضيهما البعض عن قرب وفي حب.. أو تفحتين لم يقضمهما آدم ولم تسقط إحداهما فوق رأس نيوتن. قفطانها بالسفيفة المطرزة يدويا، كأنها سلطانة من زمن سليمان القانوني.. فاتحة قفطانها الكَاطيفي الوردي وبارزة فخذيها النحيفتين.. كأنها راغبة في أحدهم.. ينقصها الآن أن تلقي منديلها أرضا.. لنعرف من هوُ.. لعله سلطان عثماني.. أو أنت.. من يدري؟
*******
كم قتلتي يا أيتها العارضة من دودة قز جميلة، وهي محتضنة نفسها في يوم ربيعي ؟ لترتدي ذاك السلهام المخاط باليد والمزركش بالزمرد والمرجان.. ويا ترى ما سر خاصرتيك؟ وأي شيء يربطك بشيخة سلاطين بني وطاس؟
أما الآن فيكفي أن تُشَمِّري ساعديك بالشمار الزماني، لتصيرين امبراطورة بيزنطية بلون الثلج.
******
لازال الراديو يذيع أغنية قفطانك محلول، ولازالت روح جدتي -رغم رحيلها- تطوي القفطان بعناية وتقبله بعد أن ترشه بماء الورد.. تضعه في بلاكارها القديم، وتقُفل عليه بحذر، ثلاثة أقفال، من زمن الحرب، متواطئة مع نفسها رغم أنها تعلم أنه يكفي أن تمسك القفل بيدك لينكسر..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟