الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر: الدولة، الإعلام، والعقل الباطن

خليل فاضل

2014 / 5 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


يتحرر المصريون سنة بعد سنة، من إرث الاستبداد الذي استمر معهم طيلة ستين عامًا حتى عام 2011، وعلى الرغم من استمرار سطوة الإعلام الخاص (إعلام رجال الأعمال المُحدَّدين) والإعلام الحكومي، الذي لا يعرف كيف يتحرر من عبودية الوضع القائم، ومن إطار الولاء المطلق للتيار الغالب، ولا يدرك كيف يكون حرًا انتقاديًا موسوعيًا شاملًا.
المصريون ينضجون سياسيًا ونفسيًا ومجتمعيًا مع كل تجربة، وأثبتوا أن لحمهم مُرّ، وأن الغث يذهب جفاءً.
ارتبكت الدولة، واستَجْدَت الناس، فلجأت إلى لعبة الترغيب (يوم أجازة)، ولعبة التهديد (غرامة 500 جنيه لمن يتخلف). الحكومة في وادٍ والناس في وادٍ آخر. الهيئة العليا للانتخابات سمحت لنفسها بمدّ اليومين إلى ثلاثة. لم يكن الإقبال على التصويت ضعيفًا بالشكل الذي تصوَّره بعض الناس، لكنه بالفعل لم يكن على القدر الذي تمناه المشير السيسي (40مليون)، أو كما رأى البعض ألا يقل عن عدد الذين انتفضوا في يناير 2011، أو في 30 يونيو 2013. هزَّ الإعلاميون رءوسهم ووسطهم، ودقّوا الطبول والصاجات، واستخدموا كل الخطابات المُمكنة، الوعيد، الدفاع، التبرير، الهوس، والصراخ.
وعلى الرغم من استمرار الاستبداد داخل كثير من الأسر المصرية، والمؤسسات الحكومية الخاصة، وهيئات التعليم العام والخاص والحكومي، وبعض الأحزاب والمنظمات الأهلية، إلا أن المصري بشكل عام في أدائه في هذه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم يكن مهرولًا مدفوعًا راقصًا كجزء من القطيع، اللهم إلا في أحوالٍ متفرقة نادرة، بين عددنا الهائل لتسليط الكاميرات على تلك الحوادث عمدًا واعتمادًا، لإظهار صورة مُعينة وبهجة ضرورية لأولي الأمر.
دونما شعارات هذا الشعب قد وضع قدمه على أول درجات السلم لصنع تاريخه الحديث.
الهوة شاسعة بين جماهير انتخابات 2014 الرئاسية، في الروح، والحماسة، والقوة، والعزيمة، والإصرار، وتلك الجماهير التي نزلت إلى الشارع في الاتحادية يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012، احتجاجًا على إعلان مرسي الدستوري، قبل حلول الذكرى الثانية للحراك الثوري في يناير بأيام، وما تلا ذلك من مذبحة الإخوان ضد الأحرار، الذين كانوا يعبرون عن رأيهم في جسارة وسلام.
الفرق كبير بين جماهير الانتخابات الرئاسية، ليس في عددهم ولا في تجمهرهم، ولكن في حسِّهم الشعبي، وبين جماهير استفتاء المجلس العسكري الأول، ذلك المشئوم في 19 مارس 2011، ولا في الانتخابات الرئاسية الأولى 2012، وكي لا ننسى فهي تمت بضغط شديد من ثوار ومُصابي وشهداء محمد محمود، ومجلس الوزراء والقصر العيني، حيث كان التنافس قويًا بين خمسة مرشحين أشدَّاء (تعالو ننظر للحظة بين حال حمدين صباحي كرجل هناك وهنا، لحظتها والآن. هذا بالطبع ليس استمرار نضال بقدر ما هو مواكبة ما يحدث لتمرير الأمر الواقع، حتى نخلص ونعمل وننتبه لبلدنا، ربما).
المصريون قد نضجوا بالفعل ولم يعودوا ـ بل لم يكونوا ـ في حاجة إلى (من يرفق بهم ويحنو عليهم). المصريون هم الأكبر والأقدر والأذكى والأكثر دهاءً ومفاجأة لكل الأطراف. إنهم مع كل تجربة يستنهضون قدراتهم بعفوية، ويستدعون مواقفهم العبقرية دائمًا.
الدولة المرتبكة (تبحث عن صوت)، هكذا كان مانشيت المصري اليوم: رسائل على المحمول، شركات، مصانع، يوم أجازة، يوم ثالث استجداء وحشد ساذج يذكرنا بالاتحاد الاشتراكي، وبالحزب الوطني (المصري البسيط يضحك ملء فمه، ويعلق على الفيس بوك، ويسير في الشارع ويقول: ده كان زمان وجَبَر).
كانت المهزلة الكبرى أمام بعض اللجان الخاوية على عروشها، على الرغم من أن مجموع الناخبين كان في إطاره الطبيعي، هنا قاد جهابذة الإعلام وهم يهزون رءوسهم تبريراتهم (موسم الحصاد) (الحَرّ، وكأن 30 يونيو كان شتاءً)، (الناس كانت صايمة احتفالًا بالإسراء والمعراج)، وكلما زادت وتيرة البحث عن صوت، كلما زاد اللهاث وعمليات العدّ وحثّ المراسلين والمذيعين على قولٍ آخر.
مرة أخرى نسبة التصويت تلك عادية بالنسبة لمصر بعد 25 يناير 2011، لكن الصراخ جعلها ضعيفة، هذا من ناحية، من ناحية أخرى فإن العقل الجمعي الباطن (مصطلح فني نفسي أصبح الباشوات ورفاق السلطة يستخدمونه في تذاكي بشع بدا غباءً مقيتًا) للناس في برِّ مصر عَصَى على أراجوزات الشاشة الصغيرة.
الذي يقف على عربة الفول في دهاء، ويسير إلى بيته وإلى عمله مُضمخًا بذكاءٍ فطري ليس له مقياس علمي دال، فالعقل الباطن للمصريين لا يمكن قياسه باستطلاعات الرأي، ولا بتقديرات الموقف للأجهزة السيادية، ولا بتحليلات السياسيين. إن هؤلاء النخبة من قارعي الطبول وحاملي الصاجات والشنط والمباخر، أصبحوا في نظر الجموع بلا قيمة وبلا نفع، إلا أنهم ـ حقًا ـ مهرجون مزعجون.
هذا الإعلام بكل قنواته الملوَّنة، بوجوهه الأنثوية الأنيقة، بأصحاب البدلات المفتوحة والحناجر القوية، إعلام سقط في الهوى، والهوى هنا هو العشق ويكون في الخير والشر، هوى الدولة المُرتبكة، هوى الإعلام المهووس، إعلام ميل النفس إلى الشهوة، هذا السلوك في العمق يلعب دورًا آخرًا، يطلق العنان لدورة أخرى من النفاق والتملق والتغطية الكاذبة.
إن شرود ذهننا يأتي من كل شيء نغذي به رغباتنا دون تمحيص، رغبة الفوز، رغبة طمس الأخطاء، رغبة النفخ في الرئيس الجديد، حتى يتقدَّس ويصبح سوبرمان.
المصري الجديد تعلم كيف يضع حدًا لعبوديته ولأهوائه، بأن يقف على الأرض دائمًا؛ فلا ألف طائرة لاسرائيل وقعت، ولا أحمد سعيد يصرخ في صوت العرب، ولا على موائد الناس في صعيد مصر وقراها الأكثر فقرًا لحم الضأن. أن أكثر أهلنا يعاني من الاكتئاب الذي أحدثه عجز الأماني والصبر الممتد، والإدمان على التفكير الرغائبي، والتهويل من القدرات. إن نشاط الروح وكسل الجسد عند كثير من المصريين سببها ذلك الغطاء الملوَّن للإعلام، وذلك الحديث المُرتبك للدولة. نرجوكم عدم التشويش على حقائق المجتمع والاقتصاد، فالمصري أصبحت لديه صرامة ينقل بها حياته من حقبةٍ إلى أخرى، وهو يمتلك جسدًا مريضًا بفيروس سي والسكر والقلب والضغط.
إن بعض ما حدث كان أضحوكة، وأكثر ما حدث كان حقيقة، فالمصري لا يحتاج إلى أحد يعرفه بدينه، ولا بأمور السياسة والحياة الدنيا، ولن يضحك عليه أحد، كما أنه صعب شديد المراس، ولا يمكن التكهن ـ إطلاقًا ـ مما سيقدم عليه، ولا يحتاج إلى زيت وسكر، أو إلى لمبات موفرة، بل إنه يحتاج إلى الحد الأدنى من العيش بكرامة وصحة وسعادة.
ولنتذكر جيدًا أن الشاطر حسن طلع الأول على فصل فيه ثلاثة، حمدين كان الثالث، أما الثاني وراء الشاطر حسن، هو تلك الزمرة غير الهينة من هذا الشعب، رمزٌ مهم لمن لم تلمس أناملهم الحبر الفسفوري، وهم أكثر من اللذين اقترعوا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال