الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إياد شماسنة في روايته -امرأة اسمها العاصمة-: يتنقل بنا من عبق التاريخ.. إلى المستقبل المشرق

عزيز العصا

2014 / 6 / 3
الادب والفن


قرأنا الكثير من الغزل بالمرأة؛ عندما تُعجب رجلاً متدفق العواطف، كما قرأنا عن الغزل بالرجل؛ عندما تتجرأ المرأة على البوح بمكنوناتها العاطفية اتجاهه. أما أن نقرأ غزلاً بمعناه العاطفي والوجداني بـِ "المرأة-المكان"، فهذا هو الجديد في رواية إياد شماسنة، المعنونة بـ "امرأة اسمها العاصمة"، الصادرة عن "دار فضاءات للنشر والتوزيع/ عمان/ الأردن"، تقع في (290) صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على (15) عنواناً تربض بين غلافين بأرضية برتقالية.
الغلافان عبارة عن لوحة من تصميم الفنان الإيراني "محمد رسولي"، تظهر فيها امرأة فارعة الطول، جميلة القوام، طموحة؛ تنظر إلى الأعلى وهي تفكك قيودها بسلاسة ويسر، وتسخر من آسريها وهي في مسارها الحلزوني الذي يجعل أعداءها يدورون حول أنفسهم بلا هادٍ ولا دليل. ويودّع شماسنة القارئ بغلافٍ يحمل جوهرة روايته التي يسمع فيها تسبيجاً, لمن خلق الجمال والفتنة, ويشهد صوتها يتلو أمر اللهفة على قلبه المثقل إلا منها, فيموت كثيراً فيها, ويموت كثيرا وهو بعيد عنها..
أبطال الرواية فلسطينيون، ممن ابتلوا بالتشرد والضنك، يجوبون مدن فلسطينية؛ من القدس وحيفا ورام الله... الخ.. واستهل شماسنة روايته هذه، التي تتكون من خمسة عشر عنواناً، بمقاربة تصويرية بين حضارتنا في الأندلس التي بناها الأجداد بعبقرية قلما تتكرر في التاريخ، وبين واقعنا المُعاش مع الاحتلال؛ وما فيه من صراع وجود وهوية على أرض فلسطين. لذلك؛ فقد توقفتُ، معمقاً، عند أحداث هذا العنوان لأعثر، بين سطورها، على المحاور هامة التالية؛ التي تشكل العمود الفقري للرواية، وهي:
أولاً: توثق للزمان والمكان: يصطحبنا شماسنة في روايته إلى العديد من الأماكن الممتدة من الأندلس إلى يومنا هذا. فهو يتحدث عن اسبانيا ويذكرنا بـــِ "ولادّة"؛ الاميرة الأموية-الشاعرة, وابن زيدون؛ الشاعر الأندلسي وصاحب الكتابات النثرية التي تعد من عيون الأدب العربي، وهو الذي ألًف في "ولّادة" نونيته التي مطلعها: "أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا". كما ينقلنا إلى الأماكن والشوراع والحارات والأزقة وعناوين الفكر والثقافة في فلسطين، مثل: طاحونة الهواء، حي منتفيوري، شارع صلاح الدين، الحكواتي، حديقة الجرس وجميعها في القدس، وإلى بيت الثقافة في رام الله، جامعة بير زيت، وجسر الشيخ حسين؛ على الحدود مع الأردن الشقيق... الخ، وكذلك يذكر "غربي القدس" وليس القدس الغربية، في إشارة (واعية) إلى الفرق في المعنى بين المسميين.
ثانياً: الشعر "المنثور" حاضر بقوة: فقد ظهرت رواية شماسنة مشبعة بجمل وعبارات أقرب ما تكون إلى الشعر، وفي ذلك عملية توليف رائعة قام بها شماسنة بين الشعر والنثر؛ بما يرفع من مستوى اللغة والتعاطي مع المفردات من قبل القارئ لهذه الرواية، ومن تلك الأقوال: صار الطين جرحاً في الذاكرة، يرشف من زرقة عينيها بحراً من أمان، إنه تبرّج الشوق يا جميلتي.. وغيرها.
ثالثاً: يدعو للأمل والتفاؤل رغم الألم: فقد أبدع شماسنة في هذا الجانب عندما حول الوجع إلى أمل، ودعا إلى النظر إلى الحياة بتفاؤل وإلى المرح واللهو والمتعة، كقوله: حتى عندما تكون في كآبة الخريف والأوراق تتساقط من حولها، تجمع الأوراق وتصنع منها بنتاً وشيخاً وكهلاً, وأوراقاً للعب. كما يدعو إلى الحركة الدؤوب؛ وعدم التقاعس أو الركون إلى اليأس والحزن، فيقول: "وهل تموت الحروف واللغات إلا عندما تبدأ في البرود, وتفقد توهجها والتهابها".
ثالثاً: فلسفة الكاتب: كما أعرفه؛ يتميز شماسنة بقدرة عالية على ضبط إيقاع كلماته ومفرداته، عندما يطوعها لينسج منها لوحة جذّابة تأسرك؛ لتقف أمامها مطولاً ومعمقاً, وأنت تفكك خطوطها وانحناءاتها المختلفة، ويتجلى ذلك في قوله:
1) حدث يشعر المسلوب فيه بلذّة الاستلاب الجميل, ويشعر الطائر الجميل بلذّة الأسر وحب آسره.
2) البكاء يجعل الجياد الجريحة تنهض من حزنها في ظل الفوضى الرابضة كالذئب الرمادي. وفي ذلك تعبير عن قدرة الأمة على النهوض، رغم الهزيمة والانكسار الممتدة بين غرناطة حتى تاريخه.
1) الشعراء سدنة اللغة والحب والقلوب. واللغة وعاء حضارتنا وحاضنة قلوبنا, ولسان مقدساتنا واللغة عند الشاعر امرأة بكل تفاصيلها.
2) يصف الحوار، البنّاء والهادف، مثل "غزال الجبل؛ رشيقاً أنيقاً, لا يعجبه إلا حروف دافئة تتراقص قرب قمم الجبال".
3) كما أدخل شماسنة مفهوماً، يكاد يكون جديداً، لنوع جديد من الرجال، أسماه: "رجل بحري الطباع"؛ وهو ذلك الرجل الذي يميز الاتجاهات، ويستخلص عطر المحبوبة (وهي سيدة الجهات والفصول) من بين عطور العالم؛ العطر الذي يتنفسه في شرايينه، ويمنحه إحساساً بالعالم من حوله.
3) كما تتجلى رؤياه الخاصة في النظر إلى نهايات الظالمين، بقوله: "الكثيرون من أصحاب المقاعد الفخمة يدخلون في دوامة المعاناة أواخر أيامهم, حتى يقول المظلوم: كان الله في عونهم".
رابعاً: فلسطين، الاحتلال والصراع بينهما حاضرون بوضوح: فقد أبدع شماسنة في توظيف الصور والتشبيهات في توصيف الصراع على أرض فلسطين. ففي وصفه للصراع القائم على هذه الأرض، يستخدم شماسنة رمزيات وصور مختلفة في وصفه لمن سرق الأرض و(الْتَهَمَ) التاريخ ومزق الجغرافيا، ويتجلى ذلك في العبارات والمواقف والمشاهد التالية:
1) يرى بأن "الاسود النحاسية" في "حديقه الجرس" ترقب الأمكنة بعين مترصّد, كعين عدو يظن الأرض أرضه, وهو غارق في رصاصاته.
2) ويعبر عن دور الاحتلال في تشويه الواقع، بقوله: "مساحات الغبار الساكن فيه, تتقلص في حضرة العطر المتقدم نحوه, وتتراجع نحو مقعد آخر, ممتلئ بغربة أخرى". مشيراً إلى أن الفروق بين: الوردة والمقصلة, الدمعة والزيت المغلي, القطة الأليفة والأسد الجائع. أما الاحتلال فهو طارئ على هذه الأرض وهو ليس جزءاً من عشقها الأبدي؛ لأنه سارق و"العاشق لا يكون سارقاً".
3) وعن الوفاء بين الأماكن وساكنيها، وعن حتمية العودة، يرى شماسنة أن الأماكن لا تنسى أهلها، ويتساءل: أينسى البيت مفتاحه, والعربة, هل تنسى خيلها؟ أما الأماكن فيرى شماسنة أنها "كالنساء, تماماً, لا يمكن أن تنسى تجاربها الأولى"، كما يرى أن "المقاعد مثل البشر؛ تفهم شئون العطر". ويعزز ذلك بالإشارة إلى محاضرة "د. جبريل العلوي" التي يؤكد فيها على كذب ادعاءات الاحتلال وتزويره للتاريخ والآثار مثل كذبة "المعبد".
4) وفي هذا الجانب يصل شماسنة الذروة عندما يؤكد على أن "الوطن أروع من الجنة، حتى إذا ذهبت إلى الجنة في الخلود سوف اسأل: أين الطريق إلى فلسطين". أما "امرأة اسمها العاصمة", فهي، من وجهة نظر شماسنة: امرأة من كل العصور، وأجمل من كل ما رأت العصور.
النتائج والاستناجات
بعد حوارات بين معمقة، مشبعة بالفكر، وبالمعرفة بالتاريخ وشئونه، وبالصراع القائم على أرضنا وأسراره ومكنوناته، وقف شماسنة على أطلال الأندلس وغرناطة، التي شهدت على حضارة العرب وإبداعاتهم في الربط الجدلي بين القوة والجمال، مستشهداً بــِ "ابن زيدون" الذي أنجز ديوانه الخالد من اجل ولادّة بنت المستكفي, والملك "ابن عباد" الذي نحت اسم محبوبته "اعتماد" من اسمه.
هذه هي رواية "امرأة اسمها العاصمة" في فصلها الأول.. ولأن لكل منا امرأة من هذا النوع؛ فإنني أدعو القرّاء إلى التوجه إلى هذه الرواية؛ ليقرأوا عن عاصمتهم، وينهلوا من روحها عبقرية التاريخ الذي يعوضهم عن الزمن العربي المرّ؛ لأنهم سوف يلاقون في صوتها, وفي ظلّها النسب العربي العبقري الذي يفتشون عنه ويميلون إليه. فمن يقرأ رواية امرأة اسمها العاصمة يجد نفسه وقد غفا في ظل عاصمته حياً وشهيداً, لأنها آخر ما تبقى من عواصم؛ فقد بقيت هي وحدها.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 9 أيار، 2014

قراءة: عزيز العصا
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع