الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة و معركة الفطرة

علي الأمين السويد

2014 / 6 / 4
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


أولاً ـــ قصيدة: "الميراث الثانية*"

ولد الكاتب الامريكي (Leroy V. Quintana ) ليوري كونتانا ذو الاصل المكسيكي عام 1944، و ترعرع في كنف جديه و زوج أمه. التحق بجامعة نيو مكسيكو ليدرس الانثروبولوجي (علم الانسان) إلا أنه تم سوقه للخدمة الالزامية في فيتنام 1967. و بعد عودته من فيتنام انصرف لكتابة القصائد القصيرة عن معاناته في الحرب. عاد الى جامعة نيو مكسيكو ليدرس و ليحصل على ليسانس الادب الانجليزي 1971، و بدأ عمله كمدرس للغة الانجليزية في جامعة "إلباسو" 1975. له العديد من الكتب و المؤلفات و له عدة دواوين شعرية.

في قصيدته "الميراث الثانية" (Lgacey II) يسلط كوانتانا الضوء على جانب من حياته فيقول في المقطع الاول منها:

"لم يذهب جدي إلى المدرسة أبداً
أتقن بعض الكلمات الانكليزية
رجل هادئ حين يتكلم
فقد كان يتحدث عن أشياء بسيطة كزراعة الذرة أو عن أحوال الطقس
و أحيانا يتحدث عن تربية الخراف في صباه"

يرسم كوانتانا هنا صورة ساحرة لجده بريشة محترف يسبر بواسطتها أعماق شخصية الجد ببساطة لغوية شديدة تترك لخيال القارئ مساحة شاسعة لتقدير مستوى العفوية و الشفافية عند الجد.

فالجدُّ مكسيكي مهاجر و أميّ يتحدث الاسبانية و لا يجيد سوى بعض المفردات الانجليزية و لو أن الحياة يمكن أن تستمر بشكل سلس بدون تعلم حفنة المفردات تلك لما تعلم حرفاً واحداً منها.

جدُّ كوانتانا هادئ و قليل الكلام و مواضيع أحاديثه على ندرتها لا تخرج عن اطار ذكر مواعيد متطلبات الزراعة كحرث الارض و البذار و الطقس و الامل المترافق بتنهيدات و زفرات في بيع المحصول كاملا، و الكسب المعقول. هو لا يحفل بأي من تعقيدات و فلسفات هذا الكون طالما أنها لا تخدم احتياجاته البسيطة.

ثم ينتقل كوانتانا للابيات التالية:


"ذات يوم أشار الى الجهات الأربع
وعلمني أسمائها

الشمال
الشرق ........ الغرب
الجنوب

خرجت أسماء الجهات من فمه كأنها
حفنة من الاشياء المحدودة
التي يحتاج إلى تعلمها الانسان."

يقرر جدُّ كوانتانا أن يعلِّم حفيده درساً من الدروس المصيرية في حياة الإنسان ،حسب اعتقاده، فيقف بُعيد منزله مواجها حفيده و يطلب منه الانتباه لاستيعاب احد الدروس القليلة جداً التي قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة و التي إن أتقنها فسيكون شخصاً حكيما يفوق في علمه من يحصل على شهادات الدكتواره في أي مجال من مجالات الحياة.


يقف الجدُّ بقامته الفارعة ليشير بيده الممدودة الى الجهات الاربع و هو يسميها بالقول من خلال نطق اسمائها بالاسبانية كونها اللغة التي يتقنها. فليس من المهم للجد ماهية اللغة التي يتحدث بها بقدر ما يهتم بقدرة حفيده على تمييز حفيده للجهات الاربع التي يحتاجها الانسان للاستمرار في الحياة.
يصف كوانتانا طريقة جده أثناء تلقينه درس الجهات الاربع و كأن لسان حال جده يقول:" ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذا اهم ما يجب على الانسان أن يتعلمه على الاطلاق ، فهذه المعرفة تساعدك على الذهاب من البيت الى الحقل و السوق لبيع المحصول ومن ثم العودة. هذا هو العالم! هل فهمت العالم؟ هل فهمته؟"
فمهما كانت تعقيدات حياة البشر خارج حدود بصر الجد فهي ايضاً خارج حدود اهتماماته وهي مجرد تفاهات إذا ما قيست بالضروريات القليلة جدا التي تبقيه حياً و التي توفر له مادة دسمة للاعتزاز بنفسه في الاوقات القليلة التي يتحدث فيها.

ثم يختم كوانتانا قصيدته بالقول:


"الآن و كلما أعود بذاكرتي
إلى جيلين انقضيا
أكتشف أني لست سوى
"مغفل" آخر التحق بــ "جامعة"
يحاول أن يشق طريق العودة
العودة الى مركز الكون
حيث وقف جدي
في ذلك اليوم."

بعد انقضاء اكثر من أربعين عاماً على مغادرته لقريته العذراء للعيش في ضوضاء الحضارة و الدراسة و التعليم و العمل و مكابدة الصعاب يقيّم كوانتانا تجربته في هذه الحياة و يدرس جدوى كل هذا الاستغراق في متاهات الحضارة و تعقيداتها ليكتشف أنه مجرد "مغفل" آخر ضحّى بالبساطة و الهدوء ليذهب الى الجامعة مثل باقي الحمقى. فقد أدرك متأخراً الاجابة الحقيقية على سؤال جده السابق :"هل فهمت العالم؟" فالحياة في هذا العالم بالنسبة لجدّه أبسط من أن يتكلَّف لها كل هذا العناء و التعب و التوتر و خوض المخاطر.

فطالما أن كل ما يفعله الانسان من ذهاب الى المدرسة، و سفر و عمل و تحمل ضغوط المحيط هو في النهاية يهدف للبقاء على قيد الحياة فإن جدَّه هو سيد من فهم الحياة و أفضل من عاشها كما يجب أن تعاش دون أن يدرس كتاباً واحداً و دون أن يتحمل مغبة البحث عن الحقيقة و التي يبدو أن كوانتانا وجدها و لكن متأخراً جدا و بعد صراع مع صخب العالم دام أكثر من أربعين عاماً.

يقول كوانتانا هذه الكلمات و هو يحدث نفسه بتيمزق كتبه و شهاداته معترفاً بفضل جده الراعي الامي البسيط صاحب الكلمات القليلة و الفهم الادق لهذا العالم و هذه الحياة دون أية رتوش بالرغم من عدم ارتياده الجامعات او الكليات.
كما يحدّث نفسه بالاسراع بترك هذه الشبكة العقيمة من التعقيدات و التوجه الى مسقط رأسه حيث المكان الذي وقف فيه جده و علمه الجهات الاربع في ذلك اليوم حين ورثّه درس الحياة الأهم بأبسط الكلمات فحُقَّ لذلك المكان أن يُدعى مركز العالم.

ثانياً ـــ نخبوية الجهل

الكاتب السوري أحمد اليوسف من مواليد مدينة الرقة السورية حيث عاش فيها ست سنوات من طفولته ثم هجرها مع عائلته ليعود الى كنصفرة قرية أهله في جبل الزاوية. درس الفلسفة في جامعة اللاذقية و أكمل الدراسات العليا في جامعة دمشق. عمل كمدرس في إحدى ثانويات دمشق و مالبث أن غادرها للعمل كمدرس للغة العربية في فرنسا و في مدينة بوردو تحديدا. اكمل دراسته للفلسفة في جامعة بوردو وحصل على الماجستير والدكتوراة في الفلسفة العربية الاسلامية. حاليا مقيم في كندا كمهاجر وليس لديه عمل ثابت بعد. لازال يبحث عن عمل مناسب في اختصاصه وفي مجال الابحاث. والداه لازالا في قريتهم يتلقفان أخباره بين الفينة و الأخرى.

مع قيام الثورة السورية التزم الكاتب أحمد كمعظم المثقفين و الكتاب السوريين الانحياز الى قضية الشعب السوري العادلة بما يستطيعه كمثقف تفصله آلاف الأميال عن بلده. فسخّر قلمه للنقد و التحليل و ابراز قضية الشعب السوري التي يناضل من أجلها بدمائه من خلال منشوراته التي أسماها "بوحيات" في مواقع التواصل الاجتماعي.

و نظراً لتفاعله مع احداث الثورة السورية كتب البوحية التالية:

نخبوية الجهلة

للحقيقة لازلت اتساءل بكثير من الدهشة: كيف حدث أن الرعيان في ضيعتي المنفية في جبل الزاوية كانوا اكثر وعيا وفهما وتحضرا وتواضعا ولباقة من اغلب من عاشرتهم من المثقفين السوريين: من ادعياء حداثة وتنوير ونخبوية ماركسية ويسارية قومية؟ كيف حدث ان راع ريفي كان اكثر وعيا من اغلب من عاشرتهم من السوريين في لاذقية العرب وفي دمشق العاصمة وفي فرنسا و كندا؟ افكر أحيانا أن احرق شهاداتي الجامعية خوفا من أن احسب على الميليشيات النخبوية السياسية التي تجهل انها جاهلة.


جدّ كوانتانا و رعيان كنصفرة

يقول اليوسف: "للحقيقة لازلت اتساءل بكثير من الدهشة: كيف حدث أن الرعيان في ضيعتي المنفية في جبل الزاوية كانوا اكثر وعيا وفهما وتحضرا وتواضعا ولباقة من اغلب من عاشرتهم من المثقفين السوريين: من ادعياء حداثة وتنوير ونخبوية ماركسية ويسارية قومية؟ كيف حدث ان راع ريفي كان اكثر وعيا من اغلب من عاشرتهم من السوريين في لاذقية العرب وفي دمشق العاصمة وفي فرنسا و كندا"

يتحدث اليوسف في هذا المقتبس من البوحية عن "الرعيان" و الرعيان هي مفردة عامية لكلمة الرعاة و التي هي جمع لمفرة "الراعي" و الراعي أو الرعاة هنا مقصود بها أولئك الاشخاص الذين يعملون على رعاية شؤون قطعانهم الحيوانية من الفجر حتى المساء. و قد استخدم اليوسف مفردة "الرعيان" باللهجة العامية لاعطاء مزيدا من التأكيد على انعدام المستوى العلمي عند هؤلاء الشريحة.
و الراعي كما هو متعارف عليه في معظم مناطق الشرق الاوسط و المناطق العربية تحديدا بأنه غالبا أميٌّ لا يذهب الى المدارس و لا يتعلم سوى ما هو ضروري لخدمة قطيعه من راعٍ غيره. و قد تكون أحاديثه كلها منصبّة على مواعيد الفصول و مواعيد الحصاد و احوال الطقس و أسماء اماكن الرعي الجيدة و غير الجيدة و أهم ما يتعلمونه هو كيفية تحديد الجهات الاربع بعد حفظ أسمائها ليتمكنوا من الذهاب و العود الى المراعي برفقة قطعانهم.

يشبه حالُ هؤلاء "الرعيان" جدّ شاعرنا كوانتانا، بل انهم قد يكونون نسخ مكررة منه فهم يعتقدون أنهم يمتلكون ما هو ضروري للحياة و السعادة بالرغم من عدم تكبدهم لمشقة الدراسة و التعليم أو السفر الى شتى اصقاع الارض للتحصيل العلمي.


غير أن "الرعيان" في قرية اليوسف التائهة بين الجبال و الذين لا يعلمون من هذه الدنيا الا ما يلتصق بقطعانهم من قريب أو بعيد فهموا أن حاكمهم بشار الاسد مجرم عدو للبشرية و عدو للحياة و لا يمكن بأي حال من الاحوال التعايش معه و قد يشبهونه بالضبع أو الذئب الذي يتربص بخرافهم المسكينة. فهذه الوحوش لا يمكن التقرب منها و لا عقد اتفاقيات معها و لا مديحها فهي آكلة لقطعانهم عاجلاً أو آجلا و قد فهموا بفطرتهم، على عكس المثقفين و المتنورين و أصحاب الشهادات العالية، أن الخلاص من الاسد في سوريا لا يشبه الا خلاصهم من ضبع يتربص بقطعانهم.

اليوسف و كوانتانا

يقول اليوسف:"افكر أحيانا أن احرق شهاداتي الجامعية خوفا من أن احسب على الميليشيات النخبوية السياسية التي تجهل انها جاهلة"

يخشى اليوسف بعد رحلته العلمية الطويلة و المضنية أن يحسب على أولئك المثقفين و المتعلمين الذين قلبوا مفاهيم الفطرة لديهم و عكسوا القوانين العلمية التي تعلموها و ناصروا و ساندوا قتلة أهلهم الابرياء مدفوعين بأوهام لا تغني من الواقع و الحق شيئاً.
و لأن اكتشاف الحقيقة كان سهلاً و فطرياً عند الرعيان و جاء دون دراسة او تعليم أو سفر أو تغريب يتبادر لذهن اليوسف أن كل تعبه و تعب أولئك المثقفين و سعيهم الحثيث في سبيل التحصيل العلمي كان سعيا وراء سراب طالما أنه بعد كل هذا العناء وجد أن "رعيان" كنصفرة الذين لم يعرفوا أكثر مما تحتاجه قطعانهم فهموا قيمة الحياة و معناها أكثر من أولئك المثقفين.

و هو عندما يقارن مفارقة المثقفين الأخلاقية بعلم الرعيان الذي اوصلهم لعدم مناصرة القاتل، يخشى مثل كوانتانا أن يكون مجرد مغفل آخر ذهب للدراسة فصار يفكر في حرق شهاداته و التخلص منها و العودة الى قريته التائهة بين الجبال ليعيش بين الرعيان الذين لديهم من الوعي ما يفوق الكثير من مواطنيهم الذين درسوا و عملوا في أرقى جامعات العالم. فعلمُ و موقع هؤلاء الرعيان بالنسبة لليوسف هو بالفعل مركز العالم.

ثالثاً ـــ الفطرة و العلم
التحصيل العلمي يجعل الناس أكثرا اقترابا من رؤية الحقيقة و يؤهلهم لحماية و ابراز المميزات الفطرية للبشر عامة من خلال الذود عن حق الحياة، و حق الحرية، و حق الكرامة، و حق السعادة. بينما الفئة التي تعاني من الامية قد تكون بعيدة عن تمييز هذه الحقيقة أو عن القدرة على التعبير عن ماهية الفطرة باستخدام المفردات اللغوية و قد لا يمتلكون الوسائل الناجعة لمقاومة الظلم المعنوي.
و مع ذلك ثبت بالدليل القاطع أن العلم قد يستخدم للنفاق و طمس الفطرة، بينما قد لا يفلح الجهل بذلك. فبئس العلم الذي لا يخدم الهدف الذي وجد من أجله.

ملاحظات
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*) ترجمة النص الاصلي للقصيدة هي للكاتب علي الامين السويد
والنص الاصلي هو:

Lgacey II

Grandfather never went to school
Spoke only a few words of English
A quiet man-;- when he talked
Talked about simple things
Planting corn´-or-about the weather
Sometimes about herding sheep as a child

One day pointed to the four -dir-ections
Taught me their names
El Norte
Poniente Oriente
El Sur
He spoke their names as if they were
One of only a handful of things
A man needed to know


Now I look back
Only two generations removed
Realize I am nothing but a poor fool
Who went to college
Trying to find my way back
To the center of the world
Where Grandfather stood
That day








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم


.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام