الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ذاكرة البحر

حفيظ بوبا

2014 / 6 / 4
الادب والفن


كان يجلس ظهر كل يوم على صخرة عالية فوق منحدر صخري يشرف على البحر، يراقب أمواجه القوية وهي تصفع الصفائح في إندفاع مستمر، كان يرتدي هذه المرة قميصاً زري المظهر وطاقية سوداء وسروالاً فضفاضاً، وفي وضع مضحك كان يفتل لحيته الكثة ويرنوا بعينين جاحظتين خلف نظارة شمسية إلى خط الأفق.
كانت صور الماضي تطفوا على سطح ذاكرته، كما تطفوا تلك البواخر البعيدة التي يراها بشغف المقبل على الرحيل، لكنه كان ينوي الرحيل بفكرة مغايرة، لقد ماتت يامنة قبل خمس سنوات، وتزوج الأولاد، الواحد بعد الآخر، واغتنوا من تجارته التي خلفوه في تدبير شؤونها، كان يفكر في كل ذلك وهو يدري أن آخر دور سيقوم بأدائه على مسرح الحياة سيكون قصيراً بالقياس مع الماضي البهي.


بعد دقائق، جاء صيادان بصناراتهم وأكياسهم المملوءة، حياهم بحركة من يده ثم عاد إلى شروده في صمت رهيب، فمثلا على حافة صلبة، وانشغلا بتزويد بوصات الصيد بالخطاطيف والطعوم، فلبث ينظر إليهما، وقد اكتنفت وجهه المجعد غيمة من الحزن لم يدر لها سببا في قلبه، كان يتحدث بلسان وجدانه كآخر ما اختار في النهاية أن يتلفظ به أمام وجه الحياة، كان يتحدث بأسلوب المراثي عن نتف من لحظات الطفولة، ثم عن عنفوان الشبيبة التي كانت ضجته تجاري ضجة الأمواج لحظة الإصطدام، أما سنواته مع يامنة فقد كانت أحلى ما تذوقته أحاسيسه من اللذات والمتع النفسية والعاطفية، يحاول أن يستعيد كل صورة من قوقعتها، ويبرر بعد ذلك أمام ذاته بأن الحياة قد تغيرت والأهم من كل شيء آخر أن الأولاد قد كبروا وصارت لهم زوجات.

كانت يامنة عندما تزوجها شابة في مقتبل العمر، ناصعة الجبين، رشيقة القوام، هادئة الصوت، وقورة الملامح، عفيفة القلب، وحينما كانت تبسم كانت السماء تمطر زهوراً فوق رأسه ومنكبيه، والآن كل ما تبقى منها هو صورتها الضاحكة مع كل موجة.
فيما كان يسر إلى نفسه بمثل هذه الخواطر، كان الصيادان يتحدثان بصوت مهموس فقال أحدهما لصاحبه بتهكم.
ـ يبدوا أن هذا الشيخ زوج الحاجة الحمداوية.
ـ قد تكون مريضة، فأوصته خيراً بالبحر.
تضاحكا معاً ثم عادا إلى إنتظارهما، وقد كان حظهما من الصيد حتى الآن، سمكتان لكل واحد منهما، وضعاها في دلو بينهما

ـ ما قصته يا ترى؟ هل له بيت وأسرة ؟

رد الآخر:
ـ وما شأننا به، يريد أن يتفرج، هو حر طالما لم يثر شكوكاً.

ـ أنت على حق.

مضت لحظة إثر لحظة، فزادت سمكات الدلو وكانت الشمس تنسج من أشعتها أخاديداَ تقتحم الضفة وتسلط الضوء على بشرته السمراء التي عمرت خمسة وخمسين عاماً، كان يسترجع أغاني الرعاة، وصفير الناي يتخلل كل لحظة كان ينفرد فيها بزوجته، ربما كانت تضمد جراح نفسيته المهزوزة منذ الطفولة، فتندمل كل الشروخ والآلام مع كل كلمة أو لمسة أو عناق..

كل يوم، كانت الألفة تُسكن جسده وقلبه معاً في رياض من نعيم، والآن، الجسد لم يعد له بيت للسكنى، والقلب كذلك، لكنه لا يزال ينبض، ولم يصِبه الهرم.

قالت مرة وهي تبتسم في دلال:

إذا مُت يا إبراهيم، ماذا ستفعل؟

فأجابها بنية اختبارية:

ـ سألبس الحداد، وبعد ذلك سأتزوج.

ابتسمت ولم تنبس بكلمة، لكنه استطرد

ـ لا تكرري هذا القول، فقد يستحيل العيش بعد العشرة.

انحدرت دمعة على خده فكانت علامة واضحة على صبره المنهوك ووقف بعد جمود وتأمل، وجعل ينزل في اتجاه آخر إلى البحر متداركا الصخور ، وفي الأسفل كان الصيادان قد انتهيا، ففككا صنارتيهما وحمل أحدهما الدلو ومضيا يصعدان إلى الأعلى فلم يتبينا الشيخ، لكنهما عثرا على صورة صغيرة لإمرأة في غاية الجمال بجانب الصخرة التي كان يجلس فوقها، تظهر على وجهها ابتسامة مشرقة، فتساءل أحدهما قائلا: لمن هذه الصورة يا ترى ؟
نظرا كليهما إلى أمواج البحر التي كانت كقبضات مسددة تتكسر عند الضفة، وكانت الشمس تأذن بالرحيل

فهز الآخر رأسه بحزن وقال:
ـ ربما هي زوجة ذلك الشيخ، فلم يعد في حاجة إلى الصورة، لأنه قد لَحق بها الآن، فلنذهب يا صاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يعود للمحكمة في قضية شراء صمت الممثلة الإباحية


.. المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان




.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير


.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام




.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي