الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دبلوماسية الكهرباء

عبدالله المدني

2005 / 7 / 25
الادارة و الاقتصاد


موافقة كوريا الشمالية في التاسع من الشهر الجاري على العودة إلى طاولة المفاوضات السداسية مع كوريا الجنوبية و الولايات المتحدة و اليابان و الصين و روسيا حول برامجها النووية من بعد تشدد، يعزوه المراقبون إلى أمرين: الأول تأكيد واشنطون مؤخرا أنها تنظر إلى كوريا الشمالية كدولة ذات سيادة ولا تفكر أبدا في مهاجمتها عسكريا، و الثاني – وهو الأهم في تقديري- إطلاق سيؤول مبادرة حول تزويد بيونغيانغ بالطاقة الكهربائية إن تخلت الأخيرة عن مشاريعها النووية و التي لطالما بررتها بحاجتها الماسة للطاقة.

ورغم أن الإفصاح عن المبادرة الكورية الجنوبية جاء بعد ثلاثة أيام من الإعلان الكوري الشمالي، فانه من المؤكد أنها كانت نتاج عمل دبلوماسي سابق في اتجاهي بيونغيانغ و واشنطون قاده وزير شئون الوحدة الكوري الجنوبي تشونغ دونغ يونغ. فالأخير زار بيونغيانغ في يونيو الماضي وقابل زعيمها كيم جونغ ايل لعرض المبادرة عليه، ثم انتقل في أوائل الشهر الجاري إلى واشنطون لوضع كبار المسئولين الأمريكيين في الصورة و طلب تأييدهم، و هو ما يبدو انه نجح فيه بدليل وصف وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس للمبادرة بأنها "فكرة خلاقة جدا" وقولها انه من السهل إدراج المسألة ضمن اولويات المفاوضات السداسية التي ستستأنف في 25 يوليو الجاري في بكين من بعد انقطاع دام 13 شهرا. وهذا يختلف قليلا عن موقف واشنطون السابق والذي كان يشدد على ضرورة تخلى بيونيانغ أولا عن برامجها وكل أسلحتها النووية المفترضة و ضرورة التثبت من ذلك كشرط للبحث في كيفية مساعدتها، الأمر الذي فسره بعض المراقبين بحاجة واشنطون المنهكة من تداعيات الوضع في العراق وأفغانستان إلى التخلص من موضوع الصداع الكوري سريعا.

وفيما يتعلق ببيونغيانغ ، فهي لئن استغلت دبلوماسية الكهرباء الكورية الجنوبية للعودة إلى طاولة المفاوضات فإنها لم تعط حتى الآن ردا قاطعا حول مبادرة جارتها سواء بالقبول أو الرفض ، مما يشير إلى احتمال عزمها على طلب ضمانات و فرض شروط واستجداء أشياء أخرى كثمن للموافقة مثلما اعتادت دائما. و في هذا السياق يمكن توقع إصرارها على أن تقوم جارتها بتزويدها بالطاقة الكهربائية من خلال محطات توليد تبنيها الأخيرة داخل أراضي كوريا الشمالية أو في المنطقة الحدودية منزوعة السلاح، وليس من خلال شبكات إمداد ، وذلك كيلا تظل مفاتيح الطاقة في يد سيؤول وحدها فتغلقها في حالة حدوث خلافات.

في تفاصيل العرض الكوري الجنوبي، تقوم سيؤول بتزويد جارتها بمليوني كيلووات من الكهرباء - أي نصف إجمالي حاجة الأخيرة أو اقل من ثلث فائض الطاقة في كوريا الجنوبية و البالغ حاليا نحو 6.7 مليون كيلووات - من خلال ربط محطات توليد الطاقة في الشمال بمثيلاتها في الجنوب عبر أبراج تقام في المنطقة منزوعة السلاح. وتقدر تكاليف هذا المشروع الذي سيستغرق تنفيذه ثلاثة أعوام بحوالي 2.5 بليون دولار، يمكن أن يرتفع إلى 5 بلايين في حالة الاضطرار إلى تحديث شبكات الكهرباء المهترئة في الشمال . وفي هذه الأثناء و حتى عام 2008 تلتزم سيؤول و حليفاتها بتزويد كوريا الشمالية بحاجتها من النفط و الوقود. إلى ذلك فان العرض يشتمل على استثمار كوري جنوبي في قطاع المناجم في الشمال و تعهد بشراء إنتاجه من المعادن.

ورغم المصاعب الفنية المتوقعة كنتيجة لاختلاف أنظمة الكهرباء في البلدين و الفرق الشاسع بينهما من ناحية التقنيات و درجة التطور، ورغم التكلفة العالية للمشروع و التي ستتحملها سيؤول بمفردها في وقت لا يبدو اقتصادها في أحسن حالاته، فان قادة الجنوب عازمون على ما يبدو على المضي قدما في الفكرة و الدفاع عنها داخليا و خارجيا انطلاقا من مبدأ أن السلام والاستقرار في المنطقة يستحقان أي تضحية و مهما كانت عالية. ففي الداخل واجه زعماء الجنوب معارضة البعض بالقول أن المبادرة استثمار من أجل المستقبل و خطوة تكاملية على طريق وحدة شبه الجزيرة الكورية. كما أنهم ردوا على فرضية تردد بيونغيانغ في قبول المبادرة تحت مخاوف تحكم الجنوب في مفاتيح الطاقة الكهربائية بالقول أن عرضهم سيوثق في حال القبول به في اتفاقية دولية وضمن عملية بناء الثقة و السلام بين الكوريتين. و خارجيا حيث لا تزال المواقف الأمريكية و الكورية الجنوبية حيال كيفية التعاطي مع النظام الستاليني الشمالي غير منسجمة تماما ، وحيث تصر اليابان على عدم التنازل أو الاستجابة لأي مطلب كوري شمالي قبل أن تكشف بيونغيانغ عن مصير مواطنين يابانيين اختطفتهم في الثمانينات بحجة التجسس عليها، راحت سيؤول تدافع عن دبلوماسية الكهرباء قائلة أن مبادرتها بديل عملي لمشروع عام 1994 الموقع بين واشنطون و بيونغيانغ و القاضي بتزويد كوريا الشمالية بمفاعلين نوويين للأغراض السلمية على أن تتحمل كوريا الجنوبية 75 بالمئة من كلفته البالغة 3.5 بليون دولار و تتحمل اليابان و الولايات المتحدة الباقي. هذا المشروع الذي جمد في عام 2002 بانسحاب واشنطون منه احتجاجا على عدم وفاء بيونغيانغ بالتزاماتها و سعيها سرا لإنتاج الأسلحة النووية، نفذ منه الثلث و كان مدار جدل واسع في جولات المفاوضات السداسية السابقة في ظل إصرار بيونغيانغ على إكماله و الحصول على تعويضات مناسبة لتأخر تنفيذه، ومعارضة واشنطون و طوكيو للمضي فيه بحجة أنهما تعرضا لحيلة لا يمكن بعدها الاطمئنان لنوايا حكام بيونغيانغ.

في المقارنة ما بين إمكانيات الكوريتين الكهربائية نجد الآتي: تعتبر كوريا الجنوبية ذات الثمانية و الأربعين مليون نسمة سادسة دول العالم لجهة إنتاج الطاقة الكهربائية - أنتجت في العام الماضي نحو 342 بليون كيلووات - و التي يستخدم في توليدها النفط و الغاز و الفحم و الطاقتين النووية و الهيدروليكية. وتفيد الإحصائيات الرسمية أن طاقة البلاد الإنتاجية في عام 2003 كانت في حدود 59 مليون كيلووات - 40 في المئة منها من محطات نووية – وان حاجتها تتزايد بمعدل 4 بالمئة سنويا حتى عام 2015. أما كوريا الشمالية ذات الاثنين والعشرين مليون نسمة فتبلغ طاقتها الإنتاجية طبقا للمصادر الكورية الجنوبية حوالي 7.8 مليون كيلووات لكنها بسبب نقص الوقود لا تنتج سوى ثلث هذه الكمية. وهذا لم يسبب الشلل لنحو ثلثي صناعاتها فحسب وإنما اغرق أجزاء واسعة من البلاد بما في ذلك العاصمة في ظلام دامس. والذين زاروا هذه البلاد ، ككاتب هذه السطور، كان من السهل عليهم مشاهدة الطلبة و قد اجبروا تحت وطأة نقص الكهرباء على استذكار دروسهم تحت مصابيح قليلة متناثرة في الشوارع الرئيسية. وتبين الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية ليلا لشبه الجزيرة الكورية جزءا جنوبيا تتلألأ فيه الأضواء و جزءا شماليا حالك السواد.

د. دبلوماسية الكهرباء

بقلم: د. عبدالله المدني*

موافقة كوريا الشمالية في التاسع من الشهر الجاري على العودة إلى طاولة المفاوضات السداسية مع كوريا الجنوبية و الولايات المتحدة و اليابان و الصين و روسيا حول برامجها النووية من بعد تشدد، يعزوه المراقبون إلى أمرين: الأول تأكيد واشنطون مؤخرا أنها تنظر إلى كوريا الشمالية كدولة ذات سيادة ولا تفكر أبدا في مهاجمتها عسكريا، و الثاني – وهو الأهم في تقديري- إطلاق سيؤول مبادرة حول تزويد بيونغيانغ بالطاقة الكهربائية إن تخلت الأخيرة عن مشاريعها النووية و التي لطالما بررتها بحاجتها الماسة للطاقة.

ورغم أن الإفصاح عن المبادرة الكورية الجنوبية جاء بعد ثلاثة أيام من الإعلان الكوري الشمالي، فانه من المؤكد أنها كانت نتاج عمل دبلوماسي سابق في اتجاهي بيونغيانغ و واشنطون قاده وزير شئون الوحدة الكوري الجنوبي تشونغ دونغ يونغ. فالأخير زار بيونغيانغ في يونيو الماضي وقابل زعيمها كيم جونغ ايل لعرض المبادرة عليه، ثم انتقل في أوائل الشهر الجاري إلى واشنطون لوضع كبار المسئولين الأمريكيين في الصورة و طلب تأييدهم، و هو ما يبدو انه نجح فيه بدليل وصف وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس للمبادرة بأنها "فكرة خلاقة جدا" وقولها انه من السهل إدراج المسألة ضمن اولويات المفاوضات السداسية التي ستستأنف في 25 يوليو الجاري في بكين من بعد انقطاع دام 13 شهرا. وهذا يختلف قليلا عن موقف واشنطون السابق والذي كان يشدد على ضرورة تخلى بيونيانغ أولا عن برامجها وكل أسلحتها النووية المفترضة و ضرورة التثبت من ذلك كشرط للبحث في كيفية مساعدتها، الأمر الذي فسره بعض المراقبين بحاجة واشنطون المنهكة من تداعيات الوضع في العراق وأفغانستان إلى التخلص من موضوع الصداع الكوري سريعا.

وفيما يتعلق ببيونغيانغ ، فهي لئن استغلت دبلوماسية الكهرباء الكورية الجنوبية للعودة إلى طاولة المفاوضات فإنها لم تعط حتى الآن ردا قاطعا حول مبادرة جارتها سواء بالقبول أو الرفض ، مما يشير إلى احتمال عزمها على طلب ضمانات و فرض شروط واستجداء أشياء أخرى كثمن للموافقة مثلما اعتادت دائما. و في هذا السياق يمكن توقع إصرارها على أن تقوم جارتها بتزويدها بالطاقة الكهربائية من خلال محطات توليد تبنيها الأخيرة داخل أراضي كوريا الشمالية أو في المنطقة الحدودية منزوعة السلاح، وليس من خلال شبكات إمداد ، وذلك كيلا تظل مفاتيح الطاقة في يد سيؤول وحدها فتغلقها في حالة حدوث خلافات.

في تفاصيل العرض الكوري الجنوبي، تقوم سيؤول بتزويد جارتها بمليوني كيلووات من الكهرباء - أي نصف إجمالي حاجة الأخيرة أو اقل من ثلث فائض الطاقة في كوريا الجنوبية و البالغ حاليا نحو 6.7 مليون كيلووات - من خلال ربط محطات توليد الطاقة في الشمال بمثيلاتها في الجنوب عبر أبراج تقام في المنطقة منزوعة السلاح. وتقدر تكاليف هذا المشروع الذي سيستغرق تنفيذه ثلاثة أعوام بحوالي 2.5 بليون دولار، يمكن أن يرتفع إلى 5 بلايين في حالة الاضطرار إلى تحديث شبكات الكهرباء المهترئة في الشمال . وفي هذه الأثناء و حتى عام 2008 تلتزم سيؤول و حليفاتها بتزويد كوريا الشمالية بحاجتها من النفط و الوقود. إلى ذلك فان العرض يشتمل على استثمار كوري جنوبي في قطاع المناجم في الشمال و تعهد بشراء إنتاجه من المعادن.

ورغم المصاعب الفنية المتوقعة كنتيجة لاختلاف أنظمة الكهرباء في البلدين و الفرق الشاسع بينهما من ناحية التقنيات و درجة التطور، ورغم التكلفة العالية للمشروع و التي ستتحملها سيؤول بمفردها في وقت لا يبدو اقتصادها في أحسن حالاته، فان قادة الجنوب عازمون على ما يبدو على المضي قدما في الفكرة و الدفاع عنها داخليا و خارجيا انطلاقا من مبدأ أن السلام والاستقرار في المنطقة يستحقان أي تضحية و مهما كانت عالية. ففي الداخل واجه زعماء الجنوب معارضة البعض بالقول أن المبادرة استثمار من أجل المستقبل و خطوة تكاملية على طريق وحدة شبه الجزيرة الكورية. كما أنهم ردوا على فرضية تردد بيونغيانغ في قبول المبادرة تحت مخاوف تحكم الجنوب في مفاتيح الطاقة الكهربائية بالقول أن عرضهم سيوثق في حال القبول به في اتفاقية دولية وضمن عملية بناء الثقة و السلام بين الكوريتين. و خارجيا حيث لا تزال المواقف الأمريكية و الكورية الجنوبية حيال كيفية التعاطي مع النظام الستاليني الشمالي غير منسجمة تماما ، وحيث تصر اليابان على عدم التنازل أو الاستجابة لأي مطلب كوري شمالي قبل أن تكشف بيونغيانغ عن مصير مواطنين يابانيين اختطفتهم في الثمانينات بحجة التجسس عليها، راحت سيؤول تدافع عن دبلوماسية الكهرباء قائلة أن مبادرتها بديل عملي لمشروع عام 1994 الموقع بين واشنطون و بيونغيانغ و القاضي بتزويد كوريا الشمالية بمفاعلين نوويين للأغراض السلمية على أن تتحمل كوريا الجنوبية 75 بالمئة من كلفته البالغة 3.5 بليون دولار و تتحمل اليابان و الولايات المتحدة الباقي. هذا المشروع الذي جمد في عام 2002 بانسحاب واشنطون منه احتجاجا على عدم وفاء بيونغيانغ بالتزاماتها و سعيها سرا لإنتاج الأسلحة النووية، نفذ منه الثلث و كان مدار جدل واسع في جولات المفاوضات السداسية السابقة في ظل إصرار بيونغيانغ على إكماله و الحصول على تعويضات مناسبة لتأخر تنفيذه، ومعارضة واشنطون و طوكيو للمضي فيه بحجة أنهما تعرضا لحيلة لا يمكن بعدها الاطمئنان لنوايا حكام بيونغيانغ.

في المقارنة ما بين إمكانيات الكوريتين الكهربائية نجد الآتي: تعتبر كوريا الجنوبية ذات الثمانية و الأربعين مليون نسمة سادسة دول العالم لجهة إنتاج الطاقة الكهربائية - أنتجت في العام الماضي نحو 342 بليون كيلووات - و التي يستخدم في توليدها النفط و الغاز و الفحم و الطاقتين النووية و الهيدروليكية. وتفيد الإحصائيات الرسمية أن طاقة البلاد الإنتاجية في عام 2003 كانت في حدود 59 مليون كيلووات - 40 في المئة منها من محطات نووية – وان حاجتها تتزايد بمعدل 4 بالمئة سنويا حتى عام 2015. أما كوريا الشمالية ذات الاثنين والعشرين مليون نسمة فتبلغ طاقتها الإنتاجية طبقا للمصادر الكورية الجنوبية حوالي 7.8 مليون كيلووات لكنها بسبب نقص الوقود لا تنتج سوى ثلث هذه الكمية. وهذا لم يسبب الشلل لنحو ثلثي صناعاتها فحسب وإنما اغرق أجزاء واسعة من البلاد بما في ذلك العاصمة في ظلام دامس. والذين زاروا هذه البلاد ، ككاتب هذه السطور، كان من السهل عليهم مشاهدة الطلبة و قد اجبروا تحت وطأة نقص الكهرباء على استذكار دروسهم تحت مصابيح قليلة متناثرة في الشوارع الرئيسية. وتبين الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية ليلا لشبه الجزيرة الكورية جزءا جنوبيا تتلألأ فيه الأضواء و جزءا شماليا حالك السواد.

د. عبدالله المدني
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 24 يوليو 2005
البريد الالكتروني: [email protected]



*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 24 يوليو 2005
البريد الالكتروني: [email protected]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعديلات في حقائب وزارية منها الدفاع والخارجية والبترول والما


.. الصحفية الاقتصادية سمر الماشطة توضح موعد ارتفاع الأسعار هذا




.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 3 يوليو 2024 في محلات الصاغة


.. الإمارات والسعودية ما بعد -أفول شمس النفط- .. تنويع اقتصادي




.. تونس تستعد لانتخابات رئاسية في أكتوبر وسط أزمات سياسية واقتص