الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أقاصيص الأمير

صبحي حديدي

2005 / 7 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


إلى أن تكشف الأيام ألغاز استقالة الأمير بندر بن سلطان من سفارة السعودية في واشنطن ــ وهو المنصب "المزمن" الذي امتدّ طيلة عقدين، وانطوى على صداقة خاصّة وثيقة مع الرئيسين جورج بوش الأب والإبن، وأكسبه اللقب الظريف "بندر بوش" ــ في وسع المرء أن يستعيد اثنتين أو ثلاثاً من الأقاصيص التي تحمل بصمة الأمير، والتي لم تكن ـ أو بالأحرى: لم تعد ـ في باب الألغاز.
فلنبدأ من الحداثة، أو ما بعد الحداثة ربما. فعلى التخوم القريبة من مدينة الرياض السعودية يجثم صرح معماري ضخم حديث، ينبثق مثل واحة من المرمر الأبيض وسط مساحات موحشة من الصحراء الجرداء، هو «مركز الملك فهد الثقافي» حسب التسمية الرسمية. لكنه، أيضاً، «دار الأوبرا السعودية» حسب التسمية المعتمدة في الأوساط الدبلوماسية الأجنبية، والتي لا تجانب الصواب إذا صدقت التفاصيل التي يسردها جون لانكستر، مراسل صحيفة «لوس أنجلس تايمز».
ذلك لأنّ التصميم الأصلي لهذا الصرح المعماري المستقبلي بدأ كدار أوبرا بالفعل، باقتراح من الأمير الحداثي الذي رغب في تحويل مدينة الرياض إلى عاصمة عصرية... قالباً ربما، ولكن ليس قلباً تماماً. أحد المشاريع كان تشييد مجمّع ثقافي شامل، لم يُنفّذ منه سوى مسبح ضخم وصالة العروض الموسيقية هذه، والتي تعدّ واحدة من أشدّ دور الأوبرا تعقيداً في العالم: ثلاثة آلاف كرسي، إضاءة بالليزر، خشبة مسرح هيدروليكية، صالات استراحة وتدخين وقصف مؤثثة على الطراز الإكزوتيكي لقصص ألف ليلة وليلة، 180 كادر عامل في التشغيل والإدارة، و140 مليون دولار كلفة مبدئية.
ولكن تشييد هذا الصرح الحضاري انتهى في واحد من أسوأ ما عرفته المملكة العربية السعودية من أزمنة سياسية، أي قبيل الاجتياح العراقي للكويت وتقاطر عشرات الآلاف من العسكر الأمريكيين والأمريكيات إلى الديار السعودية. ولقد جرت مشاورات جدّية حول حساسيات إضافة مشهد «حداثي» غربي جديد إلى مشهد المجندات الأمريكيات وهنّ يذرعن الشوارع والأسواق بالشورت القصير أو على متن سيارة جيب عسكرية مكشوفة. وهكذا تمّ تجميد الإستعدادات لافتتاح دار الأوبرا، ثم تأجل الافتتاح إلى ما بعد انتهاء عمليات «عاصفة الصحراء»، وتأجل بعدئذ إلى أجل غير مسمّى. ولم يكن أمام جون لانكستر سوى الذهاب إلى التفسير الكلاسيكي حول التوتر بين الحداثة والتقليد، في الشرق الأوسط إجمالاً وفي السعودية بصفة خاصة، فأسند مسألة تجميد دار الأوبرا إلى عمليات الشدّ والجذب بين الأسرة الحاكمة (التي تريد الحداثة، بعضها أو كلها)، وطائفة «العلماء» ورجال الدين (الذين يريدون العكس، بطبيعة الحال). كذلك اكتشف صاحبنا أن المرونة هي سيّدة الأحكام هنا، ونقل على لسان الأمير بندر قوله إن الأسرة الحاكمة تتعامل مع رعاياها بالمنطق الذي يحكم العلاقة بين رجلين يمسك كلّ منهما بطرف خيط رفيع: إذا شدّ الأول، أرخى الثاني، والعكس صحيح.
هي، إذاً، شعرة معاوية دون سواها، إذا شئنا ردّ ذهن الأمير إلى خلفيته العربية. ولكنّ تقرير «لوس أنجلس تايمز» يبرهن أن علاقات الشعرة تبدو أحادية ومقتصرة على الإرخاء من طرف السلطة دون الشدّ من طرف العلماء، أو الإرخاء الأقصى إتقاء لشرّ شدّ محتمل لكنه لم يحدث البتة. في جانب آخر من الأمر، اعتمد المسؤولون في وزارة الإعلام السعودية سياسة «التطنيش» التام عن وجود المبنى نفسه، وأحد هؤلاء قال للصحيفة: «بصراحة، لم أسمع بالمشروع. ولكن ما الفائدة منه في كل حال؟ من أجل هزّ البطن»؟
قصّة ثانية. في صبيحة 16 كانون الثاني (يناير) 1991، وبعد أيّام معدودات على فشل لقاء جنيف الشهير بين طارق عزيز وجيمس بيكر، اتصل الأمير بندر بن سلطان بالملك فهد ليقول له، بعد وصلة تمويه قصيرة تضمّنت السلام والسؤال عن الصحّة: «صاحبنا سليمان قادم الساعة الثالثة صباحاً. إنه مريض، وٍلهذا أنا أرسله إليكم». وكان، بالطبع، يُعْلِم مليكه بالتوقيت الدقيق لاندلاع العمليات الجوية ضدّ بغداد، إذْ في الساعة ذاتها كانت قاذفات الـ B-52 تقلع من قاعدة باركسديل، لويزيانا، في طريقها إلى الخليج. ولقد تردّد آنذاك أنّ الأمير السعودي كان على علم بتوقيت وتفاصيل الخطة العسكرية، قبل أن يعلم بها العشرات من أصحاب الحقّ الشرعي في معرفة تلك المعلومات الحساسة. كذلك يتردد اليوم أنه أحيط علماً بخطة وتوقيتات غزو العراق 2003، قبل أن تبلغ أسماع وزير الخارجية ورئيس الأركان السابق كولن باول!
قصة ثالثة، وأخيرة: في كتابه الشهير "الآمرون"، والذي صدر سنة 1991 وكشف النقاب عن الكثير من الأسرار المثيرة التي اكتنفت عمليات "عاصفة الصحراء"، يروي الصحافي الأمريكي المعروف بوب ودورد أنّ الأمير بندر والسعوديين إجمالاً يحملون للكويت "احتقاراً عميقاً"، ويرون في العائلة الكويتية الحاكمة "طبقة تجّار ليس لها إلا القليل من سمات الهوية". أكثر من هذا، يتابع ودورد، "إذا كان الأمير صحبة أصدقائه المقرّبين، وأراد التوجّه إلى المغاسل، فإنه كان يقول: سأذهب إلى الكويت"!
أمير كهذا لا بدّ أن يترك وراءه فراغاً... وأيّ فراغ!











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس