الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوية وغربة الإنسان في عالم معولم

سعد محمد رحيم

2014 / 6 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


استدعى احتداد النقاش في صلب موضوعة العولمة وما يتصل بها، منذ تسعينيات القرن المنصرم، نقاشاً موازياً حول موضوعة الهوية وإشكالاتها. فمثّلت العولمة تحدياً بيّناً لهويات الأشخاص والجماعات في مختلف أركان الأرض. لأنها باتت تكسر الحواجز والحدود لاسيما في مجال الاتصال بين الأفراد والفئات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني وبقية المؤسسات. فشأنها لا يتعلق بعالم المال والأعمال والأسواق والاقتصاد وحسب بل يتعداه إلى ضفة المجتمع والسياسة والتعليم والإعلام والثقافة. من هنا أحاطت بهذه الموضوعة ( العولمة ) المخاوف والشكوك والتساؤلات المقلقة لتصبح عند بعضهم شبحاً شريراً يهدد بنى المفاهيم والمعتقدات والأخلاق والقيم والتقاليد وشكل الانتماءات في الصميم. في مقابل من خلع عليها آمالاً عريضة. لذا حشِّدت مفردة/ اصطلاح العولمة بمعاني ودلالات كثيرة، متسقة أحياناً، ومتناقضة أحياناً أخرى، بتأثير تلكم المخاوف والآمال، فضلاً عن عوامل أخرى.
العولمة ظاهرة العصر؛ ظاهرة كونية واسعة إنْ أخذناها بمعناها المجرد والمحيّد سياسياً كونها إكساء الأشياء بطابع عالمي وانفتاح الثقافات والحضارات والنظم الاقتصادية والأسواق بعضها على بعض يكون من العبث عندئذٍ ( تحدّيها ومواجهتها ومحاربتها ). ذلك أن العولمة ليست تياراً فكرياً مثل الماركسية والليبرالية وغيرها، وليست منظومة إيديولوجية واحدة متماسكة، أو جملة سياسات متوافقة تصدر من مركز بعينه نحو المراكز الأخرى والأطراف كالرأسمالية في مرحلتها الصناعية والكولونيالية وإن مثلت مقترح الرأسمالية لحقبة ما بعد الحرب الباردة.. إنها ظاهرة متشعبة، معقدة ذات قدرة شمولية، إنها المنظومة الأكثر شمولية، ربما، في التاريخ. والمقصود بالشمولية في هذا السياق هو أن العولمة نظام مرن ذو نفاذية عالية يخترق البنى والمؤسسات والثقافات والاقتصاديات والمجتمعات والظاهرات الاجتماعية جاعلة إياها أمام أمر واقع هو أن عليها أن تتكيف وتطوِّر أفكاراً ووسائل وآليات للتعامل مع معطيات في عوالم التقنية والعلوم والاتصالات والإعلام والثقافة والاقتصاد ( كلها لها بعدها العالمي )، لم تكن معروفة من قبل. من هنا فالعولمة فضاء كوني، جميعنا حُشرنا فيه ولا مكان آخر لنهرب إليه، لذا يكون القول بمعاداة العولمة مضللاً لأنه يقود إلى الجبهة الخاطئة.. الصحيح هو الكشف عن، ومواجهة استراتيجيات عولمية مصمَّمة في مراكز قرار ومؤسسات سياسية واقتصادية واستخبارية تقصد الاستحواذ على أكبر مساحة ممكنة من حيّز السلطة والثروة والنفوذ في العالم. فما يجب أن نفكر فيه أيضاً هو كيفية تصميم استراتيجيات فعل واقعي للمشاركة في الإنتاج العلمي والتقني والإعلامي والفني والمؤسساتي وهذه المرة انطلاقاً من أفق القيم الإنسانية المشتركة؛ الحرية، العدالة، حقوق الإنسان، الحفاظ على البيئة الحيوية، التسامح، السلام، الخ...
إن التطوّرات الكبرى في حقول العلوم والمعارف والتقنيات هي الحصيلة النهائية لتفاعل عقول البشر وتواصلها وتثاقفها منذ آلاف السنين. وهي إرث مشترك بمعنى ما، لكنه إرث مصبوغ في راهن كينونته بقيم الغرب ونمط حياته. فالعالم الرأسمالي يصدِّر السلع الإنتاجية والاستهلاكية ويصدر معها الثقافة المصاحبة لها؛ أي نمط الحياة وأسلوب الاستعمال. وهناك سلع جديدة تغيّر من علاقة الإنسان بالزمان والمكان، ومن رؤيته إلى نفسه ومحيطه ( الحواسيب وما ترتبط بها من برمجيات وشبكة اتصالات ومواقع تواصل اجتماعي مثالاً ).
وفي عالم اليوم لم تعد الخصوصية تعني الانكفاء على الذات، والتخندق في مواجهة العالم وإنما التفاعل والتشارك من خلال سياقك التاريخي ومعطيات واقعك ورؤى ثقافتك مع ما يجري في كل مكان.. إن الذات التي تدخل في عمليات صراع وتحدٍ وتفاعل ستتبدل رؤاها عن نفسها وعن الآخر بهذه الدرجة أو تلك. وإذا كنا نتحدث عن وجود هويات متعددة لكل إنسان وليست هوية واحدة قارة ثابتة. ووجود تفضيلات يمنح من خلالها أهمية أكبر لهوية ما نسبة لبقية هوياته الأخرى، والتي قد يتنكر لبعضها أو لا يتنكر، فإن درجة الأهمية التي يمنحها لكل هوية تكون عرضة للتغيير تبعاً للتجربة وتبدلات الواقع بموجِّهاته ومعطياته، ولعمليات الاتصال والتفاعل بينه وبين الآخرين. حيث يتغير موقعه ودوره ووظيفته، ومن ثم رؤيته.. أي بعبارة مختصرة؛ إن هويته تخضع لعملية صيرورة وإغناء وتطور، أو لحالة انكفاء في ضوء استعداداته الذهنية والعاطفية، وتقلبات الأحوال والظروف. ولكن ليس ( آخر الغرب ) وحده من يجد هويته موضع التباس وتشكيك وتهديد، بل الغربي نفسه يجد الأمر كذلك.. إن ما يجعل العالم يتحوّل هو الذي يقوم، في الوقت نفسه، بتغيير شكل ومحتوى رؤية الإنسان إلى ذاته وإلى آخره حيثما وجد.
ثمة فرق بين التنكر للذات وبين تحوّل الذات في ظل انعطافات تاريخية كبرى. وحين تفشل الذات في التكيّف مع التغيّرات والتعاطي معها لتكون أكثر فاعلية وإنتاجاً، أو حين يخفق المشروع المصاحب لتلك التغيّرات في إدراج الذوات في مسارها المتصاعد تبرز أزمة الهوية. فالتحديث الذي لم يخلق نهضة حقيقية، عراقياً وعربياً، ترك تشققات مؤسية في صورة الذات والآخر.. الذات كما ترى نفسها وترى الآخر، وترى العالم الذي يرتقي حيناً ويتخبط حيناً آخر، من حولها.
كل احتكاك مع الآخر من شأنه إثارة سؤال الهوية مجدداً. وقد حصل هذا في مرحلة النهضة العربية التي كانت رد فعل، ونتاجاً لصدمة دخول الغرب إلى حياتنا مستعمِراً، وصاحب حضارة حديثة، أي قوة تحدٍ وتهديد من جهة، ومثالاً براقاً ومغوياً من جهة ثانية. وكان سؤال النهضة قاصراً لأنه، وإلى حد بعيد، لم يقترح الخروج من أسر الماضي ومثاله إلا عبر أطروحات محدودة بقيت هي الأخرى عاجزة بحكم تجنبها اقتحام زوايا صعبة وخطيرة من منطقة ( الممنوع التفكير فيه ). وبسبب ما تعرّض له دعاة النهضة من هجوم ضارٍ شنّه عليهم حرّاس ما يسميه محمد آركون بالسياج الدوغمائي المغلق. وحيث لم تتخلق كتلة اجتماعية تاريخية تتبنى النهضة اتجاهاً ومشروعاً واستراتيجيات عمل. وانتهت تلك المرحلة عملياً مع هزيمة حزيران وفشل الأحزاب الوطنية التي تبوأت كراسي الحكم في بناء دولة مؤسسات حقيقية وتحقيق الديمقراطية والتنمية المركّبة والعدالة الاجتماعية. وشكّل انتهاء حقبة الحرب الباردة إشارة منذرة وصارخة بأن ما كان لا يجب أن يستمر. وفي هذه الآونة فوجئنا بواقعة كونية جديدة أطلقوا عليها اصطلاح العولمة. ومن جديد عاد سؤال الهوية إلى مركز الانشغال الفكري، وهذه المرة بارتباك وحيرة أشد. والأدهى من ذلك أن من طرحه ليس الجزء المتنور والأعمق ثقافة من النخب المتعلمة وحسب، وإنما أيضاً تلك الفئات من أشباه المتعلمين ضيقي الأفق، وبشكل هستيري ولا عقلاني غالباً، أفضى إلى الانغلاق الفكري، ورفض التعاطي مع ممكنات العصر، والنتيجة، بطبيعة الحال، تقديس الانتماءات ما قبل الدولتية، وتفريخ المتعصبين وكارهي الحياة واليائسين، والداعين إلى العنف وتدمير العالم.
العولمة لم توحِّد العالم، وهي في الأصل لا تدعو إلى وحدة عالمية على أساس عدالة إنسانية شاملة.. يمكن القول أن العالم اليوم بتأثير بعض القيم الرائجة التي أطلقتها العولمة من ضمن ما أطلقت، هو أكثر تشظّياً وتمزقاً وتهيؤاً للصراعات العنفية. ولا أدري إن كان ما يجري هو عملية تعويم كبرى لإخراج المطمور والمكبوت والمهمَّش إلى السطح، وترك القوى التي تمثِّلها في حالة احتراب قاسية ستنتهي إلى توازنات جديدة على صُعد الأفكار والقيم والمؤسسات ونظم الحكم وأشكال العلاقات في حقول السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. أو إنْ كان هذا كله سيفضي إلى انتصار ما هو عقلاني وأخلاقي وعادل، أم أن العنف والفوضى والتعصب والتشاؤم هو الذي سيسود أخيراً.
إن العولمة بقدر ما تفتح آفاقاً للتواصل الاجتماعي بقدر ما تعمِّق فردانية المرء وعزلته الاجتماعية. إنها تنتج عوامل جديدة للاغتراب، منها:
ـ السرعة الهائلة في التحولات الحاصلة على الصعد كافة، والتي لم يعد بإمكان الإنسان استيعابها والتكيف معها.
ـ السيل المتدفق من المعلومات والأخبار المتباينة على مدار الساعة، والتي تجعل صورة العالم غائمة ومشوشة أكثر منها واضحة.
ـ الحاجات الجديدة التي فرضتها التقنيات الحديثة ووسائط الإعلام والإعلان والترويج، والتي لم يعد بإمكان نسبة عالية من السكان تلبيتها.
ـ شعور الفرد بالضآلة والضعف والعجز أمام آلة النظام الرأسمالي الجبارة، وغموض ما يحيط به والتباسه.
ـ وعي الإنسان بأن ما يحصل عليه ليس الحرية بل وهم الحرية.
ـ لم يعد هناك منتج إنساني يفلت من مقتضيات السوق.. الأدب والفن والرياضة والتسليات الصغيرة كلها أضحت أغراضاً مسلّعة قابلة للمبادلة في ضوء قانون العرض والطلب وتوازناته.
ـ التواصل عبر العالم الافتراضي سلب شحنة الحميمية التي كانت عليها التواصل الاجتماعي المباشر، وجهاً لوجه، بين الأفراد.. وهذا ما يخلق إحساساً بالعزلة والغربة من نوع غير مألوف.
ـ إدراك الإنسان حقيقة أن جسده الذي هو أكثر ما يفترض أنه يملك لم يعد ملكه، وإنما هو واقع في خضم عمليات إخضاع واستثمار من قبل سلطات تتنازع للفوز بملكيته.
ـ أن تستهلك ما لست بحاجة إليه، وأن تنفق دخلك في مسالك تتناقض مع ما كانوا يسمّونه ( السلوك الاقتصادي الرشيد ). وهذا يلقيك في حالة من الاغتراب يوازي ويناظر ما تحدّث عنه ماركس فيما يخص اغتراب العامل عن نتاج عمله ليستحيل استملاك شيء من نتاج العمل عبودية من نوع مختلف؛ أن تُزيَّف رغباتك، وأن تُروَّض في فضاء النظام المرسومة أدواره الاجتماعية بدقة، وأن تُستَغل بطريقة مواربة وماكرة.. أن تعمل أبداً من أجل إدامة النظام ليستمر باستغلالك!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل جنديين إسرائيليين بهجوم نفذته مسيرة لحزب الله | #غرفة_ا


.. صاعد المواجهات بين الجيش السوداني والدعم السريع | #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: دخولنا إلى رفح خطوة مهمة جدا وجيشنا في طريقه للقضاء


.. أسامة حمدان: الكرة الآن في ملعب الإدارة الأمريكية التي عليها




.. مياه الفيضانات تغمر طائرات ومدرجات في مطار بجنوب البرازيل