الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غربة

رافع الصفار

2014 / 6 / 11
الادب والفن


غربة

قصة: رافع الصفار

هذه القصة مهداة الى تاتيانا إيفانوفا ديميتروفا


شهر يناير. الضوء الشاحب يزداد شحوبا مع اقتراب المساء. جلس وحيدا عند النافذة المطلة على الشارع المقفر يتأمل ندف الثلج المندفعة في إيقاعات راقصة لتغمر الفضاء، وتلقي بغلالتها البيضاء فوق الأشجار الجرداء والبنايات الكالحة والأرض. قالت متسائلة:
- ماذا تريد للعشاء؟
حاول أن يشرح لها حالته المستعصية. قال لها بأن كآبة من نوع غريب تستقر في صدره، تمسك أنفاسه, وتوشك أن تخنقه. عادت تسأله، وكانت تقف عند باب المطبخ:
- بيرة أم نبيذ؟
تطلع إليها وهو يستعيد بضع لحظات جميلة.
- ربما كأس نبيذ أحمر مع قطعة نقانق محشوة بالجبن الأصفر.
جاءه صوتها عبر التلفون حازما وحاسما:
- لا تخرج من البيت، الجو شديد البرودة.
سكتت للحظة كأنها تمضغ شيئا في فمها. عادت لتقول:
- هل تسمعني؟ لا تخرج..... سأجلب لك كل حاجياتك.....
على الرصيف المقابل، تراءى له شيء يتحرك تحت الثلج. دنا برأسه من زجاج النافذة كي يراقب ذلك الشيء المتحرك. لم يكن كلبا، وصوفيا كما يعرف الجميع تعج بالكلاب السائبة. كان أصغر من أن يكون كلبا، مغطى بالثلج تماما ويتحرك حول نفسه في دوائر ضيقة مغلقة، ثم يتوقف. تمرق سيارة تاكسي بيضاء من الأعلى صفراء من جوانبها، فتضيع ملامحه. لكنه يظل مشدودا إلى تلك البقعة حيث تحرك ذلك الشيء ثم اختفى. كان على يقين من وجود ذلك الكائن في موضعه تحت الثلج يبحث عن وسيلة للخروج من مأزقه.
ويتبادر إلى ذهنه احتمال آخر. ربما لفظ آخر أنفاسه وانتهى. توقفت فيه الحياة فما عادت فيه حاجة للحركة والبحث عن وسيلة للنجاة، أو بمعنى آخر البقاء في نطاق عالم المتحركين. ولكن لا. مازالت هناك حركة تحت الثلج.
المصباح المتدلي من العمود المنتصب في نفس البقعة مضاء، وندف الثلج المنهمرة ترسم خطوطا قصيرة مستقيمة تخترق أشعة الضوء المنبعثة من المصباح. تحت العمود مباشرة كانت البقعة التي تحركت تحت الثلج ثم همدت.
في الربيع وعندما تسنح للشمس أن تنسل من بين السحب المتناثرة في أرجاء السماء الزرقاء لتنشر غلالة رقيقة من الضياء البارد على الجدران وفوق الأشجار المبتلة والوجوه المنكمشة، يحلو له أن يكشف عن إحدى رغباته الصغيرة ويدعوها لتناول الغداء معه في (بايخريستو) عند قمة جبل (فيتوشا).
يستقلان (التلفريك) بمقاعده المكشوفة ويحلقان فوق الوادي الغارق في زحمة الخضرة المتشابكة، حيث يمتد بمحاذاته متعرجا إلى القمة طريق ضيقة يرتقيها المشاة ويهبط عبرها راكبو الدراجات..
ويحلق في الفضاء البارد. وجهه ملتصق بزجاج النافذة، وعيناه مشدودتان الى البقعة المتحركة تحت عمود الضوء. في تلك اللحظة بالذات تملكه تصميم مفاجئ وغريب راح يكبر في داخله ويستولي عليه. تحرك مبتعدا عن النافذة. تناول المعطف من على المشجب وارتداه في حركتين سريعتين وهو في طريقه الى الباب الخارجي.
كانت تحاول أن تحشر المفتاح في قفل الباب عندما أمسك بالمقبض وسحبه اليه. تلاقت نظراتهما للحظة، وكان التساؤل واضحا في عينيها.
- الى أين؟
قال وهو ينظر الى شيء آخر غير وجهها:
- لن أتأخر
- ولكن الى أين؟
عاد يقول وهو يهبط السلالم بخطوات قصيرة سريعة:
- لن اتأخر...
في الشارع حيث العتمة الشاحبة والريح الباردة المحملة بندف الثلج تلتف حوله وتسفع وجهه، وقف متدثرا بمعطفه يتفحص الاشياء من حوله دون أن يغيب من مخيلته ذلك الشيء الذي تحرك تحت الثلج للحظة ثم همد تماما. تسمر في موضعه كأنه يبحث عن تلك اللحظة التي يقرر فيها طبيعة الخطوة التالية، لكن التردد ظل متشبثا بساقيه.
وكان الشارع مقفرا تماما. بخطوات قصيرة حذرة خشية الانزلاق دنا من حافة الرصيف وتوقف هناك. نظر الى اليمين ثم الى اليسار كي يتأكد من خلو الشارع من عربة قادمة من أحد الاتجاهين، ثم تهيأ للعبور...
لكنه لم يتحرك من موضعه. فوجئ بباب العمارة المقابلة يفتح وتطل منه امرأة قصيرة القامة محنية الظهر. وقفت في موضعها تحت الضوء الشحيح المنبعث من الداخل تتلفت حولها كأنها تبحث عن شيء معين، ولم يكن سهلا عليه في تلك العتمة الشاحبة أن يتبين بوضوح ملامح تلك المرأة. لكنها بعد أن تفحصت جانبي الرصيف ولم تدرك مبتغاها على مايبدو رفعت رأسها لتوسع منطقة بحثها. توقفت نظراتها عند الجانب الآخر من الطريق حيث كان واقفا في موضعه ونظراته تتجه اليها مباشرة. رفعت يدها ملوحة له، وخيل له أنها تدعوه اليه.
رغم حالة التردد التي أمسكت بساقيه، كانت رغبته في التفاعل مع تلك المرأة التي ظهرت أمامه فجأة تتحرك في خط تصاعدي متسارع. عاد يتفحص الشارع من الجانبين، وعندما تأكد له خلو الطريق من السيارات، دفع قدمه اليمنى الى حيث يختلط الثلج بالوحل، وكان عميقا حتى غاصت القدم الى الكاحل، وشعر بالبرودة تخترق جلده، لكنه لم يكترث لذلك كثيرا وتقدم متحركا باتجاه الجانب الاخر من الطريق وبالتحديد حيث تقف المرأة وليس بعيدا عنها تلك البقعة المغمورة بالثلج التي دبت فيها الحركة للحظة قبل أن تعود الى السكون ثانية. رفع صوته متسائلا وهو يدنو من حافة الرصيف بقدمين حذرتين، وحيث يصعب تحديد عمق الثلج المتراكم وطبيعة الارض التي قد تحوي حفرة عميقة الغور. وقف غير بعيد عن عمود الضوء وقال متسائلا:
- هل تبحثين عن شيء ما سيدتي؟
تقدمت المرأة ببطء الى الأمام وهي تحدق في محدثها كأنها تريد أن تتأكد من شخصيته. سألته:
- هل أنت من سكنة الحي؟ هل أعرفك؟
قال وهو يخرج يده اليمنى من جيب معطفه ويشير بالسبابة الى الوراء، بينما عيناه تتفحصان الجسد المتهالك لتلك المرأة التي توشك أن تغادر العقد الثامن من عمرها:
- أنا ساكن جديد.... في هذه العمارة..
ظلت المرأة تتفحص الرجل بعينين كليلتين، ولعلها في حالة من الدهشة لأنه تحدث بالبلغارية على الرغم من أن سحنته تؤكد أنه من جنسية أخرى. عاد يسألها وهو يعيد يده الى داخل جيب معطفه:
- هل تبحثين عن شيء؟
أومأت العجوز برأسها وعادت تتلفت حولها. قالت:
- يارا...، قطتي..
ورفعت يديها لترسمها في الهواء. أضافت قائلة:
- بيضاء مع بقعة سوداء فوق عينيها. اعتدت أن أفتح لها الباب كي تخرج لتقضي حاجتها ثم تعود، ولكنها اليوم ولسبب لا أدركه لم ترجع الى البيت....
وسألته بنبرة يائسة:
- هل رأيتها؟ هل رأيت قطتي؟
تصلبت عضلات رقبته وهو يحدق في وجه المرأة، لكنه لم يتكلم، وبحركة حذرة توجه بعينيه الى تلك البقعة التي تحركت للحظة ثم همدت. هل هي قطتها التي ترقد تحت الثلج؟ ولم يجرؤ على النطق بما يدور في رأسه، فالموقف دون شك لن يكون سارا وقد يسبب صدمة لهذه العجوز المسكينة. عادت تسأله:
- هل رأيتها؟
أخرج كفيه من جيبي معطفه وتقدم خطوة الى الأمام. قال وهو يرفع ذراعيه في الهواء:
- لا.. يا سيدتي، لم أر شيئا، في الواقع أنا خرجت للتو وكنت متوجها الى السوق القريب للتبضع عندما رأيتك....
اللعنة. دس يديه ثانية في جيبي معطفه، وأحنى رأسه ناحية بقعة الثلج القريبة من قدميه. ماذا لو أن القطة مازالت على قيد الحياة، وتركها مطمورة تحت الثلج مدة أطول سيكون سببا في موتها. الا يجدر به اذن أن يبادر في الحال الى انقاذها؟ أضاف قائلا وهو يدرك صعوبة المأزق الذي وضع نفسه فيه:
- ربما صعدت الى السطح، أو دخلت شقة أحدهم، هل سألت الجيران؟
تقلصت عضلات وجهها المتغضن، ثم قالت وهي تتأمل محدثها بعينين حزينتين:
- لا، لم أسأل، ولكن... يارا لم تفعل أمرا كهذا من قبل..
ما الذي حدث؟ رفع رأسه الى الأعلى متأملا ومفكرا. جاءت القطة المسكينة كي تقضي حاجتها تحت عمود الكهرباء فانهارت عليها كتلة الثلج المتجمعة فوق مظلة المصباح فطمرتها. أضاف قائلا:
- جربي، اسأليهم، لا أحد يدري...
دارت العجوز حول نفسها متفحصة المكان ثم تحركت باتجاه باب العمارة وهي تقول:
- سأسألهم....
توقفت عند الباب واستدارت اليه لتقول:
- أنا أسكن في الدور الأول، واسمي مكتوب على باب الشقة، روميانا ايفانوفا، لو صادف ورأيتها في طريقك أرجو أن تجلبها لي، فهي وديعة واليفة...
تسمر في موضعه، عاجزا عن الحركة حتى بعد أن اختفت العجوز، رغم أنها تركت الباب مورابا يحدوها الأمل على مايبدو في عودة قطتها اليها. بينما راحت تتسرب منه رغبته في مغادرة المكان ليتحول تدريجيا الى شاهد لمثوى مخلوق شاءت الأقدار أن يتعرف عليه وهو ينازع آخر لحظه في حياته...

أبوظبي 7. 06. 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال




.. الفنان السعودي سعد خضر يكشف لـ صباح العربية سبب اختفائه عن ا


.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله




.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع