الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المقاطعة إلى المشاركة

خليل كلفت

2014 / 6 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


1: المقاطعة تاكتيك زمن الثورة: اتخذ كاتب هذه السطور منذ البداية الأولى تقريبا بعد الثورة الشعبية موقف المقاطعة ودعا إلى مقاطعة الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية باعتبارها إستراتيچية الثورة المضادة، أعنى النظام وحلفاءه، لإبعاد الحركة العفوية لجماهير الطبقات العاملة والشعبية والمحرومة والمعدمة وقياداتها العفوية عن الفعل الثورى الإضرابى فى سبيل السير بقوى الثورة فى اتجاه الطريق الإصلاحى الپرلمانى كجزء لا يتجزأ من إستراتيچية التصفية التدريجية للثورة الشعبية بحيث يتحقق هدفان أساسيان لهذه الإستراتيچية وهما تصفية الثورة، والاعتماد على تدريجيتها لتحقيق الهدف الثانى للثورة المضادة وهو تفادى الحرب الأهلية، وهذا، أعنى تفادى الحرب الأهلية، هدف مشترك للشعب والجيش، لأن من شأن الحرب الأهلية أن تدمِّر الطبقة الرأسمالية ودولتها بكل مؤسساتها التى تشمل الجيش والشرطة ولأن من شأنها أن تدمِّر الشعب ذاته. كان هذا موقفى منذ البداية الأولى تقريبا؛ وأقول "تقريبا" لأننى كنت قد سافرت فى رحلة علاجية إلى إيطاليا فى فترة الاستفتاء على التعديلات الدستورية. وهكذا كان تفادى الحرب الأهلية هو الهدف الأساسى للجيش؛ ولهذا أطاح بالرئيس الأسبق مبارك بانقلاب عسكرى، ولهذا أيضا أقامت المؤسسة العسكرية تحالفا اضطراريا مرحليًّا مع الأصولية الإسلامية الإرهابية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وكان الثمن الذى دفعه الشعب والجيش، على رأس السلطة، غاليًا للغاية (الاحتلال الإخوانى السلفى للدستور، ومجلس الشعب، ومجلس الشورى، ومؤسسة الرئاسة، والانقضاض على باقى مؤسسات الدولة، والأخونة المحمومة)؛ غير أن ذلك الثمن الغالى كان مرتخَصا فى سبيل تفادى الحرب الأهلية، لمصلحة الطبقة الحاكمة والدولة والجيش على رأسها والشعب جميعا.
2: المقاطعة بهدف التركيز على الفعل الثورى الإضرابى: وعلى هذا كانت المقاطعة تاكتيكا ملائما للثورة الشعبية مرحليًّا غير أن شرط نجاح المقاطعة وفاعليتها يتمثل فى التركيز على الفعل الثورى الإضرابى على الطريق الثورى والابتعاد تماما عن التركيز على الطريق الإصلاحى الدستورى الپرلمانى، طريق المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية. ذلك أن التركيز على السير فى الطريق الدستورى إنما يكون، بحكم جاذبيته الهائلة البديهية فى سياق انقضاض رهيب على الثورة الشعبية للسيطرة المؤسسية على تطوراتها، على حساب التركيز على السير فى طريق الفعل الثورى. وبالمشاركة يتحقق هدف التصفية التدريجية للثورة، وكانت ناجحة فى تحقيق هذا الهدف. وبالمقاطعة يتحقق تركيز قوى الثورة على الفعل الثورى. وتظل المقاطعة عاجزة أو مجرد كلمة فارغة جوفاء إذا هى لم تكن فى سياق التركيز المطلق على الفعل الثورى الفعلى فى الممارسة العملية؛ قبل أن يفوت الأوان.
3: المقاطعة ليست سلبية: ولم تكن المقاطعة الواعية سلبية بحال من الأحوال، ولم تكن المشاركة موقفا إيجابيا بل كانت سلبية حقا وصدقا، لأنها كانت على حساب الوقت الضرورى للطريق الثورى والتركيز الضرورى على الفعل الثورى. وبعبارة أخرى، كانت المقاطعة بشرط الفعل الثورى إيجابية من وجهة نظر تطور الثورة الشعبية وكانت المشاركة إيجابية من وجهة نظر تطور الثورة المضادة. وهذا يعنى أن المقاطعة كانت سلبية فى نظر الثورة المضادة أىْ الدولة وحلفائها وفى نظر القوى السياسية المشاركة، فيما كانت المشاركة سلبية فى نظر أنصار التركيز على الفعل الثورى والمقاطعة.
4: الفعل الثورى للمثقفين الثوريِّين والفعل الثورى لجماهير الثورة الشعبية: والفعل الثورى نوعان: الفعل الثورى للمثقفين الثوريِّين والفعل الثورى لجماهير الثورة الشعبية. وبحكم طبيعة الأشياء يتمثل الفعل الثورى للمثقفين فى التحريض على الفعل الثورى الجماهيرى وعلى المقاطعة فى سبيل ذلك؛ وكان فعل المثقفين هزيلا لغياب مجموعة ثورية متبلورة فكريا تدرك معنى الفعل الثورى وضرورة المقاطعة فى سبيله وتتفانى فى شرح أبعاد الفعل الثورى وفى إقناع الجماهير الشعبية بضرورة التركيز عليه. أما الفعل الثورى للجماهير الشعبية فكان فى صعود وهبوط، ولم يكن يمثل ظاهرة ثورية متكاملة مكتملة من شأنها أن تكون عاملا فعالا "حاسما" فى تطور الثورة. ولم يكن المشاركون من الثوريِّين ضد الفعل الثورى أو ضد التركيز عليه وإنما كان خطأُهم القاتل يتمثل فى أوهام الجمع بين الطريقين: طريق الفعل الثورى فى ميادينه وساحاته وطريق العمل الپرلمانى الإصلاحى بالمشاركة.
5: المشاركة والفعل الثورى معا هما تاكتيك الأزمنة غير الثورية: ولا شك فى أن هذا الجمع بين الطريقين وارد وسليم فى حالات بعينها، بل هو الطريق الطبيعى الإلزامى فى غير زمن الثورة حيث يكون الفعل الثورى إلزاميا وتكون المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات هى القاعدة السليمة فيما تكون المقاطعة هى الاستثناء الذى يتم اللجوء إليه عند ضرورة قصوى، فى حالات قصوى من الإقصاء والتزوير كما حدث فى الانتخابات الپرلمانية فى أواخر عام 2010. ولكننا كنا خلال سنوات ما بعد الثورة الشعبية فى حالة يستحيل معها الجمع بين الفعل الثورى والمشاركة فى الانتخابات، لأن زمن الثورة زمن مستقطب بطبيعته: الاستقطاب بين التركيز الكلى على الفعل الثورى من جانب الثورة، والتركيز الكلى على تصفية الثورة من جانب الثورة المضادة، بين تطوير العمل الثورى المباشر بصورة متواصلة ومتصاعدة وضاغطة وبلا هوادة لتحقيق أهداف الثورة من جانب الثوريِّين، وبين سيل متواصل لا ينقطع من جانب الثورة المضادة من الإجراءات والقوانين والاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتكررة بصورة متواصلة مدوِّخة بحيث لا تترك مجالا للتفكير أو العمل خارج السور الذى تفرضه على الشعب، وخارج الصندوق الذى تنجره محبسا وسجنا وتابوتا للشعب. وهذا الركوب المستحيل على حصانين يندفعان منطلقيْن فى اتجاهين مختلفين تماما هو الذى حاول أنصار المشاركة أن يقوموا به.
6: المشاركة فى زمن الثورة لم تُطوِّر الثورة بل تورطتْ فى دعم إستراتيچية الثورة المضادة: وأعتقد، مع محبتى وتقديرى الدائميْن لأشخاص الرفاق المشاركين والرفاق المقاطعين على السواء، أن محاولة مجموعة من المثقفين الثوريِّين الداعين إلى المقاطعة بشرط وعلى أساس التركيز على الفعل الثورى كانت فاشلة بحكم قلة أنصار هذا الطريق ولأن المفهوم العلمى الحقيقى للثورة ذاتها غائب فى مصر وفى غير مصر، وبحكم تأثير صعود وهبوط الحركة العفوية والتأرجُح العام بين ثورة التوقعات فى فترات النجاحات والصعود، ونوبات الإحباطات فى فترات الإخفاقات والهبوط، وبحكم غياب قيادات وسيطة بين مثقفين ثوريِّين متبلورين وجماهير ثورية تُواصل نضالاتها الثورية. وهذا بالتأكيد فشلٌ فى تطوير الثورة؛ لغياب مفهوم الديمقراطية الشعبية من أسفل بين المقاطعين غير الواعين بما يكفى وفى صفوف الحركة العفوية للجماهير الشعبية. وأعتقد، فى الوقت نفسه، أن الجهود الخارقة التى قام بها الثوريون المشاركون انتهت إلى لاشيء باستثناء إنجازات محدودة. ولم تكن المشكلة تتمثل فقط فى الإخفاق فى تطوير الثورة بل تمثلت فى التورط فى دعم إستراتيچية الثورة المضادة.
7: مفاهيم الثورة والفعل الثورى والديمقراطية الشعبية من أسفل والدولة: ولكنْ ما مفهوم الثورة وما مفهوم الفعل الثورى وما مفهوم الديمقراطية الشعبية وما مفهوم الدولة؟ ماذا يترتب على وجود مفاهيم علمية لهذه الأشياء وماذا يترتب على غيابها؟ وأعتقد أن مناقشة هذه المفاهيم ضرورية لفهم سلوكنا السياسى فى زمن الثورة الذى يتجه إلى التراجع، رغم أن كل قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، كل القوى التقدمية والقوى الرجعية، كل القوى الثورية التى تتطلع إلى المستقبل كنهوض وتقدُّم والقوى الماضوية التى تتطلع إلى مستقبل يقوم بتأمين العودة إلى الماضى، إلى القرون الوسطى وإلى ما قبل القرون الوسطى، وكذلك قوى الرأسمالية الريعية والكمپرادورية والليبرالية المتوحشة، تتغنى بصخب مزعج بالثورة وعظمتها واستمراريتها، وتزعم كل قوة منها أنها الصانعة الوحيدة أو الأكثر فاعلية للثورة الشعبية رغم الكراهية التى يضمرونها ويكنُّونها لها و"اللى فى القلب فى القلب يا أُمَم".
8: الحاجة إلى صياغات ماركسية جديدة: وقد كتبتُ كثيرا عن هذه المفاهيم، غير أن صياغات فترة من الفترات ربما ركَّزتْ على جوانب بعينها بحيث تكون قاصرة جزئيا فتظل بحاجة بصورة مستمرة إلى بلورتها وتدقيقها فى صياغات مختلفة بعض الشيء. وبعد فترة قصيرة ستكون مقالاتى قصيرة وقليلة لأننى سأعكف على تأليف كتاب نظرى عن الثورات وطبيعتها وطبيعة نضالاتها فى سبيل السلطة وفى سبيل الديمقراطية الشعبية من أسفل وشبكة المفاهيم والإستراتيچيات والتاكتيكات النابعة من المفاهيم العلمية للدولة والثورة والديمقراطية مع إشارات إلى تطورات ما يسمى بثورات الربيع العربى فى محاولة لربط النظرية بالممارسة، والممارسة بالنظرية. وعلى هذا سأوجز هنا صياغات حول هذه المفاهيم لتكون أساسا لمناقشة المسألة التاكتيكية المطروحة هنا، أىْ مسألة الانتقال من المقاطعة إلى المشاركة.
9: تصورات شتى حول طبيعة ثورتنا: يفهم أغلب الناس العاديِّين والمثقفين عندنا الثورة على أنها انفجار شعبى جماهيرى واسع النطاق وممتدّ فى الزمان والمكان، بالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات ومختلف أنواع الاحتجاجات، ويهدف إلى التغيير الثورى ويندفع فى العمل على تحقيق أهدافه. وهنا يبرز هدف إسقاط نظام ظالم وإقامة نظام عادل، وتنبع من هذا الهدف تصورات لدى قوى الثورة أهمها وأخطرها تصور أن النظام الجديد سيكون نظام الشعب وأنه سينقل السلطة من طبقة رأسمالية حاكمة إلى الثورة الشعبية وقواها باعتبارها سلطة شعبية تتمثل وظيفتها فى تغيير جذرى لصالح الشعب. وعندما تفجرت ثورة يناير أعلن كثيرون أنها ثورة اجتماعية، وأعلن غيرهم أنها ثورة سياسية، وتحفّظ غير هؤلاء وأولئك وقالوا إنها ليست ثورة بل انتفاضة أو حتى هوجة، ودارت نقاشات ونقاشات حول طبيعة الثورة. وأكد البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، أنها ثورة شعبية عالم-ثالثية، فليست ثورة اجتماعية تقوم بإحلال نظام اجتماعى-اقتصادى جديد محل نظام اجتماعى-اقتصادى قديم، وليست ثورة سياسية تقوم بإحلال سلطة طبقة اجتماعية جديدة محل سلطة طبقة اجتماعية قديمة.
10: الثورة عملية اجتماعية-سياسية تاريخية كبرى واحدة تدريجية طويلة وتراكمية: ومع المزيد من محاولة الاستيعاب النظرى لمفهوم الثورة بشقيها الاجتماعى-الاقتصادى والسياسى فى صياغات أكثر تبلورا بدأ يتضح لى أن الثورة عملية تاريخية كبرى واحدة تدريجية طويلة تراكمية وقد تستغرق، فى العصر الحديث، قرونا، يتطور خلالها، خطوة خطوة، اقتصاد جديد، وطبقات اجتماعية جديدة. وتنطوى هذه العملية ذاتها على النقل التدريجى خطوة خطوة أيضا للسلطة إلى الطبقة الجديدة الصاعدة وهى الطبقة الرأسمالية الكبيرة، فهى ليست سلطة لكل الطبقات الشعبية الجديدة التى كانت وقودا للثورة فى كل مراحلها؛ وتنطوى هذه العملية الكبرى ذاتها على ثورات تقنية وتكنولوچية وعلمية وفلسفية وأدبية وقانونية وتحديثية تتكامل فيها كل جوانب المجتمع الجديد. وبالطبع فإنه يمكن الحديث عن الثورة الاجتماعية أو السياسية أو العلمية أو التكنولوچية أو الفكرية ولكنْ فقط باعتبارها جوانب من نفس العملية الواحدة، أو لحظات منها بالمعنى الهيجلى للكلمة، بوصفها جوانب من هذه العملية. وفى هذا السياق الثورى التراكمى يكون من المرجَّح أن تحدث نضالات وانفجارات واحتجاجات وإضرابات وتظاهرات وانتفاضات شعبية ضد الاستغلال والاستبداد والإفقار.
11: طبيعة الثورات الشعبية وحدودها الموضوعية: وهنا قد تحدث ثورة شعبية كبرى فى مرحلة متقدمة من مراحل تطور عملية الثورة، والمثال المتميز هنا هو ثورة 1789 الفرنسية الشعبية الكبرى التى أدت إلى تسريع عملية الثورة بمعناها الشامل من ناحية القضاء على الإقطاع الكنسى، وبقايا القرون الوسطى، وامتيازات الأرستقراطية التى كانت قد فقدت كل وظيفة اجتماعية، ونقل سلطة الملك على رأس النظام الملكى إلى الطبقة الرأسمالية على رأس النظام الجمهورى. وهذه الثورة الشعبية لم تكن هى الثورة الاجتماعية ولم تكن هى الثورة السياسية بل كان هذان الجانبان أو الوجهان المترابطان للثورة الرأسمالية/البرچوازية الشاملة يتطوران يدًا فى يدٍ وبصورة تدريجية تراكمية طوال أكثر من قرن من الزمان قبل حدث 1789 ولو لم يقع ذلك الحدث، لو لم تنفجر تلك الثورة الشعبية، لما حدث فرق جوهرى لأن الثورة الاجتماعية-السياسية كانت ستتواصل على مدى أكثر من قرن لاحق، كما جرى بعد الحدث بالفعل.
12: الثورة الشعبية ليست ثورة اجتماعية أو ثورة سياسية بمعناهما الصحيح: والثورة الشعبية يمكن أن تساعد أو تعرقل عملية الثورة الاجتماعية-السياسية بحكم تداعياتها الناتجة عن الأوضاع الداخلية و/أو أوضاع محيطها الإقليمى والعالمى بمجموعة هائلة من التطورات المتوقعة والمفاجئة. ومن الخطأ الفادح اعتبار الثورة الشعبية الجماهيرية ثورة اجتماعية أو ثورة سياسية بل يمكن الحديث فقط عن ثورة شعبية قد تحدث فى سياق ثورة اجتماعية-سياسية، كما كان الحال فى نموذج من نماذج الثورة فى البلدان التى صارت بلدانا صناعية (فرنسا)، وقد لا تحدث الثورة الشعبية فى نموذج آخر فى سياق النموذج الپروسى-اليونكرى (الياپان)، كما يمكن الحديث عن ثورة شعبية قد تحدث فى غير سياق ثورة اجتماعية-سياسية، أو فى سياق التبعية الاستعمارية، كما هو الحال فى مصر وغيرها من المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة.
13: الفرق بين الثورة الاجتماعية-السياسية والإصلاح الاجتماعى أو السياسى: وينطلق كثير من القائلين بأن ثورتنا ثورة اجتماعية من أن هناك أوضاعا ومطالب وأهدافا اجتماعية، وينطلق كثير من القائلين بأن ثورتنا ثورة سياسية من أنها ثورة ضد الاستبداد ومن أن لها أهدافا سياسية وديمقراطية. وهذا من الأخطاء الفادحة فالثورة الاجتماعية-السياسية فى التاريخ الحديث تعنى التحوُّل من نظام اجتماعى اقتصادى كالإقطاع إلى نظام اجتماعى اقتصادى آخر: الرأسمالية. هذا ما ينساه الماركسيون رغم أن الماركسية قدمت تفسيرا واضحا تماما للثورة الاجتماعية وإنْ كانت لم تَقُمْ ب "مَفْصَلَةٍ" مباشرة لمفهوم الثورة الاجتماعية-السياسية، عن طريق ربط واضح ودقيق بين مختلف أجزائها وعناصرها ونواحيها وجوانبها ومفاهيمها الفرعية، بما يؤدى إلى إزالة الالتباسات العميقة بشأن هذه المسألة فى مختلف الماركسيات.
14: ثورة يناير الشعبية المصرية لا تؤدى، بحكم طبيعتها، إلى تطورات جذرية: والاستنتاج المنطقى هو أن ثورة يناير الشعبية المصرية ليست ثورة اجتماعية-سياسية، ولا تحدث فى سياقها، وبهذا تتحدد طبيعتها وغايتها التى لا تتمثل فى الاشتراكية أو الشيوعية ولا تترتب عليها تطورات جذرية مثل إحلال طبقة اجتماعية محل أخرى، أو إحلال سلطة طبقة محل سلطة طبقة أخرى. ورغم أنها ثورة شعبية كبرى ومجيدة معادية للاستغلال الرأسمالى التابع بفساده واستبداده وطغيانه، فإنه يكون لأهدافها ومطالبها وطموحاتها سقف محدَّد بصرامة، حيث تؤدى فقط إلى إحلال قيادة جديدة محل القيادة القديمة لنفس الطبقة الحاكمة. أما أوهام ثورة التوقعات فإن واقعها المادى الفعلى جدير بتبديدها. وكان أكبر الأوهام فى ثورتنا يتمثل فى أن قوًى ثورية ويسارية وديمقراطية بعينها تصوَّرت أن الثورة ستستولى على سلطة الدولة فتُغَيِّر النظام الحاكم بصورة جذرية. ويتمثل المنبع الذى لا ينضب لمثل هذه الأوهام فى العفوية التى تجهل أو تتجاهل وتنسى أو تتناسَى فى سياق فورة حماسها الثورى الغاضب الملتهب مقتضيات النظرية الثورية، التى كان بوسعها أن تعلِّم هذه القوى الثائرة أن الطبقات الشعبية، التى هى وقود الثورات الاجتماعية-السياسية والثورات الشعبية، لا تظفر بسلطة الدولة مطلقا؛ وهذا فى كل ثورات التاريخ الحديث.
15: أوهام إعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية هى مصدر انحراف ثورتنا: والحقيقة أن النتيجة المنطقية لاستحواذ هذا الوهم على عقول وقلوب الجماهير العفوية وقياداتها العفوية التى تظن، مع ذلك أنها واعية، لأنها "لا تدرى ولا تدرى أنها لا تدرى"، بعيدا عن الاسترشاد بنظرية ثورية متماسكة، تكون بالغة الخطورة وتغدو مصدر انحرافات الثورة. ذلك أن هذه التصورات تؤدى إلى انحراف الثورة فلا تطال عنب الشام ولا بلح اليمن: ذلك أنها تجرى وراء سراب السلطة وبناء ما يسمى ببناء مؤسسات الدولة الديمقراطية، فتخدعها أوهام السلطة والاستيلاء عليها وبناء الدولة الديمقراطية ويفوتها التركيز على أىّ مكاسب يمكن تحقيقها على الأرض، أعنى مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل.
16: إيقاع الثورة الشعبية العفوية فى مصيدة المشاركة فى الاستفتاءات والانتخابات المتواصلة: وأدت عفوية الجماهير والقيادات إلى انحراف الثورة فبدلا من التفكير فيما يمكن تحقيقه من أسفل كان التركيز الكامل على السير وراء المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى الطريق الإصلاحى بالمشاركة فى الإستراتيچية التى وضعها هذا المجلس. وقد ظلت تلك الإستراتيچية تركز طوال أكثر من ثلاث سنوات على نقطتين مندمجتين: التصفية التدريجية للثورة الشعبية وتفادى الحرب الأهلية وكان تفادى الحرب الأهلية نقطة إيجابية، رغم مقتضياتها، ولكنْ مقابل النقطة الأخرى الكارثية وهى تصفية الثورة الشعبية، وإلى جانب ضرورات فرضت نفسها كالتحالف المرحلى مع الإسلام السياسى بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، وإلى جانب إجراءات متنوعة فى مواجهة مختلف التطورات الثورية والإخوانية، كانت الإستراتيچية الأساسية تتألف من خطة محكمة متواصلة من الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتكررة المتواصلة بمشاركة عمياء من اليسار على حساب النضال من أسفل.
17: إنجازات مهمة لثورتنا: المعركة ضد جماعات الأصولية الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين بعد إيقاعهم فى مصيدة بالغة الإحكام: وبالطبع فإنه لا أحد ينكر إنجازات مهمة للثورة الشعبية فقد أحدثت انشقاقا فى نظام مبارك حيث تخلى عنه الجيش دون أن يتخلى عن نظامه. وفتح هذا الانشقاق الخطير الباب أمام تطورات مهمة وأهمها على الإطلاق معركة القضاء على جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية على رأس جماعات الأصولية الإسلامية الإرهابية الأخرى بعد إيقاعهم فى مصيدة بالغة الإحكام، رغم أن استكمال هذه المعركة تستوجب فهم وممارسة مقتضياتها المتمثلة فى المواجهة الأمنية الحاسمة بلا هوادة ضد الأصولية الإسلامية الإرهابية، وتحقيق مستويات من العدالة الاجتماعية، والالتزام بحرية تسمح بالصراع الفكرى ضد الإسلام السياسى بكل أطيافه، فى إطار تعددية حقيقية وليست صورية.
18: إنجازات مهمة لثورتنا: التسييس وحدوده: والمكسب المهم الآخر هو التسييس الواسع النطاق للشعب كله الذى صار يعرف أسرار أوضاعه المأساوية بالتفاصيل الدقيقة، رغم أن هذا التسييس ينقصه إدراك عنصر التاكتيكات الثورية الصحيحة، ومن هنا انحراف الثورة وعجزها عن تحقيق مستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل. ويتجلى عيب خطير لما تحقق من هذا التسييس فى النتائج المنطقية لحقيقة كونه تسييسًا وتسيُّسًا عفويا سواء عند الجماهير الشعبية أو عند القيادات الشبابية. فقد عرف كل هؤلاء وأولئك بالتفصيل حقائق الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى البلاد، وصار كل فرد موسوعة فى معرفة هذه الحقيقة، كما عرفوا جميعا شعارات الثورة المعبِّرة عن أهدافها الأساسية والتى يمكن إيجازها فى عبارة "الديمقراطية الشعبية من أسفل" التى توجز أهداف وكذلك مكاسب مختلف الشعوب فى ثورات التاريخ الحديث فى البلدان التى صارت صناعية متقدمة ومزدوجة الطابع: ديكتاتورية عسكرية رأسمالية إمپريالية من أعلى، وديمقراطية انتزعتها الشعوب من أسفل بتضحيات هائلة ضد المقاومة المتواصلة للرأسمالية الديكتاتورية من أعلى، وهذه البلدان ليست ديمقراطية بل تحكمها أعتى أشكال الديكتاتورية العسكرية والپوليسية.
19: إنجازات مهمة لثورتنا: خطوة كبرى على طريق تحرير المرأة وبالأحرى تحرُّرها: ويتمثل إنجاز كبير آخر من إنجازات ثورتنا فى المشاركة الواسعة الحاسمة للمرأة المصرية من كافة الأعمار والأجيال فى نضالات الثورة الشعبية. وتتمثل مزيَّة كبيرة لهذا التقدم الحاسم لقضية النساء بفضل الثورة وبفضل مشاركتهن الباسلة العنيدة المتواصلة فيها فى أن ثمارها ستواصل البقاء والاستمرار والتطور ربما أكثر من إنجازات أخرى. ومن أسباب قوة المشاركة النسائية فى ثورتنا واقع أن النساء يتأثرن بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقمعية وبالاضطهاد السياسى والذكورى أكثر من الرجال لأن غالبيتهن أكثر مسئولية عن البيت والأسرة والمعيشة من غالبية الرجال. ولهذه الأسباب ذاتها سيتواصل النضال النسائى حتى بعد أن تنتهى "الثورة الراهنة"، غير أن حدود هذا التسييس وبالتالى مشاركتهن فى إستراتيچية المجلس الأعلى، أىْ إستراتيچية الطريق الإصلاحى الدستورى الپرلمانى الانتخابى، بدلا من المشاركة فى الثورة من أسفل، وضعت نضال الرجال والنساء معًا داخل قفص حديدى محكم الإغلاق.
20: إنجازات مهمة لثورتنا: القوة الرادعة التى يمثلها حدوث الثورة الشعبية فى مواجهة الديكتاتوريات الرأسمالية-العسكرية القادمة: وهناك مكسب كبير من الخطأ الفادح تجاهله أو عدم فهمه بعمق. فهناك تصورات بأننا ندخل من الآن فى نظام پوليسى بالغ القسوة ويشجع على هذه التصورات سيل من الإجراءات والممارسات القمعية التى تقوم بها السلطة بالاستناد إلى قوانين جديدة وقديمة. وهذا صحيح تماما فى المدى الطويل غير أن التفكير المتأنى فى هذه التصورات، على الأقل فيما يتعلق بالمدى القصير والمتوسط، يمكن أن يُرشد إلى حقيقة بسيطة وهى أن دولة الطبقة الحاكمة بمختلف مؤسساتها ومنها المؤسسة العسكرية، تدرك جيدا أن ضربة الثورة الشعبية جاءتها من "كعبِ أخيل" الذى لا تخطئه عين مُبصرة، والذى يتمثل فى متلازمة الفقر والجهل والمرض التى حكمت على ملايين المصريِّين بالجوع وسكنى القبور والعشوائيات وبالكساء الرثّ وبالأسمال المهلهلة البالية وبالمعاناة الرهيبة للاستغلال والفساد والطغيان، إلى جانب أن هذه البيئة الاجتماعية ظلت مرتعا خصبا وَخِيمًا للحركات السياسية الماضوية الإرهابية، الإخوانية والسلفية.
21: إنجازات مهمة لثورتنا: ولكن الثورة الشعبية فى حد ذاتها، وهى فعل ثورى كبير، جاءت وإنْ بشكل "ضعيف"، بديمقراطية شعبية من أسفل: ومن المفارقات أن الثورة الشعبية الممتدة فى المكان والزمان فى حد ذاتها، تأتى بشكل لا تخطئه عين من الديمقراطية من أسفل، نتيجةً لمجرد واقع تفجُّرها فى 25 يناير 2011 واستمرارها إلى الآن رغم التراجع المتواصل. ذلك أن قوتها الرادعة فى مواجهة الديكتاتوريات الرأسمالية-العسكرية القادمة، كما سبق القول، تفرض على الرأسمالية الحاكمة بقوة إجراءات وتدابير وقوانين على طريق تحسين ملموس لمستويات معيشة الشعب لتفادى تفجُّر ثورات مماثلة فى المستقبل. وبالطبع فإننا هنا إزاء ديمقراطية شعبية من أسفل لأن الثورة كانت عملا من أسفل نجح فى أن يفرض على الجيش الإطاحة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، ونجح فى أن يتيح للجيش الدخول فى صراع حاسم مع جماعات الأصولية الإسلامية الإرهابية وعلى رأسها الإخوان وأدى إلى الإطاحة بدولتهم الوليدة، بعد عقود من تغلغلها فى الاقتصاد والدولة. والفرق بين الإطاحتين هو أن الإطاحة بالرئيس الأسبق مبارك لم تكن فى برنامج الجيش بينما صارت الإطاحة بالرئيس الأسبق مرسى فى برنامج الجيش بعد شروع الإخوان فى الأخونة الشاملة على أوسع نطاق لانتزاع السلطة والاقتصاد بالكامل من الطبقة الحاكمة، خاصة بعد تخلُّص الدولة والجيش من ترهُّل ومهادنة وتدهور عهد مبارك رغم الصراع الذى كان قائما فى ظل ازدواج خطير بين دولة مبارك ودولة الإخوان داخل نفس الدولة. وسيظل شبح الثورة محلِّقا من أسفل، على الأقل فى المدى القصير والمتوسط. لقد لقنت الثورة الشعبية دولتنا الطبقية درسا لن تنسى شبحها ولن تنجو من سيف ديموقليس المسلط فوق رأسها، والمتمثل فى احتمال تفجُّر الثورة الشعبية فى المستقبل، عن طريق أىّ مستويات قصوى من القمع الپوليسى. على أن هذا شكل "ضعيف" من الديمقراطية من أسفل يختلف عن الشكل "القوى" المتمثل فى امتلاك مؤسسات شعبية منتزعة وأكثر فاعلية من كل التنازلات التى يمكن أن تقدمها الدولة للشعب خشية غضبه من جديد فى سياق مختلف عن القدرة الشعبية على بنائها بصورة واسعة ومكثفة ومواتية، فى زمن الثورة فى حالة التركيز عليها بدلا من سراب إعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية. فلماذا كان علينا أن نبنى مؤسسات الدولة الرأسمالية بدلا من بناء مؤسسات ديمقراطيتنا الشعبية من أسفل؟ والإجابة الوحيدة: بسبب الوعى التلقائى العفوى الجنينى لدى الجماهير الشعبية ولدى قياداتها على السواء!
22: مفهوم الفعل الثورى: الفعل الثورى والديمقراطية من أسفل وجهان لعملة واحدة: ويمكن القول إن الفعل الثورى والديمقراطية الشعبية من أسفل وجهان لعملة واحدة، فالعلاقة بينهما هى علاقة السبب بالنتيجة. ذلك أن نضالات الفعل الثورى هى التى تحقق، فى حالة نجاحها، ديمقراطيةً ينتزعها الشعب من أسفل. وهى علاقة البذرة أىْ الثورة، التى هى الفعل الثورى، بثمارها المتمثلة فى هذه الديمقراطية. وكانت الثورة ومختلف احتجاجاتها ومليونياتها وموجاتها فعلا ثوريا تعيبه عفويته التى أدت إلى توظيف هذه النضالات فى صميم مكانها حينا وفى غير محلها أحيانا، فكانت ضربة معلم أحيانا قليلة كما كان الحال عند الإطاحة الباسلة البطولية العنيدة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك وعند الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسى، وكانت ضربات طائشة أحيانا كثيرة مثل ترك الميادين عند تنحية مبارك، وعصر الليمون لانتخاب مرسى بعد مليونيات الإطاحة بالحكم العسكرى بقيادة المشير طنطاوى.
23: مفهوم الفعل الثورى: ضياع فرصة كبرى لتوظيف نضالات الثورة فى العمل من أسفل: وبهذا ضاعت فرصة كبرى لتوظيف المظاهرات والاعتصامات والإضرابات والمليونيات فى سبيل انتزاع الحدَّيْن الأدنى والأقصى للأجور، المرتبطيْن بمعدل التضخم، وتحسين شروط العمل، والتأمين الصحى الشامل، وكل الحريات والحقوق المكوِّنة للديمقراطية الشعبية من أسفل. وكان هذا بالطبع نتيجة مباشرة لاقتناع جماهير الثورة وقياداتها العفوية بأسطورة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية. ويرجع هذا بالطبع إلى عفوية قيادات الثورة وبالتالى الخطأ النظرى المتمثل فى اعتقاد أن الثورة والقوى الثورية يمكن أن تصل إلى الاستيلاء على سلطة الدولة بفضل الثورات الشعبية، وفى اعتقاد أن الدولة يمكن أن تكون ديمقراطية، وبالتالى الجرى الأعمى وراء سراب إعادة بنائها والنظر إلى أعلى نحو شاغلى المناصب العليا فى الدولة بدلا من التركيز على ما يمكن تحقيقه من أسفل، وفى غياب المفهوم الصحيح للثورة الشعبية. وبالتالى فجنبا إلى جنب مع غياب النظرية كان هناك غياب خبرة الممارسة السياسية، وبالطبع فإن الثورات الشعبية تفاجئ الجميع فى كل مكان، وتأخذهم على غرة وقد تحُدّ إلى حد كبير من قدرتهم على التفكير العميق والتأمل المتأنى وإنعام النظر والفهم السريع النافذ إلى الأبعاد الحقيقية للثورة وهذا الفهم بطبيعة الحال مطلوب منذ البداية. وقد تورط الثوار أكثر فى تركيز أنظارهم إلى أعلى، على الدولة، بدلا من النظر إلى ما يمكن تحقيقه من أسفل، وكان هناك سبب عملىّ وهو نجاح الثورة فى غضون ثمانية عشر يوما فقط فى الإطاحة بالطاغية رئيس الجمهورية فبدت لهم الأمور أسهل لأنهم لم ينظروا إلى دور الجيش فى هذه الإطاحة ولا مغزى هذا الدور. وهنا ينبغى أن نؤكد أن صاحب اليد العليا فى التطورات هو الجيش وأنه يظل كذلك لأنه قام بدور حاسم كجيش كبير منظم؛ وهذا بالضبط هو ما حدث خلال دوامة التطورات السياسية طوال سنوات ما بعد الثورة، ومن الأرجح دائما أن أىّ قوة كبيرة تقوم بدور كبير ومنظم خلال ثورة شعبية تحتفظ بدورها وبسلطة الدولة فى غياب قوة كبرى ومنظمة تدخل معها فى صراع متكافئ حاسم.
24: مفهوم الديمقراطية الشعبية من أسفل: بوصفها نتيجة للثورة الاجتماعية-السياسية وتطوراتها: رغم أن الديمقراطية من أسفل تعبير شائع فى الأدب السياسى العالمى بوصفها من البديهيات، ورغم أنها كانت تمثل كل ما خرجت به الشعوب من الناحية الفعلية من ثورات التاريخ الحديث فى أوروپا وغيرها، كان من الغريب أن الكثيرين عندنا نظروا إليها بارتياب وشكوك وشكوى ورفض. غير أنها حقيقة بسيطة وتعنى الحريات والحقوق التى تنتزعها الشعوب بنضالها الطبقى الثورى فى مجرى الثورات، وبنضالها الثورى والاقتصادى والإبداعى قبل الثورات وبعدها فى الفترات غير الثورية، بكل ما يتحقق للشعوب من نتائج فى حياتها المادية والروحية، فى مستويات معيشتها وحرياتها. وعندما أقول إن هذه الديمقراطية من أسفل كانت نتيجة وثمرة للثورة فى الغرب فإننى لا أقصد الثورة الشعبية، أىْ ثورة الجماهير الشعبية بصورة مفاجئة وممتدة على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مثل حدث 1789، بل أقصد الثورة الاجتماعية-السياسية سواء حدثت أو لم تحدث ثورة أو ثورات شعبية فى مرحلة أو أكثر فى مجرى تطورها التراكمى التدريجى الطويل. ذلك أن العملية التراكمية الطويلة للثورة الاجتماعية-السياسية لا تكون فى التاريخ الحديث والمعاصر مجرد تطور رأسمالى فى كل فروع الاقتصاد أىْ نمو الصناعة الحديثة، الرأسمالية، وثمارها المتمثلة فى نمو الزراعة الرأسمالية والسوق والتجارة، أو مجرد تطور العلم والتكنولوچيا والفكر والفلسفة والفنون والآداب الحديثة، بل أقصد تشكُّل طبقات اجتماعية جديدة لم تكن موجودة من قبل وقيام مجتمع رأسمالى جديد لم يكن قائما من قبل، وتطور تناقضات وصراعات طبقية من نوع جديد، تطور أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة من فقر وحرمان الطبقات الشعبية الجديدة مما يؤدى إلى الانتزاع التدريجى التراكمى لحريات وحقوق وأدوات نضال ومستويات معيشة والانتقال التدريجى التراكمى لسلطة الدولة مع الإحلال التدريجى للطبقة الرأسمالية محل الطبقات الاجتماعية السابقة على صعود الرأسمالية وصولا إلى ثورة شعبية كبيرة ممكنة الوقوع فى بعض النماذج ضد الأوضاع الجديدة، الرأسمالية.
25: مفهوم الديمقراطية الشعبية من أسفل: كانت الثورة الشعبية فى فرنسا وغيرها فى المحل الأول ثورة رأسمالية ضد علاقات الإنتاج الرأسمالية: والحقيقة التى لم يتم اكتشافها وإبرازها بعد بصورة متبلورة حاسمة، فى اعتقادى وفى الحدود المحدودة على كل حال لمعرفتى واطلاعى، هى أن الثورة البرچوازية، أىْ حدث 1789، كانت ثورة شعبية ضد علاقات الإنتاج الرأسمالية الجديدة الاستغلالية، ولم تكن فى المحل الأول ثورة شعبية ضد علاقات الإنتاج الإقطاعية القديمة لأن الإقطاع كان قد زال باستثناء الإقطاع الكنسى، وبقايا الإقطاع، وامتيازات الأريستقراطية بعد أن فقدت وظيفتها، وبقايا العصور الوسطى، وسلطة الملك، ولكنها لم تكن فى المحل الأول ثورة شعبية ضد هذه البقايا الإقطاعية. وكانت الطبقة الرأسمالية الجديدة، التى كانت قد بلغت مرحلة متقدمة نسبيا من طور التكوين كطبقة، هى الأكثر تطلُّعا إلى انتزاع سلطة الدولة من الملك وإلى القضاء على الإقطاع الكنسى وامتيازات الأريستوقراطية وبقايا الإقطاع وبقايا العصور الوسطى باعتبارها من ضرورات التطور الرأسمالى وتوسيع وجود طبقة عاملة حرة، وكان لها ما أرادت، أما الطبقة العاملة وباقى الطبقات الشعبية والكادحة والفقيرة فلم تكن لتصل إلى سلطة الدولة، وكان عليها أن تعانى من الاستغلال والاستبداد والحرمان من كل إخاء ومساواة مع شيء شيء قليل من الحرية، كما كان عليها أن تكتفى بمستويات من الديمقراطية الشعبية من أسفل التى ظلت تطوِّرها عبر الزمن الطويل اللاحق، وبالانتقال إلى الحضارة الرأسمالية والحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية الحديثة. وبالتالى، كانت الثورة الشعبية الفرنسية الكبرى ثورة رأسمالية ضد الرأسمالية بعلاقاتها الإنتاجية الجديدة، رغم الالتباس الذى كان نتيحة وجود بقايا العهود الإقطاعية، وإن كان من الوارد استمرار النظام الملكى أو الإمپراطورى بملك أو إمپراطور "يملك ولا يحكم"، كما حدث فى بريطانيا والياپان وغيرهما.
26: مفهوم الديمقراطية الشعبية من أسفل: نص من عام 2011 عن الديمقراطية من أسفل: وقد بدأتُ الحديث عن الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية الشعبية من أسفل منذ مقالى المعنون "الديمقراطية .. ذلك المجهول!"، بتاريخ 30 مارس 2011، وواصلتُ الحديث عنها فى مقالى "ثورة 25 يناير 2011: أمل مراوغ وأخطار كبرى"، بتاريخ 20 أپريل 2011"، وهو منشور فى كتاب جماعى عن ثورة يناير بعنوان "25 يناير – اختبارات .. صراعات .. تطورات"، صدر عن دار الياس العصرية للطباعة والنشر فى ذلك الحين، وكذلك فى مقالى "الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها" بتاريخ 20 سبتمبر 2011، وواصلتُ هذا الحديث بعد ذلك فى كثير جدا من مقالاتى التى قمتُ بتجميعها فى خمسة كتب إلى الآن صدر الكتابان الأولان منها عن المجلس الأعلى للثقافة والكتب الباقية فى الطريق. ويمكن أن يرجع القارئ إلى تلك المقالات لمزيد من الاطلاع على حديثى عن هذا الموضوع. ولأن مقالى "مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر"، بتاريخ 26 أكتوبر 2011، وقفتْ وقفة متأنية وتفصيلية إلى حد ما عند الديمقراطية من أسفل، فقد يكون من الملائم أن أنقل هنا ذلك النص بكامله:
فما هى هذه الديمقراطية من أسفل؟ والحقيقة أنها لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن "الدولة" بمعناها فى القانون الدولى (ودَعْكَ من المفهوم العلمى الاجتماعى للدولة ووظيفتها فى مجال العلاقة بين طبقات المجتمع) قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أدوات النضال التى صار الشعب يمتلكها، والحقوق والحريات التى انتزعها وصار يمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صار يفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. وبالطبع فإن مهام خلق وحراسة الديمقراطية من أسفل ضخمة هائلة وهى تحتاج إلى كل طاقات الثورة التى لا ينبغى تبديدها فى سبيل پرلمانات ورئاسات عبثية أصلا ولا طائل تحتها. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة، وللتحقيق الفعلى للاستقلال الذى هو نقيض التبعية الحالية للرأسمالية العالمية.
ومن المؤسف أن كثيرين جدا يعتقدون أن الديمقراطية من أسفل، التى يبدو أنهم لم يسمعوا بها ولم يقرأوا عنها من قبل، هى مهمة النضال فى الأزمنة العادية وليس فى زمن الثورة. وهذا غريب حقا! ذلك أن الديمقراطية من أسفل هى الشكل الوحيد للديمقراطية فى المجتمع الرأسمالى الذى يكون دائما ديكتاتورية عسكرية-پوليسية من أعلى وديمقراطية شعبية من أسفل. والنضال من أجل تحقيق هذه الديمقراطية هو مهمة كل الأوقات قبل وأثناء وبعد الثورات ولكنها بصورة خاصة مهمة النضال أثناء الثورات الاجتماعية-السياسية وأثناء الثورات الشعبية، بحكم النضال المكثف فى سبيل الحقوق والحريات والعمل على انتزاعها. والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل تنشأ وتتطور بصورة تراكمية بطيئة طويلة أثناء الثورات الاجتماعية-السياسية، فى مجرى ما يسمى منذ أليكسى دو توكڤ-;---;--يل بالنظام القديم أو السابق قبل حدث الثورة الشعبية، وتتواصل وتتكثف وتشتد أثناء الثورات الشعبية. وعلى سبيل المثال، لم تكن الديمقراطية الشعبية من أسفل فى فرنسا ثمرة حدث 1789 أىْ الثورة الشعبية وما تلاها من ثورات شعبية فى 1830 و 1848 و 1870 وحدها بل كانت بصورة تدريجية تراكمية ثمرة الثورة الاجتماعية-السياسية التى تواصلت فى فرنسا قبل حدث الثورة الشعبية فى 1789 طوال أكثر من مائة عام ثم بعد ذلك الحدث طوال أكثر من مائة عام. ولو لم تقع أحداث تلك الثورات الشعبية أصلا لكانت الثورة الاجتماعية-السياسية بدون ثورة شعبية كافية لتحقيقها كما حدث فى الياپان وفى أغلب البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية متقدمة.
27: مفهوم الدولة: نتائج غياب مفهوم الدولة: من البديهى أن الطبقة الحاكمة هى السبب الحقيقى وراء تفجُّر الثورات الشعبية وذلك نتيجة للممارسة الاستغلالية والاضطهادية للمجتمع الطبقى والدولة الطبقية ضد الشعب. ويؤدى غياب مفهوم الدولة بدوره إلى التباسات لا نهاية لها. وعلى وجه الخصوص فإن "تقديس" الدولة له نتائج خطيرة. وفى مجرى ثورتنا كانت الدولة هى التى طرحت شعار إعادة بناء مؤسسات الدولة الديمقراطية من خلال إستراتيچية الدساتير والاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية المتواصلة التى تهدف إلى تصفية الثورة تدريجيا مع تفادى الحرب الأهلية. ورغم أن الدولة وسلطاتها ومؤسساتها لا يمكن أن تكون ديمقراطية، سارت الجماهير الشعبية الثائرة العفوية والقيادات الثائرة العفوية بدورها مغمضة الأعين وراء هذا السراب. وإذا كانت الجماهير الشعبية وقياداتها الثائرة لا تدرك أنها تندفع وراء سراب خُلَّب سالب للعقل، فإن الطبقة والدولة كانتا تهدفان بكل وضوح إلى تصفية الثورة الشعبية والخروج الآمن منها واستعادة الاستقرار للطبقة ودولتها عن طريق نصب مصيدة الاستفتاءات والانتخابات المتكررة للشعب وثورته، لإمساك الثور الهائج من قرنيه بقوة وتوجيهه إلى السير نحو المذبح. وكان الوقوع فى هذه المصيدة المحكمة سهلا للغاية نتيجةً لغياب وعى عميق بمفهوم الدولة. وكان السير وراء هذا السراب يمثل "كعب أخيل" الثورة وسبب انحرافها ونجاح الطبقة ودولتها فى النجاح المرجَّح فى تصفيتها.
28: مفهوم الدولة: الدولة وفقا للقانون الدولى: ويعتقد كثير من الثائرين بل أغلبهم أن الدولة هى مصر وهذا هو مفهوم الدولة فى القانون الدولى أىْ سكان وطن يعترف بهم القانون الدولى كدولة مستقلة. وبغضّ النظر عن الاعتراف القانونى الدولى وحتى عن مدى ملاءمة تسمية الدولة للوطن وسكانه أو شعبه فمن البديهى أن هؤلاء السكان وهذا الوطن أىْ الدولة، بهذا المعنى المحدَّد، من مقدَّساتنا. والدولة بهذا المعنى هى السكان والشعب والوطن، ولا أحد يفكِّر فى رفضها أو إلحاق أذًى بها بل تتمثل قيمة حياتنا حقا فى خدمتها.
29: مفهوم الدولة: الدولة الطبقية وكيف نقاومها: أما الدولة الأخرى فهى الدولة بالمعنى السياسى أىْ الدولة الطبقية، وهذه الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ومؤسساتها وجيشها وشرطتها وقضائها وقوانينها ودساتيرها هى التى تحتج الشعوب عليها بل حتى تثور عليها رفضا للأوضاع الاجتماعية والسياسية التى تفرضها على الشعب بوصفها حامية للاستغلال الطبقى، وفى المحل الأول، يمثل رفض الدولة الطبقية من جانب الشعب رفضا للطبقة الاجتماعية ذاتها لاستغلالها للشعب الفقير ولاستبدادها عليه، ورفضا لمجتمعها الاستغلالى ودولتها بكل سلطاتها ومؤسساتها وأجهزتها. ومع كل هذا فإنه لا مناص من التسليم بأن للدولة الطبقية أيضا وظائف اجتماعية تخدم مصالح الطبقات الشعبية والفقيرة المتمثلة فى بقائها وتحسين أوضاعها الاجتماعية. وعلى سبيل المثال فإن تفادى حرب أهلية مدمرة منعًا لتمزُّق الطبقة الحاكمة ودولتها يؤدى أيضا إلى حماية الشعب. هكذا تفهم النظرية العلمية الدولة الطبقية وليس بالطريقة التآمرية والهمجية عند ثوارنا. ولا شك فى أنه كان للالتباس فى مفهوم الدولة، وعدم التمييز بين النوعين المذكورين من الدولة، دور كبير فى توجيه جماهيرنا الشعبية العفوية وقياداتها العفوية نحو الغرق فى سراب ما سُمِّى ببناء مؤسسات الدولة الديمقراطية مع أن من المستحيل أن تكون أو أن تصير ديمقراطية، ونحو الغرق فى سراب استيلاء الثورة والثوار على السلطة مع أن هذا من رابع المستحيلات. وساهم كل هذا فى انحراف الثوار بالثورة الشعبية والمشاركة فى تصفيتها نتيجة لعدم التركيز على بناء أدوات ومنجزات الديمقراطية من أسفل. وبالطبع فإن الدولة الطبقية ليست فقط حامية لعلاقات الإنتاج الاستغلالية عن طريق أجهزتها الإدارية وجيشها وشرطتها وقانونها وقضائها ودستورها. ذلك أن الطبقة بكل دولتها الطبقية لا يمكن أن تنجح فى استغلالها الطبقى إلا ببقاء الشعب، والاستقرار اللازم لاستغلال متواصل، وعدم وصول الصراعات الطبقية إلى مستويات قصوى. ولهذا فإنها لا تحمى العلاقات الاستغلالية فقط بل تؤدى وظيفة أساسية من وظائفها فى حماية نفسها بحماية الشعب أيضا من الاحتراق فى أتون حرب أهلية أو من الغرق فى مياه طوفان شامل يكتسح مجتمعها واستغلالها. ومهما كانت الوظائف الاجتماعية للدولة الطبقية فى سبيل حماية مصالح الطبقة الحاكمة فإن الشعوب تواصل معاناة الاستغلال الطبقى والاستبداد والطغيان والقهر التى تمارسها الطبقة الحاكمة ونظامها الاجتماعى-الاقتصادى وعلاقات الإنتاج الاستغلالية والدولة الطبقية بصورة منهجية شاملة، ولا يمكن أن تعوِّض الوظائف الاجتماعية للدولة الطبقية البشر عن الغاية الكبرى المتمثلة فى إقامة مجتمع لاطبقى إنسانى يمكنه وحده أن يضع حدا للاستغلال الرأسمالى والقهر الرأسمالى للطبقة ودولتها، ولا مناص من النضال الثورى التاريخى الطويل المدى فى سبيل المجتمع اللاطبقى الذى ينقل التاريخ كله من ما قبل تاريخ الإنسان إلى التاريخ الحقيقى للإنسان، ولا مناص بطبيعة الحال من النضال ضد المجتمع الطبقى طوال وجوده. على أن مقاومة استغلال واستبداد وفساد هذه الدولة داخل نطاق المجتمع الطبقى لا تكون بالهجوم الحربى المباشر عليها كدولة لأن إلغاءها يعنى تحوُّل المجتمع الطبقى إلى غابة ألعن مليون مرة من غابة الرأسمالية. ولهذه المقاومة أصول ومبادئ وقواعد لانتزاع الحقوق والحريات من الطبقة الحاكمة ودولتها، وهى طبقة حاكمة لأن لها دولة، وصولا إلى النضال الثورى التراكمى التاريخى الطويل الأمد للإطاحة بها وبمجتمعها الطبقى وبدولتها بكل مؤسساتها.
30: الانتقال من المقاطعة إلى المشاركة والاستعداد للانتخابات الپرلمانية والمحلية القادمة: ولكنْ ما الجديد؟ إنه قبل كل شيء واقع جديد يتمثل فى أنه بانتخاب رئيس الجمهورية لم يبق أمامنا من خارطة الدولة الطبقية للمستقبل سوى الانتخابات الپرلمانية القادمة. ومعنى هذا أن الإستراتيچية المكثفة المركَّزة على الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الرئاسية والپرلمانية المتواصلة للتصفية التدريجية للثورة الشعبية تصل إلى نهايتها، ولن يكفى إجراء الانتخابات الپرلمانية بعد نصف عام تقريبا لإعادتنا إلى تلك الإستراتيچية الرامية إلى تصفية الثورة والتى كانت تدعو إلى مواجهتها بالتركيز على إستراتيچية الفعل الثورى والمقاطعة للطريق الدستورى الپرلمانى. ومن ناحية أخرى فلا ينبغى أن يكون مجلس النواب القادم خاليا طوال خمسة أعوام من عناصر ثورية تلعب دورها فيه، رغم أن الپرلمان لم يكن له دور حقيقى فى مصر بل ظل طوال أكثر من ستين عاما مكتبا بصمجيًّا على القوانين التى تقدم السلطة التنفيذية مشاريعها وتلتزم بها كل سلطات الدولة بما فى ذلك القضاء الملتزم بهذه القوانين، وبالطبع فإن القضاء أفضل بما لا يقاس من الپرلمان لأسباب سبق إيضاحها فى مقالات متعددة خلال الأعوام المنصرمة. وبالتالى ينبغى الاستعداد لانتخابات مجلس النواب مع العمل على تعديل قانونه، والاستعداد لما هو أهم وهو المجالس المحلية مع العمل كذلك على تعديل قانونها. وليس معنى هذا إعلان وفاة الثورة الشعبية رغم تراجعها، أو انتهاء زمن الفعل الثورى الذى ينسجم على كل حال مع زمن الثورة ومع أىّ زمن آخر، مع المقاطعة فى زمن الثورة، ومع المشاركة فى غير زمن الثورة.
11 يونيو 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال