الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنّا طَوالَ مُعارَضَتِنا الدّكتاتوريَّةَ وما زِلْنا: بلا حَركةٍ سياسيّةٍ نقيضةٍ حقّاً

كمال سبتي

2005 / 7 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


-1-
هذه وجهة نظر لا تسرّ أكثرنا إن قرأها قراءةً انفعالية متسرعة..أو متحزبةً لحزبٍ مّا.
فكلنا لا نقبل أن نتساوى والدكتاتورَ ونحن ضحاياه. فليأخذ ممّا أقول غايةً أسعى إليها في كتاباتي عادة وهي أن نتخلى عن تعصب فارغ لفضائلنا التي هي ليست فضائلَ "حقّاً" ولا تُحسَب في المآثر العقلية المتجاوزة كلَّ بالٍ بل هي كلُّ بالٍ ابتلينا به.
أحسَبُ وتَحسَبون معي أنَّ الشعوب تلد في اللحظات الحرجة من تاريخها حركاتٍ سياسيةً وثقافية في ردِّ فعلٍ آنيٍّ أو مختمرٍ منذ وقت..
الأمثلة كثيرةٌ كُثْرَ شعوبِ الأرض.
وأحسَبُ أنَّ الشعبَ العراقيَّ لم يلد حركةً نقيضةَ الدكتاتورية التي حكمته طويلاً..
كانت الأحزاب المعارِضة مفتوكاً بها من قبل الدكتاتورية الحاكمة شرَّ فتكٍ ومقدّمةً شهداءَ بررةً في نضالها ، لكنها كانت أحزاباً دكتاتورية أيضاً..شبيهةً بالنظام "شَبَهاً يقلّ حيناً و يكثر حيناً آخَرَ"في التاريخ الشخصيّ وفي الفكر التوتاليتاريّ..
أيْ بقولٍ فصلٍ لا يعني نهاية وجهة النظر هذه :
في تلك الفترة التي امتدَّتْ خمساً وعشرينَ سنة تقريباً منذ تَسلَّمَ صدامُ السلطةَ ، أو التي امتدَّتْ أكثر حين نرجعها إلى ما قبلَ عامِ تسلّمِهِ السلطةَ ..لم يستطع العراقيون المعارضون أن يخلقوا فيها نقيضَ النظام الحاكم معرفيّاً وروحيّاً.

***

قادَ جرائمَ الدكتاتوريّةِ المرتكَبةَ ضدَّنا وعيٌ سياسيٌ منتَج من قِبَل العقل السياسيّ العراقيّ نفسه والذي صنعته وتعتمل أفكارُها فيه حتى هذه اللحظة الأحزابُ العراقية التي تقود الحكومةَ الآن في بغداد وتشغل مقاعدَ الجمعية الوطنية.
أيْ في تفسيرٍ مدوٍّ : أنَّ العقل السياسيّ الذي أنجبَ صدّاماً وحزبَهُ هو نفسه الذي كان يعارض صدّاماً وحزبَه وهو نفسه الذي يحكم فترةَ ما بعد صدّام وحزبِهِ في المشروع الديمقراطيّ "الأميريكيّ".

***
ماذا لو أنَّ أميريكا انسحبت الآن ؟
هل يُبقي العقلُ السياسيّ العراقيّ المشروعَ الديمقراطيّ الأميريكيّ للحكم قائماً ؟
أم أنَّ مشروعاً دكتاتوريّاً "عراقيّاً" للحكم سيقفز إلى هذا العقل فوراً ؟

***

هربنا من العراق لأنَّ الحكم كان دكتاتوريّاً ولأن الدكتاتور كان يقمع حرياتنا الأساسية ، ففضحناه في كتاباتنا أمام العالم ، وفي فعاليات أخرى..
غير أنَّ غيرنا كان هرب من العراق أيضاً..لأن الدكتاتور كان متحرراً : بناته يلبسن بناطيل "الجينز" والخمر مباح و الموسيقى ودور السينما والمسارح أيضاً..إلخ
في مؤتمر مبكر للمعارضة العراقية في مدريد عام 1992 ضحكتُ من تلك المفارقة التراجيدية التي سمعتها من جماعتنا الذين سيصبحون قادة الجمهورية العراقية الإسلامية الحالية..
نحن هاربون من دكتاتور قامعِ حرياتٍ وهم هاربون من متحرر منحلّ!
وقد ثأروا الآن منه.." لا مِنّا"!
وهاهم يقيمون جمهوريتهم الإسلامية في بلادنا وإنْ رَغِمَتْ أنوف وهاهم يكتبون لنا دستوراً ظالماً..
كان دكتاتورنا وضعياً و "وضيعاً" فجاءنا دكتاتورون سماويّون يردون على أية محاججة عقلية بـ "قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز"!

***
هؤلاء إسلاميون.. يشكلون التيّار السياسيّ الأول في الشارع العراقيّ..كما قالت الانتخابات.
يعارضهم بعثيّونَ منشقونَ عن الدكتاتور وقوميّونَ "علمانيّونَ" يشكلون التيّار السياسيّ الثاني في الشارع العراقيّ..كما قالت الانتخابات أيضاً.
والتيار الثاني سلفيّ النزعة وقوميّ يتجه اتجاهاً يمينيّاً في أكثر أحواله وإن كان فيه تكنوقراط ينحو منحىً علمانيّاً.
لم أعرف في كلِّ حياتي عن هذا التيار الثاني سلوكاً معرفيّاً وروحيّاً نقيضَ الدكتاتورية حقّاً.
وغير هذين التيارين ثمة تجمعات وأحزاب وشخصيات..حصلتْ على مقاعدَ خمسةٍ أو ثلاثة أو مقعدين اثنين أو مقعد واحد..
لم يقنعني أحد فيها بأنه بديلُ الدكتاتور معرفيّاً وروحيّاً.

***
لم نشهد ولادةَ حركة تبزّ الحركاتِ السياسية العراقية التقليدية في تبنيها الحريةَ حقيقةً لا ادعاءً وفي نبذ العنف وتعريف المواطنة تعريفاً عصريّاً منطلقة من مبادىء منظمة العفو الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان..مثلاً.
أيْ : حتى الآن لم يولد نقيضُ الدكتاتورية.
وهذا أمر قبل أن يَعيبَ الحركةَ السياسيةَ العراقية فإنه يَعيبُ شعباً لا يلد حركةً نقيضةَ كلِّ من كان سبباً لمآسيه الطويلة معرفيّاً وروحيّاً..

-2-
كنتُ أسمعتُ إخوةً عراقيين وجهةَ نظري هذه من طريق البالتوك فعارضها بعضهم- مثلما توقعت- مستنكراً ما جاء فيها أشدّ الاستنكار. وفي المقابل تبنّاها مِن بين مَن تبنّوها كاتب شاب كان في ما مضى نصيراً مقاتلاً في جبال كردستان..
كان النصير الجبليّ السابق يتحدث عن الحداثة والحرية وكانت الدموع تترقرق في عينيّ وأنا أتذكر سنواتِنا البعيدةَ في البلاد الأمّ : نتأبط كتبنا في مقاهينا الأدبية وفي اتحاد الأدباء وفي كلياتنا التي نُفصَل منها لنساق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية وفي أماكن فنية وثقافية أخرى ولا موضوعَ لنا غير الحديث عن الحداثة في مواجهتنا الدكتاتوريةَ وأدبَها الرثَّ في فترة هي من أشدّ فترات التاريخ العراقيّ حَلْكاً وأكثرها تغييباً بسبب ارهاب الأحزاب.
كان زميلنا - الشجاعُ مقاتلاً والشجاع متبنياً في ما بعد طريقَ الحداثة والحرية- يخرج من المسطرة الحزبية فيشق لنفسه ولمستمعيه طريقاً شاقاً آخرَ في هذه الحياة.
وكانت الدموع تترقرق في عينيّ وأنا أرى الحداثة العراقية تهدم الأسوار الحزبية العالية.
المثقفون الهاربون من الدكتاتورية والخارجون من الأحزاب - وجُلّهم بقصصٍ شجاعةٍ ومنتفضة- ومن شاء حسن طالعه ألاّ يدخلَ أيّاً منها هم حاملو مشعل الحداثة والحرية الذي سيبدد ليلَ العراق الطويل.
والقول هذا في المقطع الثاني هو أمل يُضادُّ وجهةَ النظر الأولى و Autoresponse "رد ذاتيّ" من الكتابة نفسها على تراجيديا المقطع الأول.




* ترد مفردة "نقيضة" في المقال مؤنثَ مفردة "نقيض" ليس إلاّ و "صفة" في الحالات كلها ، بلا أية إحالة إلى المصطلح الفلسفيّ "الكانتيّ" الذي يحملها اسماً أو إلى المصطلح الشعريّ المعروف الذي يحملها اسماً أيضاً والذي اشتهر أيّامَ نقائض جريرٍ والفرزدق أو إلى أيّ معنىً آخرَ لها. والهامش لا وجوبَ له لولا الخشية من وقوع التباسٍ لغويٍّ مّا في ذهن بعض الإخوة القراء الكرام.



25-7-‏2005‏‏
هولندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المئات يفرّون من مناطق القتال في منطقة خاركيف وسط تقدم روسي


.. تقارير إسرائيلية: حزب الله يحضر لخوض حرب ضد إسرائيل قبل عام 




.. مدير مستشفى الكويت في رفح يطالب بحماية دولية بعد مطالبة الاح


.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - إسرائيل تؤكد تنظيم حماس قواتها في




.. تحقيق يكشف غياب حدود واضحة لما سمته قوات الاحتلال المنطقة ال