الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الخبز الحافي- إبداع مشترك لدييغو مارادونا ومحمد شكري

عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)

2014 / 6 / 13
الادب والفن





في تلك الليلة الصيفية كنت صحبة صديقي الممثل الراحل محمد الحبشي، وكان رغم مرور زمن، لا يزال منتشيا بحصوله على جائزة أحسن ممثل في مهرجان واغادوغو السينمائي عن دوره في فيلم "حلاق درب الفقراء" للمخرج المرحوم محمد الركاب.
تأخر الوقت وأغلقت الفرنسية "مدام غيران" حانتها بساحة "مرس السلطان" ، فلجأنا إلى "الرانش"، غير بعيد في شارع بليز باسكال (مولاي عبد الله) لاستكمال سهرتنا.

هنالك سنلتقي ببعض أًصدقائنا من الليليين. عرفني أحدهم على فتاة وقدمني إليها:
- هذا صديقي عبد الرحيم من أصحاب شكري.
ثم قدمها لي بدورها:
- وهذه مارادونا من طنجة، من معارف شكري.

رغم الأضواء الحمراء الخافتة التي تطغى على المكان، لم يكن صعبا تبين ملامح البنت، قصة شعر أسود تشبه تماما قصة شعر اللاعب دييغو مارادونا، وركبتين وساقين مستعارين من جسده المكتنز، تكشف عنهما تنورة قصيرة. لم يكن من أطلق على هذه البنت الطنجاوية لقب الأسطورة الأرجنتينية مخطئا.
سألتني مارادونا عن صلتي بشكري:
- هل تعرف شكري جيدا.. أم أنك مجرد واحد من قرائه؟
أجبتها أن شكري صاحبي وأنا من قر ائه أيضا.
نفثت دخان سيجارتها المارلبورو في وجهي، وعادت لتسألني من جديد:
- وهل قرأت " الخبز الحافي"؟
- ومن منا من لم يقرأها؟
ثم فوجئت بمارادونا تصرح لي بأنها أنجزت مع محمد شكري هذه الرواية؟

مرت لحظة صمت، نظرت إلى الوجه القمحي لمارادونا المغلف بدخان سيجارتها، فبدت لي البراءة الطفولية تملأ تقاطيعه وقسماته مع بعض الغباوة أو على الأصح الاستغباء.. قلت لقد سكرت الطنجاوية، أو هي صبت البيرة فوق الحشيش فداخت وصارت "تهرف بما لا تعرف".
قلت لمحدثتي بسخرية مبطنة:
- لم أتشرف بعد بكونك كاتبة.
ردت علي نافية أن تكون لها صلة بالكتابة أو هي من زمرة المثقفين.
- ألم تزعمي لي قبل قليل بكونك شريكة في كتابة رواية عالمية؟
أفرغت مارادونا في جوفها محتوى الكأس التي أمامها فوق الكونطوار، وقالت:
- اطلب لي بيرة أولا.
جاءت البيرة، ونطقت مارادونا المتلاعبة:
- عندما قلت لك يا سيدي إني اشتركت مع صديقك شكري في "الخبز الحافي" لم أكن مدعية ولا بكاذبة، ولم أكن أبحث عن مجد لست بحاجة إليه، ولعلمك فأنا لم أتجاوز في تعليمي مستوى الشهادة الابتدائية.
- مثل شكري؟
- ذلك يهمه، أنا أتحدث عن نفسي.
- لكن "الخبز الحافي" هو رواية سيرة ذاتية، أي يتحدث فيها الكاتب محمد شكري عن طفولته وحياته...
ابتسمت مارادونا ابتسامة غامضة، قبل أن تقول ما معناه: "هنا مربط الفرس أو الجمل"، أي هنا جوهر الحديث.
لجأت أنا إلى الصمت، وربما قلت في سري حينها: لألهو قليلا بكلام هذه الشمالية السكرانة.
كانت تعب الشراب عبا. ومصرة على أن تقايض كلامها بالبيرة كلما فرغ كأسها.
كلام البنت مارادونا كان بلهجة ناس الشمال، وهي لهجة محببة لدينا نحن "ناس الداخل" كما يسموننا هناك.

بدأت مارادونا تحكي لي بعض الطرائف التي في " الخبز الحافي" والتي نسبها شكري له، وتقول لي إن شكري كان التقى بها وصاحبها زمنا قبل أن يتخذ منها "مرشدا سياحيا"، غاصت به في دهاليز طنجة التي لم يكن ملما بكل خرائطها، ودلته على عدد من المهمشين الذين اقتبس منهم مغامراتهم، وقام لاحقا بنسبها إليه، كما ظهر في "الخبز الحافي".
كان محمد شكري قد تعرف على الراحل الكاتب والمؤلف الموسيقي الأمريكي بول بولز المقيم بطنجة، واتفق معه على بيعه سيرته الذاتية، وكان ملتزما معه على أن يحكي له كل ليلة جزءا ليتلقاه منه شفويا وينجز ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وتطلب هذا الأمر من شكري أن يجمع ما أمكن من المغامرات والغرائب ليقنع الأمريكي ببضاعته ويرفع من ثمنها المادي..
وزادت المرأة اللعوب ماراونا متحدية عدم تصديقي لكلامها:
- أنا على استعداد لأقدم لك تلك النماذج البئيسة من الناس لو أردت وشرفت طنجة، وأعطتني عنوانها بأحد بانسيونات عروسة الشمال.
كان الممثل محمد الحبشي يتابع كلامي مع مارادونا، ولما سألته عن رأيه رد علي:
- إنك لشخص تالف إذا كنت تصدق كلام واحدة (...) سكرانة في منتصف الليل.

مرت وقت يعد بالأشهر قبل أن ألتقي في الدار البيضاء بالكاتب محمد شكري في بيت الصديق الفنان أحمد السنوسي بممر "سوميكا" وسط المدينة، وتذكرت بنت "الرانش"، وبعد تردد قررت أن أكلم شكري في الموضوع. توجهت إلى "الكاتب العالمي" كما كان يحب أن يسمي نفسه، وقد أوصى بأن تكتب هذه العبارة فوق شاهدة قبره، وكذلك كان.
قلت لشكري:
- لقد التقيت بالبنت مارادونا.
رد علي:
- وأين وجدت هذه المسخوطة؟
- ذات ليلة في العلبة الليلية "الرانش" .
ابتسم شكري وحول مجرى الموضوع، لكني عدت لأخاطبه:
- هل تدري ماذا قالت لي مارادونا تلك الليلة؟
- وماذا قالت لك هذه القحبة؟
- حكت لي أنها عملت مساعدة لك في جمع الطرائف والمغامرات التي جمعتها في "الخبز الحافي".
وانتظرت ردة فعل ما من الكاتب العالمي، لكن شكري لم يأبه كثيرا للموضوع، وأجاب وهو منشغل بإشعال سيجارته:
- وما الغرابة في الأمر، من كانت لديه خصيتين من نحاس فليتفضل ويفعل مثلي.
هنا أنهيت كل كلام في هذا الموضوع مع "مجنون الورد"، والتفتنا أنا وإياه إلى الاهتمام بباقي الشلة من أصدقاء السهرة. وكأن شيئا لم يقع.

لن أتكلم هنا عن حقيقة مغادرة محمد شكري لمجاهل الأمية وهو في العشرين من عمره، كما شاع وانتشر. فقد تحدث عن هذا أستاذه حسن العشاب في كتابه "شكري كما عرفته" الصادر بالقاهرة، وأكد فيه أن شكري دخل المدرسة وهو في سن التاسعة من عمره. ولما واجه أحد النقاد الشباب محمد شكري بكلام حسن العشاب، طلب شكري من الناقد أن لا يكلمه ثانية في مثل هذا الموضوع إن كان حريصا على صداقته معه.

الرباط، 29 ماي 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة