الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في انتظار السُّكَّر !

أسامة مساوي

2014 / 6 / 15
الادب والفن


في تِلك الأيام التي لا أَوَدُّ تذكُّرها بالمَرَّة -ليس ضُعفا وهَوانا وإنما إجهازا على ماتبَقَّى فِي أحشائي من ماضَوِيَّة لئيمة- كُنتُ قد غِبتُ لِبضع من السِّنين-المُتقطِّعة- عن بيتنا. و أنتم تعرفون أن عِلَلَ الغياب والقطيعة كثيرة في هذا الوطن تماما كما هي كثيرة عِلُلُ الجريمة والعطالة والدعارة وأشياء أخرى...وربما لا داعي لسرد أقاصيص الضَّجر والمَرارة من جديد.لِنتركها رابضة في مستودعها السحيق ,ولَهَا أن تَتَحَيَّنَ فُرصَ الخروج والتَّعبير ’’عَنَّا’’ كَما يشتهي لها لاشعورنا أو ربما شعورنا,من يدري!
كنتُ كُلَّما عدتُ للدَّار -لأرحل مرة أخرى- أجد في الحي وجوها زادت و ملامح تغيَّرت وقامات عنوة في الزمان تطاولت وتَعَملَقَت, لأطفال ,بالأمس, عهدتهم صغارا كأن لن يكبروا تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان.لكن ربما لمدينتنا, لِوَزَّان بَرَكَتُها.لها هالة العُنفوان والتَّحدِّي الموشومة في ذَاكرة دِماءالمدينة.لها جبلان ينتصبان في وجه سلطنة الزلازل وزمجرات الرياح الآتية من ’’طريق الرباط’’.
الرحيل يكاد لا ينضَب!!
كُلما عُدتُ مِنهُ أسأل أُمي,من مات يا أمَّاهُ ومن بَقِي؟
كعادتها تَعُدُّ لي أُمي الأموات واحدا واحدا دون كلل ولا ملل في انتظار آخرين.
كان الموت أحيانا-في ما تروي أمي-يطيل المقام بجوار بيتنا ويُعربِدُ مُتقَرفصا كَسكَارى شهر نيسان.يُسقِطُ الرجال تلو الرجال والنساء تلوَ النساء, لكأنه مأمور أن يبيد الحي بأكمله قبل أن يرحل.
يا للهول,يا للفزع ويا للحظ! هاهي أمي لازالت تحكي لي عن الموت وهي تَصُبُّ لي الشاي من البرَّاد في كأس ’’الحَياَتي’’ ولم تَمُت! هاهي لازالت لم تمت,لازالت تنتظر انقضاء رحيلي! لازالت تَتَفَنَّنُ في إرضاء خواطري وتنفيد طلباتي التي ستشتاقها حتما بعد إنقضاء أيام الحضور.
اذكُرِني بخير يا أماهُ عند صاحباتكِ عساهُ قلب الموت يرأفُ عَليَّ وعليكِ فلا يأخذني وأنا في حضرة الرحيل.في حضرة شُحِّ الوجوه الكادحة إلى رَبِّها, وفطائِرِكِ الصَّباحية التي يتصاعد دُخان تَنُّور بيتنا من أحشائها الطَّازَجَة . اذكريني يا أُماهُ في حُضن وفرة الذِّكريات وأطلال عناقات ما قبل انطلاق بُراقِ الرحيل الجَافِل.
-عَمِّي عَمي عَمي ...هل عِندكُم سُكَّر؟
صَبِي نَحيل لا يتجاوزُ عُمرهُ أربعُ سنوات,حافي القدمين يرتدي ’’تيشورطا’’ و ’’شورطا’’ مُلطَّخا بِبُقَع إيدام تَحَلَّق حولها غُبار وَوَسخ قديم . الصَّبي يُرى عليه أثرُ العَوزِ والحاجة لأشياء كثيرة!
يدفعَ باب الدار,دارنا,دون استِئذان,وكأنه اعتاد الفعل,ويدلِفُ بجَسدِه الهَيكَلِيِّ أَمامي وهو يحمل في يَدٍ كأسا فارغة وفي اليد الأخرى كِسرَة خُبز ليست محشُوَّة بِأي شَيئ.كسرة خبز حافي..( يا إلهي هل يكون هذا هو محمد شكري ؟ ولكن شُكري قد مات سُخطا بعد أن لَوَى أبوه عُنق أخيه أمامه,فَرَحَّله قَبل الأَوان!).
الصَّبِيُّ يقفُ أمامي دون أن يَكُفَّ عن الحركات الطائشة وإعادة ترديد السؤال مرة ومرة,عمي عمي ..هل عنكم سُكَر ؟ سُكَّر ,سُكر !. يبدو كمن اعتاد الطَّلب تِلوَ الطَّلب.. ولا من يُجيب!
كان اليوم هو اليوم الثاني من أيام عيدٍ للأضحى. وأي عيد بدون سُكَر ؟أي عيد بأقدام حافية...؟ أي عيد بكسرة خبز محشوة باللاشيء؟
-ما اسمك يا ولدي ؟
-أنا عَمَّار عَمَّار...
-عمار من؟
-أنا أبي مات والناس يُعطُونَني النُّقود حَتى لا أَبكيه. يقُولون لي أنه مُسافر وسيعود بعد أن يُحضِر لي أغراضا وحاجات كثيرة. لن أُعطِي لأَصدقائي منها,فهم لا يُذَوِّقُونني مِن أطعِمَةِ أُمَّهاتِهم ولحُومِها.
يا للجواب الذي عَصَفَ بي عَصفا. وهل سألتُ أنا عن أبيه أصلا؟ أم أنه يريد نقودا؟وهل تُعوِّضُ النقود الحاضِن إلا قليلا, إلى حين أن يعود؟ وهل من رحل وما رَحَل يعود..يا للهول!؟
-من هُو أبُوكَ يا عَمَّار؟
-أبي لم يَعُد أبي.لقد مات أبي في المَقَابر...مات على قَبر.مات داخله قبل أن يموت.مات أبي وهو يَحفر قبر رجل مَيِّت.
(يقول هذا وعيناه لاتكفَّان عن الجَولان وجسده لا يكف عن الحركة,يجيبني ولا ينظر لي.ربما اعتاد فضاضة القوم وتحاشيهم لحرمانه).
-طيب يا عمَّار,ماذا تريد يا حبيبي؟
-أخي ’’عبدُ الحَيِّ’’ يُريد السُّكر,قال لي اذهب لبيت الجِيران واحضر لنا القليل من السُّكر.هو الآن يطبخ الماء مع بعض أوراق النعناع وينتظر..(أتاي تسَالانَّا).
-أين أُمُّكَ يا عَمَّار؟
-أمي تبكي دائما,ربما ستموت هي أيضا ليعطيني الناس نقودا كثيرة هذه المَرَّة. لو ماتت أمي سأخرجُ وقتما أشاء وألعبُ حتَّى الليل مع أصحابي.سأَكُون قد كَبرتُ وعاد أبي من سفره يحمل لي الحاجات والحلوى.
.... فَكَّرتُ مَلِيا وأنا أتامل ملامح عَمار وقسمات وجهه البئيسة التي رأيت فيها عورة الوطن.بل عورة العالم ووجهه الكَالِح. ياللوجع ياللخذلان ياللفضيحة.ماالذي يمكن لأحدنا في هذه الورطة الأنطلوجية الكبرى أن يقول؟
لم أشأ أن أطيل الحديث مع عمار لأن ’’عبد الحي’’ كان ينتظر ’’عودة السُّكر’’.
كان الجَوُّ باردا بعض الشيء, وعمار مُتسمِّر أمامي وهو يحمل جسده الهزيل على ساقيه القصبيتان الحافيتان.
ناولته الطلب-وزدتُ قليلا من أشياء أخرى- وحشوتُ له قطعة الخبز ببعض مما كنتُ آكل في الصحن .كان ينظر لي ويبتسم ابتسامة تعبانة منهكة جائعة محرومة مسحوقة كادحة أُمُّها.
-الله يرحم الوالدين,قال عمار, ثُمَّ مَرَقَ كسهم بعد أن عرفتُ-من حديثنا- ابن من يكون حين ذَكر لي اسم أخيه عبد الحي,الطفل الهادئ المفجوع دوما في رحيل أبيه المفاجئ. ما أقسى وأقصى الرحيل, لا يكاد يُصَدَّق. كم هو جبان لايواجه ولا يُعلِم المفجوعين بموعد قدومه.يطعن من الخلف كناقم حانق مُخَلِّفا وراءه العويل والضياع وينصرف بهدوء إلى سُرادِقِ عزاء هو على موعد مع التئامه.
كان ’’عبد الحي’’ في الأيام والشُّهور القليلة بعد رحيل أبيه,يسألني كُلَّما لاقاني وقد عُدتُ من رحيلي أحمل أغراضي في الزُّقاق,عَمِّي عمي هل سيعود أبي مثلك أيضا؟
بِربِّ السموات والأرض, ماهذه الأسئلة التي يحفِرها الرحيل على ألسنة أطفالنا؟ أما كان عليه أن ينتظر اكتمال المعنى ونضج السؤال واشتداد الساق لتَحَمُّل الوجع؟ ها أنتَ ترى فاخبرني أيها الرحيل كيف أجيب عبد الحي!عَلِّمه وعَلِّم عمارا كيف يفهماني! آه آه أم أنها ليست مهمتك؟ تقولُ هي مهمة الزمن! ألستم متوطِئان على أطفالنا أنتما والجوع والفقر والضياع؟ هذا ليس عدلا أيها الغياب! قُل هل يستوي الغياب والرحيل!
ها أنا ذا أضعُ أغراضي وأبسمُ سائلا إياه : ماذا سيشتري’’عبد الحي’’ لو أعطيته خمسة دراهم؟كان يبتهج ويقول كذا وكذا وكذا ...أمنحهُ إياها وأقبِّله ليطلق ساقيه للريح في اتجاه دُكَّان ’’حامد’’ . هو موجز قضمتِ العطالة نِصفَ عُمرهِ قبل أن يَختار فتح صُندوق يُطِلُّ على الشَّارع العام.صندوق لقلي حُبوب عَبَّاد الشمس والفول السوداني والحمص....
أُمِّي كانت قد أخبرتني أن ’’السي الطاهر’’ مات في المقبرة إختناقا بغبارها المسموم.كان السي الطاهر حَفَّار قُبور. كم حفر المسكين من القبور مجانا لأناس لا قدرة لهم على دفع تكلفة الرَّحيل. حتى أن تغيبَ يجب أن تدفعَ ثَمن ذلك, وإن لم يكن لك المال, عليك استعطاف عُمَّال الموت,عُمَّالِ المقابر.
السي الطاهر رحل, وحتما هناك من الفقراء من سيرحل غدا! فمن يحفر لهم قبر الغياب؟
يقول الناس ياولدي أن المقبرة لم تعد تَتَّسع للموتى الجدد,فاضظر حَفَّاروا القبور -بعد أخذ إذن السُّلطة - لحفر قبور للوافدين في المقبرة القديمة. والدُّكتور قال أن ’’السي الطاهر’’ مات بالميكروبات,ميكروبات المقبرة القديمة للوالي الصالح ’’سيدي محمد’’ .
-لعنة المقابر قبيحة يا ولدي.
-بل لعنة الفقر ونقيضته المتوحشة يا أمي. لعنة السلطة ومشتقاتها.لماذا لا يجدُ الناس في هذا الوطن أين يسكنون أو يعشِّشُون,ثم لا يجدون فيه حتى أين يموتون ويرحلون ؟وطن لا يوفر لكَ قبرا! أهذا
وطن يا أُمِّي ؟ أتنقصنا الأراضي؟ فليرموننا في البحار إذن..اللهم في الحوت خير من الدود!
- أنا ماكنعرفشي في السياسة أولدي ..’’مقروناشي وليدينا الله يسمح عليهم’’.
السي الطَّاهر كان جُنديَّا متقاعدا.ظَلَّ لسنوات طوال على الجبهة في خدمة الوطن!وكان كلما لاقاني في ليالي الصيف الباردة بمدينتنا,يحكي لي عن مغامراته وصولاته في السَّبعينات والثمانينات هناك في الصحاري حيث تتربص بك العقارب قبل إخوتك الآدميين.
كم من جنود ’’البوليساريو’’ قتل في الحرب اللعينة التي كان يتذكرها بمرارة مغلَّفة بحسرة على عمر ضاع في سبيل وطن شرد أبناء جُندي متقاعد.
وكم مرة كاد يُذبحُ بسكاكينهم لولا لطف القدر.وكم من صديق له فقده على الجبهة وكم وكم وكم .كان هذا هو رأس ماله الوحيد,ذاكرته المغدورة. ذاكرة مثخنة بجراح حاضرة وأخرى في الطريق.
عاد المسكين من الجبهة ومعاشه لا يكفيه لعيالة أفواه ستة له في عقر البيت.اضطر للعمل كحفار قبور-وهو الخبير بالموت ومشتقاته- عساه يُوفِّر بعض المال الإضافي لمواجهة جبهة هنا في الدَّاخل.
أما الأمُ ’’رابعة’’ فتشتغل في حُقُول التِّين والزَّيتون حينا,وفي المعصرة حينا آخر وفي البيوتُ غالبا,عساها الحياة لاتُخسفُ بهم على أرض هذا الوطن.
السي الطاهر رحل وخلفَّ وراءه عَمَّارا حافي القدمين يبحث عن السُّكر في وطن يتأرجح بين الحِرمان والتَّرحيل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال