الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السارد والمخاطب بين رحلة السرد وجماليات التلقي: قراءة في رواية -صالح هيصة- ل خيري شلبي.

أحمد علوانى

2014 / 6 / 16
الادب والفن


في رواية "صالح هيصة" لـ "خيري شلبي" يعمل الكاتب على توظيف ضمير المخاطب بكثافة سردية ملحوظة، ليقترب الكاتب من المتلقي اقترابًا حميميًا، عندما يخاطبه بصيغ خطابية مباشرة، فيحكى الكاتب عن واقع لا يعرف المتلقي منه إلا قشوره الخارجية، وما يزال في حاجة إلى سبر غوره ومعرفة أسراره الباطنية، يساعده الكاتب على ذلك عندما يجعل السارد يصطحبه في رحلة السرد، حيث يخاطبه، ويتجول معه في فضاء المكان، وهنا يصبح المتلقي في حالة من التعايش مع الأحداث، وكذا سيتعرف المتلقي ـ في رحلته مع السارد ـ على جغرافية أماكن ربما مرّ عليها كثيرًا في حياته ولكنه لم يعش فيها. كما أنه سيقترب من الشخصيات فتنكشف له جوانياتها، وكان فيما قبل لا يعرف من هذه الشخصيات إلا أوصافها الخارجية.
فالمتلقي أو القارئ لـ رواية "صالح هيصة" لـ "خيري شلبي" سيجد أن السارد برفقته، لا يتوارى بعيدًا عنه، ولكنه يُشركه معه، ويصحبه في رحلته داخل النص، ويظهر ذلك في حرص السارد على أن يوجه سرده إلى المتلقي في صيغة المخاطب، ومعروفٌ أن السرد بضمير المخاطب من شأنه أن يجذب المسرود له ـ أو المتلقي بعامة ـ ليتنبه إلى أنه المقصود بهذا السرد، وبذلك يقع في شِراك السارد، ويعطيه سمعه، ولن ينفك من هذا الشراك، وكذا لن ينصرف عن سماعه إلا مع انتهاء رحلة السرد والوصول بالرواية إلى النهاية.
ومن الملحوظ أن الرواية تكتنز بصيغ خطابية مباشرة تتجلى فيها جماليات التلقي، ويظهر ذلك في حرص السارد على مخاطبة المتلقي وتوجيهه في رحلته داخل النص ـ وإن كانت رحلة سردية متخيلة ـ فتقرأ مثلاً:
(("تستطيع في شارع معروف أن تملأ بطنك..." ـ "تجلس على واحدة من مقاهيه..." ـ "تمتع عينيك برؤية حشد هائل من النساء..." ـ "يتعين عليك أن تمر على..." ـ "كأنه سيبشرك بخبر سعيد أو سيمنحك هدية ثمينة" ـ "يستميلك..." ـ "فإن حاولت الابتعاد يوجعك فلا تتملص ... لابد أن تميل نحوه لكي تسلم عليه" ـ "ما أن يلمحك" ـ "يفتحها متجاهلاً صياحك..." ـ "أنت تطيل الوقفة" ـ "ينصحك المجربون من أمثالنا بأنك ـ خل بالك يعنى ـ كلما أطلت الوقوف ازداد تورطك" ـ "يقودك سرداب ضيق متعرج..." ـ "سوف تمر في طريقك على بيت أم يحيى...")).
ومن الواضح أن الصيغ السردية السابقة تأتى موجهة إلى المخاطب أو المسرود له أو المتلقي أو القارئ الذي يبغى السارد أن يأخذه معه في رحلة السرد، واضعًا قدمه في قلب الحدث أو وسط المكان، وما دام أن المتلقي قد ولج فضاء السرد إذن فلابد أن يتعامل مع شخصيات بشرية غير عادية، وحتى يتمكن من التعامل مع هذه الشريحة من البشر على الوجه الأمثل، فسيعينه على ذلك وقوف السارد إلى جواره إذ يعرفه على الطرق والمداخل وفى كل طريق من هذه الطرق سيصادف شخصية، وسيدخله السارد في تعاملات معها.
سيتعرف المتلقي في رحلته السردية على شخصية "المعلم جلال" وذلك إذا دخل إلى "غرزة حكيم" من جهة شارع رمسيس، وسيقابل الملتقى في جولته "المعلم على منجة" وذلك إذا دخل من جهة شارع الانتكخانة، وسيلتقي "أم يحيى" إذا مشى من شارع "الشيخ معروف" من خلف مسجده، سيقوده هذا السرداب الضيق المتعرج إلى بيت أم يحيى، وأخيرًا إذا سار المتلقي إلى "غرزة حكيم" من جهة الدرب المفتوح على شارع شامبليون هنا سيجد الأستاذ "حلمي المعصراوى" ووالده، وسيحكى له السارد عنهما، وسينتهي المتلقي إلى نهاية الرحلة بوصوله إلى"غرزة حكيم" وفيها سيتعرف على صاحبها وهو "المعلم حكيم".
هكذا يظهر السارد منشغل بالمكان، فمنذ البدء يهتم بتحديد موقع "غرزة حكيم" وكيفية الوصول إليها، فيتحدث عن: "حي معروف" الكائن خلف "شارع طلعت حرب" بوسط البلد فهو مجمع الغرز. ويركز السارد على وصف "شارع معروف" ليصور اختلاف هذا الشارع عن شارع طلعت حرب، فرغم أن المسافة الفاصلة بينهما خطوات معدودات إلا أن الاختلاف يظهر في جغرافية المكانين وطبقية السكان كما هو معروفُ لنا، ولكن ما يهمنا وما يريد السارد أن يشغل به بالنا هو "شارع معروف" حيث توجد "غرزة حكيم".
فالسارد يريد أن يأخذنا إلى هذا المكان تحديدًا في رحلة سردية، في فضاء مفصول عن المدينة، أو بحسب تعبيره «بقعة مفقودة»( ). بانتقالنا إلي هذه البقعة سنشعر كأنما «قد انتقلنا إلى حياة أخرى في مدينة أخرى لشعب آخر»( ). إنه الشارع الشعبي الذي «يمتلئ عن آخره بنوعيات لا حصر لها من البشر والأشياء: عربات الكارو التي تجرها الحمير والخيول أو التي تدفع باليد.. فروشات الخضروات والفاكهة والأسماك والأواني المصنوعة من البلاستيك والألمونيوم بجميع أحجامها.. خردوات.. ثلاجات للمياه الغازية.. محلات على الجانبين.. بقالة، فول وطعمية، كشري، قطع غيار سيارات، ورش دوكو، ميكانيكية، عجلاتية، كهربائية، مقاهٍ، وحدات متنقلة من كل هذه المحلات في فتارين يحملها باعة سريحة؛ ناهيك عن أركان وخجانيق لإصلاح الكوالين وأبواب السيارات وإصلاح بوابير الجاز والصرماتية المتخصصين في رتق الأحذية التعبانة وتلميع جلودها»( ).
ومن الطبيعي أن يختلف "شارع معروف" الشعبي عن شارع طلعت حرب الارستقراطى، ومن ثمَّ يبنى السارد مفارقة فنية بين شارعين أو بين طبقتين اجتماعيتين، ففي شارع معروف الشعبي:
«الحياة فيه تمضى بأرخص التكاليف فحيث يكلفك الغداء في شارع طلعت حرب مرتب شهر كامل إذا كنت موظفًا غلبانًا، تستطيع في شارع معروف أن تملأ بطنك بقرشين اثنين وربما بقرش واحد تأتيك شريحة متخمة بالفول والطعمية والسلاطة، أو هبرة من البطاطا الساخنة الشهية المشبعة»( ).
ومن الجدير بالذكر أن السارد يهتم بمخاطبة حواس المسرود له، فيجعله يأكل في "شارع معروف"، ويشرب شايًا على إحدى مقاهيه، ويسير على قدميه، ويتعامل مع ساكنيه، فيتحدث إليهم ويختلط بهم. وبهذه التقنيات الخطابية المباشرة يتجاوز "خيري شلبي" السرد التقليدي الذي يعتمد على الحكى من طرف واحد أو من خلال السارد العليم أو بصيغة ضمير الغائب، ولكنه يُكثف من السرد بضمير المخاطب وذلك ليُدخل القارئ معه في علاقة تفاعلية تعتمد على التلقي الإيجابي، وهذا يضفى على الخطاب الروائي حيوية سردية.
يهتم أيضًا السارد برصد حركة الجسد الأنثوي، ولكن يشكله بطريقة خاصة، وذلك عندما يقدمه إلى المتلقي على النحو الآتي:
«تمتع عينيك برؤية حشد هائل من النساء من مختلف الأعمار والأشكال والألوان، فكأن بيوت المدينة كلها قد أطلقت حرائرها من المصونات على هذا الشارع بثياب منزلية بسيطة تكشف عن مفاتن الجسد وبالتحديد عن البقاع المراد سترها؛ يمشين على سجيتهن بغير تحفظ أو أدنى شعور بأي مراقبة أو تطفل كأنهن يتحركن داخل منازلهن؛ تندلق الصدور فوق أقفاص المعروضات فتختلط الأثداء بفرد الحمام والأرانب المستكنة في تحفز خبيث، والخدود بالرمان والتفاح والخوخ؛ تتمازج الآباط البيضاء الحمراء المنتوفة الشعر بأفخاذ الضأن والعجالى المعلقة في الخطاطيف، ينتفض البلطي والبياض والقراميط فوق جنبات السماكين لملمس أيدي البلطيات البشريات»( ).
هكذا يركز السارد على متعة المتلقي الذي يتطلع لرؤية جسدًا أنثويًا حرًا طليقًا، يكشف عن مفاتنه عبر الأشياء المادية، حيث يحل الشيء المادي محل العضو في الجسد الأنثوي، بل لا يحل محله فقط بل يتوحد معه ويمتزج به، ليقدم السارد جسدًا أنثويًا خاصًا، يُعيد صياغته وتشكيله بطريقة فنية يبتعد فيها عن الابتذال والإسفاف أو البورنو الفج، ولكن يقدم للمتلقي تصويرًا طبيعيًا لجسد أنثوي يختلط بالأشياء الطبيعية ويمتزج بها ويتوحد معها.
ولعل الهدف الأساسي من حديث السارد عن شارع معروف الشعبي يأتي تمهيدًا سرديًا ليخوض ـ فيما بعد ـ في السرد التفصيلي عن عالم الحشيش حيث فضاء الغرز ورفاقه من الحشاشين العتاة، وبياعين المزاج... إلخ. ورغم كثرة الغرز إلا أن "غرزة حكيم" هي المكان المحبب، ولكن الوصول إليها ليس سهلاً، حيث تتعدد الطرق وتتنوع المداخل، ويتطلب كل طريق أو مدخل دراسة قبل أخذ القرار بالمسير من جهته وصولاً إلى الغرزة.
وعلى هذا الأساس سيبدأ السارد في عرض الطرق المؤدية إليها قبل اتخاذ القرار بالسير في إحداها، ومع هذا العرض سيجد المتلقي نفسه في رحلة طويلة بين طرق ومداخل غير مألوفة له، كما سيجد نفسه بين شخصيات غريبة عنه، يُشركه الكاتب معها، ويأخذه إليها ليلج إلى فضاء جديد عليه ربما مرّ به يومًا من الأيام، ولكنه لا يعرفه على وجهه الحقيقي، ولم يشتبك مع سكانه، فلم يخبرهم كما عرفهم السارد وخبره الكاتب.
وتأتى منافذ الدخول إلى "غرزة حكيم" لتكون تقنيات سردية تساعد الكاتب على تقديم شخصياته، وسبر أغوارها، فـالطريق الأول: من خلال شارع رمسيس، وفيه ستضطر إلى المرور بـ "غرزة جلال"، وفى عرض الراوي لهذا الطريق يقدم شخصية "المعلم جلال" وهو أشهر "حرامي خزن" في مصر وصاحب أشهر غرزة في وسط البلد، يعرفه القاصى والداني ويخاف بأسه الجميع ولا سيما رجال الشرطة، ويجلس على غرزته «نوعيات منتقاة من أنظف الزبائن وأميلهم إلى الرصانة والمظهرية، من صحفيين وفنانين وموظفين كبار في القطاع العام، ومساتير التجار، وأبناء ضباط الثورة الموسرين الذين حلوا محل أبناء الباشاوات يدفعون البقشيشات بغزارة غير مفهومة المصدر. فيحظون بخدمة تميزهم عن غيرهم»( ).
من الواضح هنا أن السارد يوظف المكان ليتحدث عن الشخصيات، فلا مكان بدون شخصيات تسكنه، وأناس يعمرونه، ويتحركون في فضائه، ويجلسون في جنباته وأركانه. ورغم أن فضاء المكان فسيحًا، جميلاً، نظيفًا، منضبطًا، إلا أنه لا يجتذب السارد ورفاقه، فهم لا يفضلون الذهاب إلي "غرزة جلال" ولا يرغبون في الجلوس عليها من أجل التحشيش، فهم ينفرون منها لأنها أشبه بالمقهى العام، إلى جانب تأخر الصبيان في الإتيان بحجارة الحشيش، وعلو صوت الراديو، وارتفاع ضجيج الجالسين عليها، كل هذه العوامل تؤدى إلى تعكير المزاج، وعدم الشعور بالانسطال، لتبخر أنفاس الحشيش من الدماغ.
أما الطريق الثاني: فمن الممكن الوصول إلى "غرزة حكيم" «من جهة شارع الانتكخانة؛ لكن المرور منه محرج هو الآخر»( ). وحتى يتعرف المتلقي على سبب الإحراج لابد من تقديم شخصية المعلم "على منجة" وهو رجل كريه المنظر، محتال في سلوكه من أجل بيع الحشيش، فهو يورطك لتشترى منه سواء رضيت أم لم ترض، لذلك فهذا الطريق غير محبوب لأن «المرور من أمام كشك المعلم على منجة شائك وحرج وغير مستحب على الإطلاق»( ).
أما الطريق الثالث: فمن الممكن الدخول إلى "غرزة حكيم" من شارع الشيخ معروف، وهذا الطريق عبارة عن سرداب ضيق متعرج، يمتلئ بالقذارة، كما أن المرور منه غير آمن، ويبين السارد سبب عدم أمانه، وهنا يقدم شخصية "أم يحيى" بائعة الحشيش، كما يقدم كلبها الشرس الذي يفتك بمن يراه لأنه لا يألف أحدًا على الإطلاق، كما أن الدخول إلى "غرزة حكيم" من هذه العطفة غير مستحب لما سيعلق بك من شباب خاملين، عاطلين، يتطفلون عليك، ويصطحبونك إلى الغرزة ليشربون معك الحشيش. «وإذن؛ فالدخول من هذه العطفة مجلبة للكدر وتعكير المزاج من كل ناحية. النصيحة أن تأخذ حشيشك من "أم يحيى" وتستدير مرتدًا إلى شارع معروف باحثًا عن المدخل الأفضل»( ).
الطريق الرابع: يمثل هذا الطريق «المدخل الوحيد الآمن لغرزة حكيم فيما يبدو هو ذلك الدرب المفتوح على شارع شامبليون»( ). فهو أسهل الطرق وأقرب المداخل إلى الغرزة.
إذن في كل طريق تكمن شخصية يقدمها الكاتب، ولكل شخصية طريقتها الخاصة في الاحتيال لأخذ المال. وهدف السارد أن يصل إلى مقصده ـ وهو غرزة حكيم ـ دون منغصات، وبعيدًا عن المتطفلين من الأوباش لأنهم سيحتالون وسيسرقون من المريد مزاجه وسيعكرون صفو جلسته باحتيالهم على حشيشه الذي دفع فيه دم قلبه، ولذا فإن فضاء "غرزة حكيم" سيحقق مأرب مريده لأنه فضاء غريب ومخبوء، يختفي عن العيون، ويلتوي كالثعبان من حيث طريقة الوصول إليه، كما أنه معتم من حيث الإضاءة حتى يساعد مريديه على الاختفاء بعيدًا عن العيون، والغياب بالعقول عن الوجود. فـ «كلما كانت الغرزة أقرب إلى الكهف أو القبو أو الجحر أو الخن لعبت بمزاج الحشاشين وأثارت خيالهم»( ).
وبذلك يحاول الكاتب من خلال هذه الآليات السردية التي وضعها أن يأخذ بيد قارئه، فيضع له ساردًا يخاطبه مباشرة أو مرشدًا يتجول معه، أو يرتحل معه في فضاء المكان، ويُدخله في تعاملات مع شخصيات تقبع في هذا المكان، فيوفر له تاريخها ويعرض عليه أسرارها، ويشرح له طرق تطفلها عليه، أو أساليب احتيالها منه، وكيف ينجو من مكائدها، أو ينفك من ربقتها، وهنا تكمن جماليات التلقي التي يصبح القارئ فيها مشاركًا إيجابيًا في تلقى النص الروائي، فلا ينسى الكاتب متلقيه، ولا ينسى المتلقي أنه هو المقصود من الخطاب الروائي.

د. أحمد علوانى
كلية الآداب ـ جامعة بنها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان