الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفظ السلام

مجدي الجزولي

2005 / 7 / 29
الارهاب, الحرب والسلام


للسودانيين في دفع ظلم المستبدين عادات نضالية مجيدة تقضي بإقتلاع السلطان الجائر إقتلاعاً، عادات دشنها في التاريخ الحديث محمد أحمد المهدي حرباً شعبيةً ضد «الترك» و زبانيتهم و أعاد تدويرها عبد القادر ود حبوبه ثم أخرجها حداثيةً علي عبد اللطيف، مالت عنها الرأسمالية الطائفية لتمد في أجل الدولة الإستعمارية إقتصادياً و سياسياً و إدارياً و قانونياً لكن ما لبثت الحركة الجماهيرية السودانية تتقدمها الطبقة العاملة و نقاباتها و تزين جيدها السياسي الجبهة المعادية للإستعمار أن جددت السنن النضالية بهدى ماركسي نجيب. لم يتوقف جهاد الجماهير عند الإستقلال بل تتابع و تطور فبعث في الناس اكتوبر الظافرة 1964 و ابريل 1985 و بينهما قدم الشعب فداءاً ثلة خيرة من مناضليه حصدتهم المشانق و البنادق ما تزال سيرتهم تلهم كل وجدان سوداني حر.

بإغراق إمكانية حل سلمي و ديمقراطي لقضية الوحدة الوطنية و وضعية جنوب البلاد في وحل المناورات السياسية و المكيدة البرلمانية خلال الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989) و عزوف الحركة الشعبية لتحرير السودان عن الإعتراف بشرعية الإنتفاضة الجماهيرية مهدت الطبقة الحاكمة في السلطة و في الأحراش لإنقلاب الثلاثين من يونيو 1989. بعد 16 عام من الضنك المنظم تحت حكم الإسلاميين ها هي الطبقة الحاكمة تجنح لحل سلمي على منهج «الكوتات» آلته ما بات يعرف بالتحول الديمقراطي، و ذلك وفق بنود إتفاق السلام الشامل الموقع بين حكومة السودان و الحركة الشعبية لتحرير السودان في نيروبي في 9 يناير 2005 و إعلان القاهرة الموقع بين حكومة السودان و التجمع الوطني الديمقراطي في 18 يونيو 2005.

لا يمكن عقلاً التنكر لأولوية السلام على غيره، و لا يسع جميع السودانيين إلا الفرح العارم بوقف الحرب لذا رحبت الجماهير بالإتفاقات و سارعت للقاء د. جون قرنق عصر يوم 8 يوليو مستبشرة و مسرورة ليس بعودته إلى السودان فللرجل عاصمة في رمبيك، لكن بأوبته إلى الممارسة السياسية السلمية و بمفاتيح نيفاشا. رغم الترحاب و الحبور من الصعب إنكار ضعف المشروعية الجماهيرية للإتفاقات السياسية المذكورة فهي ما تزال لحد بعيد في مقام الصفقات الصالونية أو المنتجعية، حيث تستند أساساً على فضل الأطراف الموقعة في القوة و القدرة، و وعود بالتحول الديمقراطي، يُنتظر أن تكون مدخل الجماهير للمشاركة في السلطة و الثروة أو كما نصت البروتوكولات. المؤتمر الوطني من جانبه سلطاني الهوية و الهوى، قوام سنده الإجتماعي الرأسمالية الطفيلية و طائفة من الإسلاميين ما يزال في نفوسهم شئ من حتى الترابي، أما الحركة فلا شك أنها تقف على قاعدة جماهيرية أوسع من شريكها رغم كثافة ظل البندقية و شائبة من فوقية الكوماندرز، و هي قاعدة تنتظر تحقيق ما ترفعه الحركة الشعبية من شعارات – عدالة إجتماعية و مدينة تنتقل إلى الريف - تدغدغ بها مشاعر جموع من السودانيين جلهم من الصادقين و بينهم جماعات إنتهازية توالي كل صاحب سلطان. الحركة إذن و بإنتقالها المنفرد إلى مقاعد السلطة في إمتحان عسير لا يفيد معه ترددها بين مقام الجبرة الرأسمالي و مقام الرحمة البروليتاري، ذلك الذي كشف عنه عجزها عن الإنحياز إلى الجماهير و مصالحها في قضايا مباشرة كخصخصة مشروع الجزيرة و بيع بنك الخرطوم الذي شهد توقيع إتفاقه محافظ بنك السودان فرع الجنوب أبيجا ملوال (الأيام، 26 يوليو 2005).

في وصف صائب و نبيه شبّه الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني بروتوكولات نيفاشا ببرامج الإمتحانات الأكاديمية ناقداً طغيان الجانب التكنوقراطي فيها (حوار مع جريدة البيان الأماراتية منشور على سودانايل بتاريخ 19 يوليو 2005) و ها هي شقوق الإتفاق تبرز إلى الجهر و الفعل، إذ ما لبثت اللجنة «الدولية» المكلفة بترسيم حدود ابيي أن سلمت تقريرها لترويكا الرئاسة إلا و علت أصوات القوى الإجتماعية المتضررة من إقتراحات اللجنة محتجة و رافضة (الصحافة، 19 يوليو 2005)، و العلة بينة فاللجنة تكوينها يعكس إرادة القوة و ليس إرادة الجماهير؛ خمسة أعضاء من جانب الحكومة و خمسة من جانب الحركة الشعبية و خمسة «خبراء» أجانب من كينيا، أثيوبيا، جنوب افريقيا، الولايات المتحدة و المملكة المتحدة على رأسهم الدبلوماسي الأمريكي دونالد بيترسون. رد الفعل الأممي على إحتجاج المسيرية جاء على لسان مدير البعثة السياسية للأمم المتحدة في السودان جاك كريستوفيدز الذي أكد أن تقرير لجنة ابيي نهائي و ملزم و أن على الحكومة و الحركة العمل بمسؤولية لتنفيذ مضمون التقرير، مضيفاً أن تفسير المنظمة الدولية لنهائية تقرير المفوضية يأتي من نصوص إتفاقية السلام الشامل التي تقول أن تقرير مفوضية ابيي نهائي و ملزم (الصحافة، 21 يوليو 2005). هكذا و كأنما الأمر قضية إجرائية أو إدارية تتعلق بإعادة توزيع اراضي خطة إسكانية، و ليس قضية تخص مجتمعات بأسرها لها من الإرث السلمي الكثير و من إرث العنف مثله. ربما لا تدرك المنظمة الدولية أنها بهذا الموقف إنما تغلق الباب أمام حوار ضروري بين طرفي الإتفاق و بين القوى الإجتماعية المتنازعة في ابيي لجهة الوصول إلى حل سلمي و ديمقراطي لقضية ترسيم حدود المنطقة بمشاركة فاعلة و ضرورية من أهلها تضمن إستدامة العيش المشترك و السلام الأهلي بين شريكي الأرض المسيرية و الدينكا و تحول دون إستغلال النزاع ضمن أجندة متجاوزة لمصالح أهل المنطقة خاصة و اساطير الهويّات المتناقضة و المتصارعة تمسك بالخيال السياسي و الشعبي و الساحة السياسية السودانية لا تنقصها المكائد و الضغائن. من ناحية اخرى يستحيل فرض رؤية لجنة مكونة من 15 فرد على مجتمع بأسره إلا إذا قررت ترويكا الرئاسة و خلفها الأمم المتحدة أن تقسر أهل ابيي المتضررين على القبول بإملاءات المفوضية حفاظاً على مقدس نص نيفاشا، عندها على السلام السلام.

كما تحتد خصومات تاريخية و تتجدد بزيت النفط في ابيي، فاضحة قصور المفوضيات عن تحقيق مطلوبات التحول الديمقراطي و إدراك أفق السلام ليس بما هو وقف للحرب لكن بما هو باب إلى كريم العيش، كذلك تبرز إلى العلن المطلبي قوى عسكرية و سياسية في الجنوب تنافس الحركة الشعبية على مشروعيتها «الثورية»، و هذه القوى على هوانها الأيديولوجي و الإعلامي ذات جذر في الجنوب و ذات شوكة، قد يعجز لسانها السياسي عن مجاراة فصاحة الحركة الشعبية و قد تعجز خزائنها عن منافسة بيت مال الحركة متعدد الموارد لكنها لن تعدم حيلة في الدفاع عما تراه حقوقاً في الثروة و السلطة توجب قسمة مغايرة للتفسير المدرسي لبنود نيفاشا، بل وصل الأمر إلى حد تصريح اللواء النور التوم دلدوم مسؤول الشئون السياسية و التنظيمية بقوات دفاع جنوب السودان بانه إذا لم يتم التوصل إلى إتفاق بين الحركة و الفصائل فلن يكون هناك سلام و لن تسمح الفصائل لقيادات الحركة بالدخول إلى مناطقها (الصحافة، 21 يوليو 2005). صحيح أن قوات دفاع جنوب السودان تربطها شرايين تمويل و إمداد و تحالف مع المؤتمر الوطني و قوادها ضباط في القوات المسلحة السودانية، لكن هذه العلاقة العضوية لا تكفي لشرح ماهية هذه القوى، فهي من جانب آخر تدعي تمثيل قواعد قبلية معتبرة و تتحكم في مناطق جغرافية من ضمنها ملكال و غرب النوير و جونقلي و لها طموحات ذاتية مستقلة نسبياً عن الثقل المباشر للمؤتمر الوطني. بالتالي فهي من أمر واقع الجنوب الذي صنعته الحرب و الذي لن يتيسر تجاوزه بقرارات تصدر من الخرطوم أو رمبيك وفقاً لمقتضيات نظر الشريكين.

نيفاشا و رغم كرمها اللامركزي لم تستطع أن تجذب بقسمتها الثنائية أطرافاً ممسكةً بالبندقية في دارفور و شرق السودان، و في الجنوب تعترض سفينها رياح من ابيي و من مناطق الفصائل، أما فيما يخص تشكيل السلطة المركزية الجديدة أي حكومة «الوحدة الوطنية» فإن كل الدلائل تشير إلى أنها ستقتصر على الحركة و المؤتمر الوطني و الأطراف المجهرية المتحالفة معه. بالنظر إلى الحقائق على الأرض يجب وضع إتفاقية السلام في إطارها الصحيح فهي لبنة من لبنات بناء السلام السوداني، تشغل منه موقع الركن و تحمل في طياتها جنين سلام شامل لن يتحقق دون تغذية الإتفاق بروافد ديمقراطية تغنيه و تجذر مبادئه في واقع البلاد المرهق بالتناقضات، هذا إذا صح إفتراض حسن نية الشريكين في إلزام نفسيهما بمطلوبات السلام و مستحقاته، على الأقل تكرمة لتضحيات الشعب السوداني الذي استحثاه دهراً على الحرب فمضى ابناءه تفرقهم الجبهات و تجمعهم البرية أو كما قال إعرابي مجهول:
الشر يبدؤه في الأصل أصغره
و ليس يصلى بنار الحرب جانيها
الحرب يلحق فيها الكارهون كما
تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها

البروتوكولات ليست قدساً مقدساً و السلام ليس حكراً على المؤتمر و الحركة و لا يجوز أن تطاله يد الخصخصة فهو من كسب نضال الشعب السوداني و حقه المستحق، من هذا المنظور لا يصح أن تتقاعس القوى السياسية السودانية من أحزاب و نقابات و منظمات جماهيرية و هيئات فئوية و شعبية و جهوية عن مسؤوليتها المتمثلة في إستكمال الإتفاق حتى تتسع منصة تاسيسه لأقاليم البلاد جميعاً. السلام تصونه ديمقراطية لا تسلب قوانينها حرياتها الدستورية إذ لا يصعب بقهر السلطان إعادة إنتاج واحدية الإنقاذ في ثنائية المؤتمر و الحركة، عندها لنا أن ننعت الحكومة المرتقبة بالإنقاذ 2، و قد اتفقت القوى السياسية على الآلية المناسبة لعملها الجماعي تحت مسمى المؤتمر الجامع أو القومي أو الدستوري – أتى حينه و إلا فمتى؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدبلوماسية الأمريكية: أي أمل لغزة ولبنان؟ • فرانس 24


.. هاريس - ترامب: أيهما أفضل للعالم العربي والمنطقة؟




.. تونس: ماذا وراء حبس -صنّاع محتوى- بتهم أخلاقية؟ • فرانس 24 /


.. ما أسباب توقيف طالب فرنسي في تونس بقرار من القضاء العسكري؟




.. تونس: السجن أربع سنوات ونصفا لناشطة تونسية على إنستغرام بتهم