الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أعمدة بلاسقف ولا جدران هل يستمر لبنان؟

نقولا الزهر

2005 / 7 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


كان المشهد في بيروت بعد 14 شباط مفعماً بالحزن، وفي آن كان مترعاً بفرح الاقتراب من الخلاص؛ حينما بقيت ساحة الشهداء لأكثر من شهر مسرحاً تتماوج فيه مئات الألوف من حملة الأعلام اللبنانية والشموع والأهِلَّةِ والصلبانِ المتعانقة...
وفي النهاية انسحب الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان و انهار نظام الحكم الأمني، وراحت تتفكك أجهزته إلى حدٍ كبير...
ولكن بيروت في 29 أيار، في يوم الانتخابات، بدت أنها مصابة بكثيرٍ من خيبة الأمل لشعورها بالانتصار الذي بدا منقوصاً أو بالأحرى مشعوراً. فالقانون الذي نظم هذه الانتخابات هو ذاته القانون 2000 الذائع الصيت والمعروف بقانون (المحادل)، الذي أدى إلى عزوف الكثير من الزعماء السياسيين المعروفين عن الترشح لشعورهم بعدم القدرة على التنافس تحت مظلته، لأن المحور الرئيس في هذا القانون هو المال أو الاستقواء بالسلطة الحكومية أو غير الحكومية، وهما يلعبان دوراً أكثر بما لا يقاس من الخطاب أو البرنامج السياسي. وقد أدى العمل بهذا القانون إلى وصول أكثر من نصف نواب المدينة إلى المجلس بالتزكية؛ فقد كانت مراكز الانتخابات في بيروت في يوم 29 قليلة الازدحام، بليدة الحركة، نسبة المقترعين لم تتجاوز العشرين بالمائة، وخاصة أن قسماً كبيراً من الشبان والشابات لا يحق لهم الانتخاب قانونياً لعدم بلوغهم الواحدة والعشرين، وقسم كبير آخر من أهل بيروت فضل عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع بعد معرفتهم أن ذهابَهم وعدم ذهابهم لن يؤثرا على قائمة أسماء النواب الناجحين سلفاً، والمقاطعة لم تقتصر على مناطق المسيحيين فقط وإنما كانت كبيرة أيضاً في المناطق السنية.. ولولا النائب المشاكس نجاح واكيم لكانت بيروت محرومةً تماماً من رائحة التنافس الانتخابي الديموقراطي.
وفي الجنوب لم تكن المعركة الانتخابية أفضل من معركة بيروت، فمحادل حزب الله وحركة أمل حصدت أيضاً الأخضر واليابس...وكان الرأي لدى هذين الفصيلين أن لا ضرورة للتحالف مع الآخرين حتى لو كانوا حلفاء في المقاومة اللبنانية، وهذا ما عبر عنه الأسير السابق في إسرائيل المرشح الشيوعي أنور ياسين... في الواقع كانت معركة الانتخابات في بيروت و الجنوب شبيهة إلى حدٍ كبير بانتخابات قوائم الجبهة الوطنية التقدمية في سوريا، فمن ينزل اسمه في قائمة الجبهة نجاحه مضمون إلى المجلس...
لكن ما أعاد لمعركة الانتخابات اللبنانية شيئاً من نكهة التنافس الديموقراطي الحقيقي، هي معارك الجبل والبقاع ومن ثم الشمال، ودخول العماد عون على الخط بقوائم مضادة؛ فيبدو أن التحالف الذي جمع تيار الحريري وتيار وليد جنبلاط وقرنة شهوان والقوات اللبنانية لم يقدِّر قوى الجنرال عون تماماً على الأرض، وبالتالي لم يعرض عليه ما يستحق من المرشحين، وهذا ما اعترف به فيما بعد النائب سعد الدين الحريري في سياق المفاوضات على تشكيل الحكومة. وهنالك وجهة نظر أخرى ترى أن وليد جنبلاط كان يعرف قوى عون الحقيقية، لكنه رأى أن عودةً جديدة للتحالف الماروني السني التاريخي الذي كان قائماً قبل الحرب الأهلية يمكن أن يخفض من جديد دوره في الساحة السياسية اللبنانية، وأنه لا يحبذ أن يرى منافساً تنضوي جماعة قرنة شهوان تحت رايته، وهذا ما عبر عنه بعد عودة عون حينما قال أنها تشكل (تسونامياً) خطيراً على لبنان.
وفي المقابل يبدو أن الجنرال راح يستغل بقوة مواقف وأخطاء الطرف الآخر من المعارضة، واستفاد إلى حدٍ كبير من مزاج أغلب المسيحيين اللبنانيين، الذي عبر عنه البطريرك صفير بصراحة متناهية حينما قال في عظته بعد أن انتهى الأمر إلى اعتماد قانون 2000: " لتنتخب كل طائفة من الطوائف اللبنانية نوابها"؛ وبالفعل فقد بقي المسيحيون يتملكهم هذا الشعور أكثر من خمسة عشر عاماً في الدورات الانتخابية الثلاث الماضية. وبالإضافة إلى ذلك فقد طرح ميشيل عون برنامجاً سياسياً إصلاحياً، وقدم نفسه كتيار وطني وعلماني لكل لبنان وليس فقط للمسيحيين(يجب تحرير الذهنيات والتخلص من الإقطاعية السياسية والنظام الطائفي الموروث من القرن التاسع عشر...)، ولقد استفاد أيضاً من رصيده المعارض للعهد السوري ومن تضحيات أنصاره من جراء القمع الذي تعرضوا له لمدة 15 عاماً ، فعلى هذه الأسس راح الجنرال يشكل قوائمه الانتخابية وعبر تحالفات انتخابية براغماتية مثيرة، مثل التحالف في المتن مع ميشيل المر والطاشناق وفي زحلة مع جوزيف سكاف وفي الشمال مع سليمان فرنجية، وكل هؤلاء محسوبين على السوريين؛ وكذلك على عكس ما يظن البعض فالجنرال عون لم يكن في الفترة الأخيرة خصماً للبطريرك صفير بل كان متناغماً معه وخاصة فيما يتعلق بموقفهما المتماثل من رئيس الجمهورية إميل لحود وغض النظر عن بقائه رئيساً حتى انتهاء مدته.
فانطلاقاً من ذلك جاءت نتائج الانتخابات في كسروان وجبيل والمتن الشمالي وزحلة كاسحة لصالحه، وكذلك الحال في عاليه وبعبدا فقد كان خصماً عنيداً وخطيراً على خصومه وكاد أن يهزمهم لولا أصوات حزب الله في هذه المنطقة. في الواقع كانت نتائج الجبل مفاجئة وإنذاراً للتحالف الرباعي (الحريري ووليد جنبلاط وقرنة شهوان والقوات اللبنانية)، وسقط فيها فرسان كبار من المعارضة من نمط (فارس سعيد ونسيب لحود ومنصور البون..) وهذا ما جعل (معركة الشمال) معركة حياة أو موت بالنسبة لهذا التحالف، ودفعت بزعيمه سعد الحريري ليقيم في طرابلس، وربما كانت معركة الشمال أكثر المعارك التي اتسمت بالاستقطاب الطائفي والفتاوى الدينية والمال السياسي.
وهكذا فالمعركة الانتخابية التي جرت في لبنان بعد انسحاب الجيش السوري، لم تكن ديموقراطية وتمثيلية كما حلم شبابه في ساحة الشهداء، فهي أولاً قد جرت في ظل قانون انتخابي غير عادل، وفي ظل مرحلة انتقالية وأجواء أمنية غير مريحة سيطرت عليها التفجيرات والاغتيالات السياسية، وفي ظل تدخلات وضغوط خارجية إقليمية ودولية هائلة.
لكن في كل الأحوال، ورغم كل إشكالاتها وديموقراطيتها المنقوصة، كانت هذه الانتخابات أفضل من كل الدورات الانتخابية التي جرت منذ عام 1992. ومن أهم نتائجها أنها أعادت الاعتبار لكل الطوائف اللبنانية؛ وأزالت التهميش الذي كان واقعاً على فئة من الفئات الرئيسة لفترة طويلة. وخلصت المجلس من عدد كبير من النواب الذين كانت تفرضهم دائماً الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية. ولكن في المقابل لم تمثل نتائجها شرائح واسعة من المجتمع اللبناني فبقيت مبعدة عن الندوة النيابية قوى مختلفة وطنية وديموقراطية وعلمانية ورموزاً تقدمية مرموقة، ولو أنه هنا علينا ألا ننسى عملية الاستدراك أو الاستلحاق التي فطنت لها المعارضة في وقت متأخر حينما ضمت الياس عطالله زعيم حركة اليسار الديموقراطي إلى قائمة الحريري في طرابلس، وهي الحركة التي لعبت دوراً ميدانياً في (انتفاضة الأرز) وفقدت في هذا السياق فارساً من فرسانها الصحفي والمثقف المرموق والناشط الشبابي الكبير(سمير قصير).
**********
انتهت الانتخابات اللبنانية بانتصار التحالف (المعارض) وحصوله على أكثرية راجحة؛ ولكن في الظروف اللبنانية الجيو سياسية وفي ظل بنيته السياسية الطائفية العتيقة تجد هذه الأكثرية صعوبات هائلة ومعقدة جداً وغير مريحة على الإطلاق؛ فهي لا تملك القدرة على اندفاعها الذاتي، ولم تستطع أن تنتخب رئيساً جديداً للمجلس النيابي بل جددت لرئيسه المزمن نبيه بري. والأخطر من ذلك أن هذه الأكثرية المؤلفة من 72 نائباً لا تستطيع إلى الآن أن تؤلف حكومة أكثرية، وذلك لأن هذه الحكومة العتيدة يجب أن تقلع عبر سراديب ضيقة جداً تتقاطع مع بقايا النفوذ السياسي للنظام السوري ومع الوضع الجيو سياسي الضاغط لسوريا على لبنان، وكذلك مع مسألة تطبيق القرار الدولي 1559 والتجاذب القائم بين من يريد رفضه بصراحة وعبر البيان الوزاري للحكومة(حزب الله وحركة أمل) ومن يريد تطبيقه بهدوء ودون استفزاز(تيار عون وتجمع قرنة شهوان والقوات اللبنانية وتيار المستقبل وكتلة جنبلاط)، والأخطر من كل هذه الأمور أن تشكيل هذه الحكومة في هذه المرة يخضع لمحاصصة طائفية حادة جداً بعد أن أصبح لكل طائفة كبرى زعامتها، والصراع عليها يأخذ شكل الفيدرالية الطائفية. فالشيعة يعتقدون أنهم إذا حصلوا على حقيبة الخارجية يضمنون عدم تطبيق القرار 1559، وعون يعتقد إنه إذا أخذ حقيبة العدلية يضمن القضاء على الفساد ويضمن صدور قانون جديد للانتخابات في الوقت الذي يتصور تيار الحريري أن وزارة العدلية تضمن له مسألة الكشف عن الحقيقة وعن الجهة التي اغتالت رفيق الحريري، وكذلك الحال بالنسبة إلى وزارة الداخلية باعتبارها المسؤولة الرئيسة عن أمن البلاد. وفي الواقع هذا التصارع العنيف على الحقائب الوزارية يحوي في طياته تهميشاً خطيراً لدور مجلس الوزراء ككيان جماعي له قرار واحد إزاء كل المسائل المتعلقة بالوطن اللبناني ككيان موحد.
والخوف من التناقض الخطير في لبنان بين وضعه غداة 14 شباط ووضعه غداة 29 أيار، هو أن يجعل من التعانق الصادق الذي شاهدناه في ساحة الشهداء بين الأهلة والصلبان مجردَ فولكلور موسمي عابر، وأن يبقي على لبنان مجرد أعمدة على أرض بلا سقف وبلا جدران تجمع بينها وتمنحها سمة الوطن.
*******
في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وحين راحت تتلبد السماء اللبنانية بسحب سوداء داكنة، لم يتوانَ المرحوم ياسين الحافظ عن أن ينقد بوضوح عبر مقالاته السياسية(وأغلبها كانت تنشر في السفير)، القوى الوطنية واليسارية اللبنانية حينما رفعت شعارها الشهير(عزل الكتائب) وحين راحت تدعو خصومها في ذلك الحين بالقوى الانعزالية، فهو كان يرى أن إقصاء أية فئة من الفئات اللبنانية لن يعود على لبنان إلا بمزيد من التمزق والتقهقر، وكان يرى في آن أن البنية اللبنانية الطائفية لا تتحمل مزيداً من التنظيرين الطبقوي والقوموي، إنما تحتاج هذه البنية إلى عمل رصين ودؤوب وتدريجي لبناء الجدران المشتركة بين أعمدتها الطائفية المكونة لها.
والمفارقة أن بعد أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها وبعد الطائف، يعترف الكثيرون من فرسان هذه الحرب بأنهم كانوا على خطأ، ويؤكدون ما تنبأ به ياسين الحافظ، وقد عبر عن ذلك في هذا السياق المرحوم الشهيد جورج حاوي حينما قال عبر المسلسل التلفزيوني "الحرب اللبنانية" الذي عرض على الشاشات الفضائية: " كلنا كنا على خطأ ويجب أن نعتذر جميعنا للشعب اللبناني عما عاناه من هذه الحرب".
والآن في اعتقادي أن استقرار لبنان الاستراتيجي كوطن مستقل وحر وديموقراطي لكل مكوناته، يكمن في عدم إقصاء أو تهميش أي طائفة من طوائفه، والانطلاق من الواقع التاريخي والجغرافي معاً فيما يتعلق بسياساته الداخلية والإقليمية والدولية. وفيما يتعلق بعلاقاته مع سورية لن تدوم فيما إذا قامت على السيطرة والتسلط، وفي آن لا يستقر لبنان فيما إذا قامت علاقاته مع سوريا على العداء والقطيعة.
وبناء عوامل لبنانية داخلية قوية، يمكنها التخفيف من تدخلات العوامل الخارجية، يتطلب إصلاحاً سياسياً، من أولى مهامه الشروع في انتقال تدريجي لكنه حاسم من البنية السياسية الطائفية الهرمة إلى بنية سياسية قائمة على المواطنة؛ وهذا يتطلب نضالاً سياسياً دؤوباً ومتواصلاً من كل الشباب اللبناني ومن كل الطوائف، وفي اعتقادي أن المهمات الملحة والراهنة الملقاة على عاتق كل اللبنانيين في هذه المرحلة، تتلخص في سن قانون عصري للأحزاب السياسية وقانون متقدم ودائم للانتخابات اللبنانية قائم على النسبية يكفل تمثيل كل المواطنين بكافة فئاتهم الكبرى والصغرى، وهذان القانونان العتيدان هما اللذان سيلعبان الدور الرئيس في تجفيف مستنقع البنية الطائفية الهرمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة