الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية ( التيس الذي انتظر طويلاً)

جمال العتابي

2014 / 6 / 21
الادب والفن


رواية ( التيس الذي انتظر طويلاً)
الامتلاك القوي لأدوات التعبير عن الارادة الانسانية
جمال العتابي
قدم رياض رمزي الكاتب والروائي نفسه إلى الوسط الثقافي عبر كتابات شحيحة نشرت في بعض المجلات العربية، لم توفر له حضورا لافتا في المشهد الثقافي-العراقي، هو الذي غادر وطنه منذ سبعينات القرن الماضي ليستقر في لندن ، بعد ان اكمل دراسته العليا في موسكو ، ونال شهادة الدكتوراة في الاقتصاد السياسي .
صدر له ( الدكتاتور فناناً ) عام 2007 ، وهي دراسة تتناول ( الدكتاتورية) بأعتبارها
( فن) له اصوله وشروطه وتتخذ من صدام نموذجاً ، بالاستناد الى التراث الشعبي واشهر الاعمال في الادب والفن والمسرح ، وتعد احدى الدراسات الرصينة والعميقة في الكشف عن اسرار الطغاة ، وضياع الاوطان وتبديد الاموال وارواح الناس، (تراجيديا ارتدت طابعاً كوميدياً ) كما يصفها المؤلف.
اخيراً صدرت له عن دار الحصاد في دمشق عام 2013 روايته ( التيس الذي انتظر طويلاً) وهي موضوع قراءتنا النقدية هذه .
لقد وجه رياض رمزي اهتمامه نحو الادب بعيداً عن تخصصه الاكاديمي ، الذي لم نشهد له فيه نشاطاً يذكر بذات المستوى الابداعي المتميز ، وكان رياض مذ عرفته طالباً ايام الدراسة الاعدادية والجامعية منصرفاً للقراءة مكرساً جل وقته فيها ، مبحراً في مصادر المعرفة وميادين الادب مع قدرات استثنائية في الحفظ ، مؤجلاً الكتابة الى حين ، فلم يسرع نحوها ، بل ظل منتظراً ان تأتيه الكتابة بنفسها ، ليكشف عن موهبته فيما بعد .
لقد يسّرت لي هذه الصحبة الجميلة التي امتدت لأكثر من اربعة عقود من الزمن وما تزال، معرفة بالحقائق والخصائص الانسانية لرياض التي تجلت فيها اقصى حالات التسامي خلقاً وابداعاً وانتماءً .
لقد كرس حياته للفكر والمعرفة، وتفانى من اجل الرقي بأعماله الابداعية، بما يستجيب ومتطلبات العصر من اسئلة راهنة، وموضوعات مستجدة تلبي حاجات الانسان النفسية العميقة .
ان التراكم المعرفي والتواترات والكشوفات والتجارب، تراكمت عبر التواريخ اليومية لسيرة الكاتب الذي ظل يمارس كشوفاته المعرفية حتى النهاية، كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة .
كنا نجوب شوارع مدينة الحرية ، ونرتاد مقاهيها نحلم مع ثلة من الاصدقاء نشترك جميعاً بالاهتمامات ذاتها ، نعتقد أننا سنعيش عصر الحرية والازدهار ، ننتظر ان يطلق احد الثوار الشرارة الاولى من احراش بوليفيا ، وحفظنا نصوص كتاب (ثورة في الثورة) للمفكر الفرنسي ريجي دوبريه . أليس ذلك هو قدر المبدعين الذين يسهمون في بناء الوجدان الانساني وتسهم اعمالهم في شحذ هذا الوجدان؟ .
تمنحني هذه المقدمة العذر ان ابتدأ بتسليط الضوء على جوانب من سيرة المؤلف الشخصية، إذ أجدها ضرورية للدخول الى عالمه الروائي، لأن الحقائق المذكورة ستقودنا الى النظر والتأمل جيداً في روايته التي تبدأ منذ صفحتها الاولى بتلويحة عن ثانوية التسامي كأحد اهم الامكنة الملازمة لأحداث وشخوص الرواية ( الطالب ، مدرس التاريخ، مدير المدرسة). مدرسة( التسامي) احدى مدارس مدينة الحرية الابتدائية. لم تأت استعارة تسميتها اعتباطاً، فهي وان اختلفت معالمها، وخارطة موقعها، وتصاميم عمارتها في الرواية فأنها شاخصة في ذاكرة ومخيلة الراوي، لم تغادر وعيه ببنايتها البيضاء القريبة من محل سكناه، ما تزال تحمل تلك النكهة والبهاء
اول ما يلفت انتباه القارئ هو عنوان الرواية بصفتها دلالة تتقدم النص، كعتبة اولى لقراءته، ومفتاحاً لكشف اسرار المتن. فالعنوزان يتيح للقارئ فرصة وضع الافتراضات والاحتمالات التي تؤثث لفضاء المتن الروائي .
أفترض ان رياض اختار عنوان روايته دون كبير اهتمام ، فالاشارة ( للتيس) وردت لمرتين في الرواية ، ولكن ثمة اشياء اخرى تشير الى ان العنوان يمثل العمل الذي خطط له الروائي ، واتبع الباعث الانساني الكبير في موضوعه .
يمكن تصنيف العنوان الى مقطعين، الاول : ( التيس) ، وهو في معاجم اللغة ذكر الماعز الذي يوصف بالعناد وقوة التحمل، وقهر الصعاب، أما المقطع الثاني فهو إشارة واضحة للأمل والتطلع، بعد انتكاسات وخيبات وفشل، بعد أن مضى زمن طويل في الانتظار، ولكل انتظار اسبابه وغاياته ونتائجه، أليس القارئ والمتلقي هدفاً كذلك في هذا الانتظار؟
القضية التي تدور احداث الرواية حولها هي التالي:- شخص كان يعيش هانئا بالهروب من الواقع، يمارس كتابة رسائل على لسان عشاق ينعمون عليه بأجر لقاء كتابتها و يلقي في صباحات الخميس قصائد من نظمه في مدرسة التسامي، يجلس، عندما يعود إلى البيت، بعد إنهاء عمله كبائع متجول بعد الدراسة، في الساعة السابعة من كل مساء ينظم الأشعار و يكتب رسائل على لسان عشاق وقعوا في العشق حديثا و آخرون هجرتهم حبيباتهم. في حادثة غير متوقعة مع مدرس التاريخ فقد قريحته و قدرته على الكتابة. هذه هي البؤرة التي تجمع حولها السرد: شخص يسعى للثأر من هزيمة قوامها فقدانه القدرة على قول الشعر و كتابة رسائل على لسان العشاق. عندما لحقت به الهزيمة حاول استعادة ما سُلب منه: قدرته على إنجاز أفعال إبداعية. لكنه دون وعي منه بدلا من الانتصار على هزيمته أمام مدرس التاريخ جعل الحادثة( فقدان القريحة) تطارده. هذه هي العقدة التي حكمت المسار الدرامي لهزيمته، فاندفع بقوة لدرء الهزيمة كعار غير مقبول، معتمدا على الإرادة التي عبر عنها بترديده لبيت شعر للمتنبي كان أشبه بوقود حاول عن طريقه أن يسيّر به قلبه الذي كان يهدده بالتخاذل. عندما فقد قريحته بدأت رحلة العناء والعذاب والمرارات..
من هو البطل؟ شاب بعثته أمه إلى عاصمة البلاد كي تتفرغ لثأرها من زوجها الذي أذلّها. هناك علاقة خاصة تربط الشخصية الرئيسية بأمه التي بدأت حياتها كخادمة، ثم أرادت عن طريق الشعر التعالي على فقرها، فوقعت في حب شاعر مشهور حاول حل عقده الشخصية معها، و عندما انفصلت عنه دفعها القدر كي تتزوج شرطيا منع عليها قول الشعر و خانها مع نساء الغجر. حاول البطل التعالي على غربته و ابتعاده عن أمه، عن طريق الخيال: الهروب إلى الشعر، كتابة رسائل للعشاق و أخيرا كتابة رواية المرأة ذات المنامة الشذرية. أي أنه حاول إقامة حياة مواضيعها العاطفة المتأججة ليتعالى بها على وحدة و واقع مرير، ثم جاء مدرس التاريخ كي يعيده إلى الواقع القاسي عندما صرخ به" كأن ما أعاني منه لا يكفي كي يأتي أبن عشيقة الشاعر و ابن الشرطي ليزيد من عذابي". كان مثل طفل جاء من هشم لعبته و سحبه من ذلك النعيم السماوي الذي كان يستدفأ به، فبات متعذرا عليه العودة إليه.
تنتمي الرواية الى مكان واضح الملامح. فهي لا تبتعد عن هواء العراق ورياح السموم فيه، وفيضاناته وكوارثه، ومواجعه، وحروبه، وجوعه، وموته، وشتائه وقيظه، و مقاهيه وشوارعه: شارع ابطال الامة، شموخ الوطن، بلادي الحبيبة، مطعم صخرة الوادي ، مقهى حراس الوطن ... الحانات، الساحات، الملاهي، دور السنيما، ، و عيد العزة القومية، التي تؤلف كلها لوحة خلفية لما يجري من أحداث.
تبدو طريقة رياض في غاية الجمال والمتعة وهو يحاول ايجاد ايقاع الحياة واثارتها. فهو يبحث عنها باستعداد كبير ، ليس في طبيعة الشخصيات، بل في اماكنهم، من خلال معرفة دقيقة بالاشياء التي تحيط به (غيمات كبيرة عقدت العزم على احداث تغيير جوانب الطرق، فكفت اوراق الاشجار عن الخشخشة تحت الارجل، بفعل البلل الذي ساعد غياب ضوء القمر على تحويل لونها الى مايشبه لون الهرطمان) ص 32. الروائي تأسره اللغة الشعرية . تحفل الرواية بمشاهد عالية الكثافة: (اشجار الشوارع التي وجدت نفسها غارقة في الميس وهي ترحب لظهورك بكل ما لديها من اوراق واغصان وبراعم عساها تجلب لك السرور، مثل وصيفات الزفاف... ) ص 33.
ان طريقة الكاتب في التعبير عن الحياة ممتعة دوماً. يبدو انه يبحث عن هذه الحياة باستعداد كبير، ليس في طبيعة الرجال والنساء الذين يصنعون الأحداث فحسب، بل في شوارعهم وبيوتهم وغرفهم. الروائي لا يستطيع ان يفكر في شخصياته بمعزل عن البيوت التي يقطنونها، الاحياء، المدينة، البناية التي عند منعطف الشارع، الغرف المفروشة، ومن يشغلها من الرجال والنساء. من هنا فالمكان موجود في الرواية، و ليس مجرد احساس به. انه مستغرق كلياً في الصورة التي يكونها شيئاً فشيئاً و حقيقة بعد حقيقة. ينتقل من الشارع، ثم العتبة، ثم النهر، الصحراء، حتى ليصح القول ان البطل الحقيقي في الرواية هوالمكان( الفصل 8 المخصص بكامله للمكان الذي تجري فيه الأحداث). كذلك سمح قاتل القطة من خلال مطارداته بالتعريف بالمدينة التي كانت القطة تجول فيها خائفة من بطشه.
تتوزع الرواية على مجموعتين من الشخصيات، الاولى رئيسة تؤدي ادواراً اساسية في عملية السرد وتفعيل الاحداث، وينبني على وجودها المتن الروائي وهي : الشاعر الذي فقد قريحته، الام ، مدرس التاريخ، القاضي، العرافة، قاتل القطة، بائع الفول، بائع عرق السوس. وشخصيات أخرى يصعب القول عنها انها ثانوية، أو هامشية، لكنها تظهر وتؤدي ادواراً محددة في مسار الاحداث ثم تعود ادراجها بالظهور مرة اخرى، او تتوارى بالمرة بعد انتهاء دورها وهي: الطبيب، رسمية، مدير مدرسة التسامي، الشرطي، قدري الارضروملي، سائس الجواد، عبد الامير الحصيري، الحانوتي، مدير مؤسسة رعاية اليتامى، وغيرهم. تتعدد هذه الشخصيات في العمل الروائي ، كما تختلف اهميتها، وتتباين ادوارها، والمساحات التي تشغلها في الرواية، طبقاً للمهمات المرسومة لها. وتتوالى احداث الرواية، بتوالى المحن على بطلها الذي كان يدرك انه لايستحق مايحدث له، فقد غابت قريحته بطريقة لف غيابها الغموض. إذ بعد (40) دقيقة من خروجه في صباح ذلك الاثنين، يمتد اابوس يتلبسه لمدة (40) عاماً. فالولد الذي بعثت به امه للعاصمة لغرض الثأر لها جراء ماتعرضت له من ظلم، لم يسعفه ما راكمه من حكم و أقوال شديدة الوقع جمعها في دفتره الجوال، لكنها لم تستطع إعادته إلى صوابه، حتى أن الدفتر كاد ينزلق من بين يديه المرتجفتين بعد ما جرى له مع مدرس التاريخ، فتوقف عن إسداء النصيحة بعد فترة، ثم قرر التخلص منه.
الرواية تؤطر للمتن بأطر متعددة تحاكي الموروث الشعبي ، التقاليد، والعادات، الاحلام ،الاسطوري، المتخيل ، والاديان والمعتقدات، الحكايات والاغاني، والبطل يتحرك ضمنها .
البؤرة المركزية التي تنجذب اليها كل الاحداث الواردة في المتن وتدور حولها الرواية هي قضية (الارادة). فالبطل وهو يغادر ثانوية التسامي يقرر المباشرة بتفقد جروحه بالقول (يبدأ العلاج عند مغادرة الحدث) في الجامع الواقع في شارع طالبي الحاجات" وقف مثل مالك الحزين ، برقبته المنحنية كأقواس فوانيس الشوارع ، كان أخر ما قام به قبل الخروج ، انه ردد بيتاً من الشعر غير مكتمل للمتنبي سمعه بائع عرق السوس مثل نتف من كلمات تحلق في الهواء و عندما جمعها وجد انها تمثل شطراً من هذا البيت : وحالات الزمان عليك شتى". لكنه و بعد عقدين من الزمن سيستعيد البيت كاملاً وهو مستغرق في نومه عندما جعلته امه ينام في سرير قرب نافذة مفتوحة. وطبقاً لتكنيك اخراج الاحلام سمعته يقول شيئاً عن مدرس التاريخ ، والمرأة التي احبها في منطقة الميدان، حيث راح يردد البيت الشعري: وحالات الزمان عليك شتى/ و حالك واحد في كل حال، فأدركت أنه في مأزق فقررت أن تمد له يد العون.
الحلم هنا اكثر واقعية من الحياة التي يحياها البطل، مثلما قرأنا في معاني السريالية، فالبطل هنا يرفض التعامل مع ما حدث له كشخص مهزوم و كأنه قدر محتوم. أنه يسعى لمقاومة العزلة والتهميش والتشرد وحالة اليأس من الحياة، والتفكير في الهروب من الواقع فيجد ضالته في التحدي والاصرار وصلابة الارادة، بما فيه الوهم الذي اذا تلبس المرء، فأنه قادر على خلق الانجازات اذا ما اقترن بالأمل" قد تذهب الامطار وقد تختفي الرعود ، ولكني أظل فارساً ، ويظل جوادي ينتظر".
لم يكن البطل مستعدا للاذعان، او قادرا على الانسحاب الذي يوفر للمهزومين خلاصا نهائيا. كان مأخوذا بالشفقة على نفسه. حاول ان يخوض تجربة علاج النسيان، فأوكل الى ذاكرته هذه المهمة. قدمت له الذاكرة تنازلات عندما قامت بطريقة مسرحية بلَي ذراعها بنفسها، كي يذوق طعم انتصار وقتي(/ص84). بيد أن البطل، برغم هزيمته أمام مدرس التاريخ التي أعلن عنها في نهاية الفصل الأول، لا يقبل بها، فيسعى الى طلب العون من رجل الدين و من الطبيب الذي ارتد علاجه إلى نكسة ضاعفت من أوجاعه، لكنه لم يتبن أبدا خيار الهزيمة.
يحرص الروائي على متابعة المسار التاريخي لاحداث الرواية بلغة أعارها الروائي اهتماما لافتا، كعنصر مهم من متطلبات السرد، لتأكيد القيم الجمالية في اللغة. انها مهارة يجيدها رياض كل الاجادة ، ليصنع لنفسه موقعا متميزا في هذا اللون، فتبدو الرواية كأثر فني في جمال العبارة والصورة ترقى للغة الشعر. ورياض رمزي عاشق للشعر كما اعرفه جيدا يختزن نصوصا هائلة من الشعر للجواهري والمتنبي واخرين، لذا يسعى ان يبلغ بالنص ذروته الجمالية دون افتعال، بل برصد وصياغة اللحظات المضيئة في الذاكرة، كما في وصف عشيقة البطل تجد اللغة تعبيرها الارقى وشكلها الاسمى " لها جمال وجه نبيل الملامح ، الاسنان ذات تكوين بلوري بدون فراغات ، انف بأرنبة مدببة قليلا، تسمح احيانا بتوقف قطرة عرق عارضة". وبسبب شغفه بالشعر فانه يطلق احتياطيه المخزون لتكون الصورة اكثر اشراقا" عندما قبل صدرها ، وتابع طوافه على النهود ،بعمل يدل على براءة عاشق عتيد، جعلت تصدر تأوها ، قام لسانه بالاختلاء بحلمة نهدها الايسر جعلها تقول:انت تقبّل الجزء المحمي، انه فؤادي ، وكل ما تبقى لدي" ص123.
لكل كلمة في الرواية قدرة موسيقية متميزة تعتمد على موقعها في الجملة ذلك ما توصلت إليه من خلال قراءة أعمال أخرى و مقالات متعددة للكاتب. فالحوار، كما أظن، في الرواية يعبّر عن قوة الشخصية نفسها، كما هو الحال مع قاتل القطة الذي هو برأيي فيلسوف متخف. اللغة العادية تعبّر عن عجز الكاتب عن جعل أبطاله متميزين عن عابري السبيل. يبدو لي أن الكاتب يؤمن أن الأدب الجيد هو أن تتكلم شخصيات الرواية كلاما يُسمع لأول مرة، كي يتذكر القارئ الشخصية مما نطقت به من أقوال. فالشخصيات تتميز من طريقة كلامها. المجنون في الرواية لا يتفوه بكلام المجانين غير المترابط، بل يقول كلاما بليغا يدل على درجة جنونه، لا بد من جعل المجنون شخصا يفوق نمو عقله الحد فيتخطى كل البديهيات عامدا نحو مرحلة اللا يقين، كالجاهل الذي يجب أن يتكلم كلاما حافلا بالجهل. الرواية الجيدة هي تلك التي تحتاج إلى طريقة جديدة في التعبير عن الحدث، لتخبر القراء بطريقة حدوثه و كأنه حدث يتم لأول مرة. هناك آلاف من النساء انتحرن، لكننا نتذكر واحدة فقط و هي آنا كاريننا، لأن تولستوي أراد أن يجعل موتها غير مألوف من طريقة توديعها للحياة من خلال كلام مؤثّر. الكتاب الجديرون بالتسمية، حسب ظني، يجعلون شخصياتهم تقول كلاما لا يبلوه الزمن، كلام عند قراءته تجعل قارئه يصاب بالأرق.
في مشاهد الرواية السبعة عشر هناك تنويع في السرد والحكاية، فهي لاتخضع لقالب جاهز في التعبير عن القدرات الانسانية في التحدي والارادة الصلبة، وهي مسألة في غاية الاهمية لفهم العمل الابداعي، فالرواية متأثرة بتيارات ادبية متنوعة، اخذت من فوكنر وماركيز وساراماغو، وكتاب امريكا اللاتينية ، لكنها في المحصلة رواية رياض رمزي، فيها خلاصة لتجربته الفكرية والفلسفية العميقة ، رؤاه، ماضيه وحاضره ومستقبله، انها ليست مثل الروايات الاخرى التي تشد القارئ بمتعة السرد ولذة الحكاية. انها تبدع من خلال منطق حداثتها، وتطرح في الوقت نفسه سؤالها الضمني من منظور تلك الحداثة، كما في الكتابة عن البطولة والارادة او بالقضايا الكبرى. فيما يخص التكنيك تشبه أحدات الرواية ستارة وضعت على تمثال غطته من الرأس حتى أخمص القدمين. و هناك خيط لُفّ على بكرة تسحب من الأسفل كاشفة عن القدمين صعودا نحو الرأس، حيث يتم رفع القناع عنه بعد منتصف الرواية و بطريقة تشبه رؤية بناية بعد انقشاع الضباب عنها.
انها ليست رواية سياسية بحتة كما يصفها الناقد حسين سرمك الذي يقول في دراسة له عنها بأنها تتحدث عن مواجهة الطغيان، والانظمة الدكتاتورية، مستدلا على ذلك من تزامن احداثها مع ايام واشهر لسنوات تعود لحقبة تاريخية معروفة من تاريخ العراق حيث تتكرر ايام شباط عام 1963، مما توحي للقارئ ان ثمة علاقة مباشرة بين هذا التاريخ واحداث الرواية التي تشير إلى تماس اشاري- ايحائي- بالاجتماعي والتاريخي الذي يشكل خلفية الرواية.
تحتوي الرواية على معاني غير مباشرة يدل عليها النص و لا يتضمنها صراحة منها هلاك الأم نتيجة مباشرة لعنادها و محاولتها الدخول إلى مجتمع عُلْية القوم عن طريق قول الشعر، وكيف أنها حاولت تجاوز فقرها عن طريق فعل ثقافي فأنتهت إلى هلاكها وسط عالم من رجال لم يكترثوا لنسائهم. لكنهم عندما وجدوا أن من مصلحتهم التخلي عنها بالإتفاق مع نسائهم ضدها، فتخلوا عنها و جعلوها تخوض معركتها لوحدها. هكذا ففي جنازتها لم يتذكرها أحد حتى من سخّرت لهم ابداعها بمدحهم. لم يتعاطف معها غير ولدها الذي شاهد الجحود بحقها قال" أماه سأعطيك صفة أخرى: أم فخر الرجال".
كيف تتجه عقدة الرواية نحو الانفراج؟.
تبدأ مرحلة نهوضه من كبوته عندما يلتقى بالعرافة، التي زوّدتها الأم بتفسير غاية في الذكاء لأسباب حدوث حادثة مدرس التاريخ. اكتسبت حادثة مدرس التاريخ لديه، بفضل اتفاق أمه مع العرافة، معنى جديدا، أهم ما فيه أنه، دون وعي، قام بتصديق تفسير العرافة له كي تطيب جروحه. أدرك بعد لقائه بالعرافة أن ما حدث له لم يكن غير اصطفاء، حتى أنه عاد مفتونا بذلك التفسير لسبب هزيمته، لا بل أنه بات يتساءل كيف أنه لم يدرك ذلك. كان اللقاء أشبه برفع الستارة عن بصيرته كي يستعرض أسباب ما حدث له فعلا يوم الاثنين. أدرك أن عدم فهمه لما حدث كان جزء من رسالة الاصطفاء التي خصه بها القدر لاختبار قوة قلبه لما أنيط به من مهمة، حيث حل محل الهلع مما حدث له تفسير آخر وهو أن الوهم الذي تنزّل عليه كان مخططا له. و الدليل على ذلك تجاوبه مع الوهم تجاوب المريض مع الدواء، و لأنه كان يقرأ المتنبي كثيرا فقد كان البيت الشعري جزء من الدواء الذي جعل قلبه لا يستعجل، بل يرفض الانصراف عن تذكر الحادثة التي أنشبت تفاصيلها في روحه كما تنشب السنارة أنفها المعقوف في شفتي السمكة. تقبّل هذا التفسير عندما تملكه دوار بعد خروجه من العرافة و جلوسه على الرصيف حينما وجد نفسه بعد اللقاء منقادة كلية إلى تفسير فرض نفسه عليه. كان تفسيرا بإخراج متقن لم يكن فيه مجال لارتكاب هفوة. و لأن ذلك التفسير كان جل ما يتمناه فقد آمن به تاركا روحه تنقاد له. تجاوب جسد المريض مع الدواء جيدا، حتى أنه سمع بيتت آخر من الشعر للمتنبي الذي جاءته به العرافة على شكل حلم: رأيتك في اللذين أرى ملوكا. فبات أكثر ثقة و نضوجا من قبل. بدأ يغادر عالم الهزيمة نحو الفعل، عندما أدرك أن هدف مدرس التاريخ أن يجعله يقلع عن عادة الجلوس وراء طاولته ليلتفت إلى اوجود إمكانيات فيه غير مستخدمة، فاندفع للخروج خارج البيت علّه يستخدم ما لديه من احتياطيات و يُظهر عزما ليس بوسعه إظهاره وهو جالس في البيت. عرّضه مدرس التاريخ لحادث جلل. أنه الحادث التي حوّرته أمه بمساعدة العرافة حيث أدخلتا في روعه أن مدرس التاريخ ليس غير حامل رسالة من القدر. ذلك ما قالته الأم للعرافة بأن هناك توريات و مجازات تقف خلف حادثة الاثنين. اتذكر أنني قرأت مرة أن بودلير قال أن العالم يسير بقوة سوء الفهم.
بقدر ما يحرص رياض على رسم ملامح بطل روايته بتتابع محكم، يحرص كذلك على رسم شخصيات واحداث اخرى متصلة، أهمها إستجابة البطل لدعوة رجل مقنِّع لزيارة العرافة التي أعادت له القدرة على شحذ ذهنه حيث راحت تستخدم سلطاتها كعرافة في المستقبل، مستخدمة صدماتها العلاجية عليه، مما أدى إلى انقشاع غيمات الارتياب من قلبه، حين خاطبته قائلة" أسوء الميتات تلك التي يعاني منها شخص يحتضر ويحتفظ بالكثير من الاسرار في قلبه". ص 341 . تقوم العرافة بإعادة النار إلى جمرات قلبه، فتشتعل ثانية ثانية نافضة عنها رماد السنين، فتنفتح شهيته على الاحلام، عندما توحي له العرافة بالجملة" اتخذناك ذخراً لازمنة الاهوال العظمى ، كي نبعد عن قلبك اضرار الراحة ، ستعود قوانين الطبيعة لعبة في يديك". فيظل الهاجس يسكنه في ادارة احداث تعيش في مخيلته. فيمارس مهمة الوصول الى مملكة دحر المزاج، التنبؤ بالجو، و غضب الطبيعة، معرفة أوقات اشتعال النيران في المدن ، والقدرة على ايقافها ، ادارة المعارك مع الأعداء.
عندما يحقق انتصاره تتسع فصول الرواية فيقوم البطل، بدلا من كتابة رواية حرم من كتابتها على الورق، قرر تحويل حياة رعاياه الى رواية ، اطلق عليها اسم صنبور الاكتئاب العام. الرواية التي شرع بكتابتها عبر خلق مرارات على الارض، رواية شخصياتها حقيقية تتصف بالضيق او مترعة بالحبور، بجعلهم أما مكتئبين، أو سعداء فعليين فقدوا كل دفاع امام خالقهم، الذي سلّط صنوفا من العذاب عليهم. انها القضية الفلسفية التي ترتكز عليها الرواية ، كما ارادها الروائي ، خلق شخصيات يعزى سلوكها لصانعها فقط، حيث يختلط الحلم بالفانتازيا، الكوميديا بالمأساة، الواقع بالمتخيل، و الى درجة تصل بشخصيات الرواية الفعلية االى عدم معرفة ما اذا كان مؤلف الرواية يعيش حلم حياته ، ام انه عاش هذه الحياة واقعاً ؟.
ان ما بلغه الرجل من آلام وسوء حالة خلال الاربعين عاماً الماضية قد كنست كل احتياطيه من الحذر الذي استنفده وهو يفرد مجمل عمره للقتال من اجل استرداد قريحته ، فبلغت نظارة عقله وهو يبلغ الستين من العمر درجة من الهزال تشبه نحول المطعونين في قلوبهم . في مساء احد الايام ، شاهد بعينيه تنامي ذعره من خلال رعشة حلت باليدين ، تم استدعاء طاقم طبي ، ابلغوه بأنتشار السم في جسده ، تلقى الخبر بسحنة جليدية شاحبه ، طلب من مرافقيه احضار ورقة وقلم وشرع يكتب مقالة عنوانهاً ماذا لو تزوج حسين مردان من امي .ثم مات.
هذه هي النهاية غير المتوقعة للبطل، وللقارئ في آن واحد، فمن مشهد لأخر، يبدو القارئ في حيرة وتساؤل عن مغزى هذا الموت، وعلاقة الشاعر حسين مردان به .. هل بالامكان القول بأن الروائي قد صور انتزاع روح البطل بواسطة إنارة مفاجئة حلّت في عقل البطل؟. هذا هو الموضوع الذي شغل ذهن الكاتب ، وهو ما يعمق الاحساس بقصدية الدلالة للفكرة المراد التعبير عنها: ماذا كانت عليه حياته لو أخلص المثقف، الشاعر لأمه التي آمنت به بصدق؟. الشاعر الذي كان من خلالها يستروح لانتصاراته الشخصية. و حينما لم تتلق الأم غروره برضا و امتثال و لم تتقبل دور عشيقة الشاعر، استاق إليها القدر شرطيا حاول أن يكرهها على ترك الشعر.
ما الذي تعنيه الرواية؟ما تعنى به الرواية، إذن، هو كيف تغيّر حادثة ما شخصا عندما تفيض على نفسه و تصبح أكبر منه، فلا تبرح ذهنه، توقع الذعر فيه لعدم وجود براعة أخرى لديه تجعله يواجهها ببراعة الواثقين من قدراتهم. فما حاوله في طلب العون من رجل الدين و في عيد النسيان( الفصل 3) االذي بين له أنه ليس فقط غير قادر على النسيان ، بل هو يتذكر الواقعة أكثر مما ينبغي. كرد على تلك المحاولة المتعثرة لجأ إلى الخمر، ثم طريق الانسحاب من الحياة لعشر سنوات( الفصل 5). بعد عشر سنوات وجد أنه غير قادر على التنازل، لأن دمه لا يحوي بذرة المنسحبين، و إلا لكان نسي هزيمته. كان أشبه بجندي في صحراء قطع عنه الماء، و لعدم جدوى رفع أي اعتراض قرر مقاومة قدره ببسالة مستلهما حكاية الملك( الفصل الأول) الذي جلب له القدر تاجا من الثلج، وضعه على رأسه قائلا" سأناديك ملكا إن وفقت في الحفاظ عليه ساعة فوق رأسك". و عندما بخرته شمس تموز المتوحشة بكى الملك المهزوم فقال له القدر" عليك ألا تبكي على ثلج انهزم أمام الشمس، عليك الاعتراض على لهيب الشمس". أبعد فكرة الهزيمة بعزم عن قلبه عندما قرر تجاوز كبوته هذه المرة، ليس عن طريق عمل أقرب إلى الهواية، بل عن طريق معرفة علم راسخ الجذور يكون له سلطان عليه، لا يفارقه كما فارقته قريحته: معرفة سلوك الجو لتطويع لهيب الشمس كي تخدم أهدافه، كمن يتطلع إلى السماء للحصول على عونها ضد سكان الأرض.
اعرف حجم الجهد المبذول في الكتابة، كما أعرف كم امضى الكاتب من السنوات مستغرقاً ، باحثاً منقباً و متأملاً، ليقدم هذا النص كعلامة مختلفة في مسار الكتابة العراقية. وارجو ان يسمح لي الروائي رياض رمزي بأن اطلق تسمية ( الرواية المظلومة ) على عمل كهذا. أنه هو من يتحمل مسؤولية الظلم الذي لحق بروايته جراء قلة كتاباته وميله للعزلة، بالبقاء بعيداً عن المشهد الثقافي، وحراكه المتواصل، لذا لم يشغل رياض موقعه بما يستحق وفق مؤهلاته الفكرية والثقافية، ولي ثقة ان منجزه الابداعي المقبل سيضعه في مكانه الحقيقي. لذا ادعو النقاد والقراء الى قراءة هذا العمل الفني، وعندذاك سنحتكم قائلين: هل يمكن لرواية ( التيس الذي انتظر طويلاً ) ان تدعي لنفسها حضوراً، ربما مميزاً في الابداع الروائي العراقي؟.
في الختام لا بد من القول ان الرواية كشفت عن موهبة روائية جديدة ومهمة ، وهي تعد واحدة من الروايات المتميزة التي صدرت في الأعوام الأخيرة ، لا بل في مقدمتها ، وان كانت هناك امكانية للتركيز والحذف في احداثها .. وتقليص الاسراف في التفصيلات الزائدة وغير الدالة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح