الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف… بين الآدمية والجحيمية

علي ياسين عوض عبيدات

2014 / 6 / 21
الادب والفن




يعد المجتمع شكلاً من أشكال اللقاء، وأهم ما يميز المجتمع - كلقاء- هو أنه طويل الأمد، فحتى إن مات رعيل المجتمع الأول، سيستمر التجمع والإجتماع على يد المجتمعين الجدد! و من بديهيات التجمع أن يكون الإنسان ركناً أسياسياً للمجتمع، وعلى حد قول إبن خلدون "فالتجمع أمرٌ غريزي، والإنسان اجتماعي بالفطرة" ويرى البعض أن خوف الإنسان من المجهول هو المبرر الأول لتجمعه مع غيره، فالكثرةُ مؤنسة، ولا يسع المرء أن يُكمل حياته وحيداً. فلا يفكر الإنسان بغرائب الأمور إلا إن مكث وحيداً وأطال في تفكير وحدته، ليشعر بعد تفكيره المطول بأن خطراً ما سيصل إليه! ولم يُقصِر علم النفس في شرح حالة النفس البشرية وكيف يُفكر صاحبها إن مكث وحيداً.

يتجسد اللقاء الأول برجل شبه عاري وبأنثى لا تلبس أحسن منه، ولو أخذنا مقطعاً رئسياً لحيٍ من الأحياء التي تعود للإنسان الأول لوجدنا كهوفاً سكنيةً موزعة على طول غابةٍ خضراء ووافرة الماء، ولوجدناهم متفقون على نصيب كل واحد منهم دون أن يتحدثوا أو يبرموا أي اتفاق يخص الأمر، وهذا على الرغم من القطيعة التامة التي تُخضبُ علاقاتهم. فكأنني أراهم أمامي الآن وهم ينظرون إلى بعضهم البعض، وكأن الأول ينظر إلى الثاني على أنه فصل غريب او عشب لم يعهده من قبل! ويسأل الثاني نفسه هل هذا يؤكل؟

الوجوم سيد الموقف، واللامُلكية تهيمن على جنبات المكان، أحدهم يملك إمرأة والآخر يطمح أن يقتني مثلها، أحدهم يسكنُ ذلك الكهف، البعيد، وينظر إلى القلة التي تسكن الكهوف المتجاورة.

لم يكن اي منهم على علم بمعاني الآدمية وتبعاتها وكيف يُخلدُ معناها، إلا أنها كانت محفوظة، فلم تخبرنا الحفريات عن أكل الإنسان للإنسان مثلاً، ولن أبالغ لو قلت بأن إحتراماً ما كان يتلألأ في قبة المكان السماوية، ليتجلى احترامهم للخصوصية المبنية على عدم التواصل مع الآخر! فمن منطلق الإهتمام بالكهف المتين، والغزال الأكثر لحماً، والجلد الذي يقيهم البرد... إلى نهاية ما يساعدهم على الحياة، أهم من إتقان التحية البشرية وكيفية رميها.

يعيشون جمعاً ليكونوا فُرادى، وكأن الفرد على يقين تام بأن الجميع لا يريدون الفرد او لربما لا يعي سبب وجوده بالقرب منهم، ليكون التجمع بداعي الفطرة- فقط- وبقالب فرقةٍ عجيب، فنشعر بأنه لقاءٌ رغماً عن الملتقين، إلا أنهم يؤمنون بأن للفرد قداسة، ولو انصتنا لروح احدهم وتذكرنا ما كان يقوله لسمعناه يقول: ذلك السمين -الذي لا اسم له- لا يرغب بالحديث معي لذا لن أُدنو منه..! أو أن يقول: تلك التي تسكن في الكهف العالي لا تعيرني أدنى اهتمام! لذا لن أنظر إليها مرةً أخرى وسأكتفي بالنظر اليها عند شفاه النهر أو في منطقة الصيد.

نعم إنها الخصوصية واحترام الآخر والملائكية البشرية التي لم نحافظ عليها.




لم تكن اللغة حاضرة، وما من أدوات للاتصال، وكان الهم محصور بالمأكل والمأمن، فلم يكن الإنسان بحاجة إلى أن يغلق هاتفه ليتخلص من الفضولين، ولم يكن حساب الفايس بوك وقتذاك مُفعلاً، وما كانت نغمات الواتس أب تجلجل مسامع المتحلقين حول شجرة ما، ولم يكن الصراع لأجل قطعة أرض او بدافع التوسع وبسط النفوذ والهيمنة على ثروات الآخر(جلد أو سكين أو ورق شجر، أو نصف غزال مقتول) - أكلَ فشربَ فنامَ- ولم تكن هندسة الجينات أو البحوث الذرية مهمة، فقداسة الحياة أنبل، فكم حافظ الإنسان الأول على معاني الإنسانية وعلى إنسانيته، التي من معانيها إحترام الآخر، وإجلالُ كل متكهفٍ وعدم إزعاجه.

لم تكن اسرئيل موجودة، وما كانت سطوة الآخر مداعةً للتجمع - أبداً لا- فوقتذاك لم تكن نظرية المؤامرة في الحسبان، ولعل خجل الإنسان الحديث من بداءته هو ما جعله يحول الخوف الفطري والمؤثر بالعقلية الجمعية البشرية إلى نظرية المؤامرة التي تهيمن على ذاتنا وتهول لنا الآخر! فخاف الإنسان خوفاً ممتداً من سرمدية الخوف البشري، الخوف من الموت أو من الرحيل، الخوف من الأذى، الخوف بشتى أطيافه، الخوف كعدوٍ للأمان، وبما أن العالم صار خطراً خطيراً و لا يُتقى شره، فحريٌ بنا أن نخاف ونخاف ونخاف..! لعل عدم وجود ما يسمى" بالأمان المُطلق" يحثنا على اللقاء، سواء كان فطري أو لطرد أخيلة الخوف، ولهذا هو باق.

صميم ما أتحدث عنه هو إنسانية الخائف القديم واحترامه للآخر، ووحشية الخائف الجديد وإيذائه للآخر، وليكن التطور قلب ما أتحدث عنه، فلو نظرنا إلى القديم لوجدنا طموحه في قوته وما يظلله، ولصدمنا احترامه للآخر وعدم الإلتفات إليه وحتى إن كان يقاطعه - فالمهم أن لا يضُره – ولو التفتنا إلى الجديد لوجدناه خائفاً من أن لا يؤذي الآخر أكثر! فلهذا يحرص بأن يكون معه ومجتمعاً فيه، وأحياناً نرى الحاق الضرر بالآخر دفاعاً استباقياً، فقد تغيرت معاني الخوف وتطورت أساليب الترهيب والأذى تزامناً مع تطور العقل، والعقل بين قديم وجديد يبرهن هذا.

لو ساعدنا العلم على استعادة ما في إحدى الجماجم من صور وأصوات، ولنفرض بأننا فتحنا عقل إنسان قديم و وجدنا صوراً مطبوعةً فيه، فماذا سنجد؟ سنجد الجهل وصوراً للصخر والنهر، وقشاً يغطي عورة رجل ما، ولن نجد حاسباً محمولاً أو معادلات في الكيمياء، ورغم هذا كانت الإنسانية البدائية أكثر رحمةً وأنسنةً مما نحن عليه اليوم، فكان الآخر عبارة عن جزءٍ من أجزاء الطبيعة ولا يُقابل بالشر إلا إن أبداه، اما الإنسان الجديد فلا حاجة لنا في فتح مخه ومعرفة ما فيه -لأنه نحن- ونراه ونرى منه ما لا يرى! فالقتل جاء مع الإقطاع و بعد أن سكن الإنسان في مساكن نظيفة، والحروب جاءت مع التمدن والإستحمام اليومي والملابس النظيفة، والقمع والإحتلال وقطع الرؤوس جاء مع الأديان والرسل السماوية التي أساء لها الكائن البشري أكثر مما نفعته هي..! فأيهما أنفع بدائيةٌ وإنسانية أم تمدنٌ ودموية؟ وأيهما أكثر وفاءاً للإنسانية؟ وثنيةٌ وأرباب متعددة تزامناً مع بعض السلام، أم قتلٌ واحتلالٌ تزامناً مع رب واحد وملايين الأوثان الناطقة بإسمه..!!


علي عبيدات (كاتب ومترجم عن الفارسية)
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنانة الراحلة ذكرى تعود من جديد بتقنية -اله


.. مواجهة وتلاسن بكلمات نابية بين الممثل روبرتو دي نيرو وأنصار




.. المختصة في علم النفس جيهان مرابط: العنف في الأفلام والدراما


.. منزل فيلم home alone الشهير معروض للبيع بـ 5.25 مليون دولار




.. إقبال كبير على تعلم اللغة العربية في الجامعات الصينية | #مرا