الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ارشيف طبيبة...ذات الرداء الأسود

حنان فوزي المسعودي

2014 / 6 / 24
سيرة ذاتية


من ارشيف طبيبة..... ذات الرداء الأسود.....

  صعق الرجل الستيني حين اخبره ألأخصائي عن إصابته بسرطان الحنجرة المتقدم....راقبت هلعه وانفعاله الواضح بينما كنت اقوم بتحضير أدوات الفحص والتنظير للطبيب الأخصائي المشرف علي..... لطالما تساءلت عن شعور المريض حين نقوم بإخباره بهذا التشخيص القاسي...مزيج من الذهول والرعب والإنكار...فمعظم المرضى لايستطيعون إخفاء نظرات الشك في قابلية الطبيب حين يستمعون لهذا الخبر المفجع.
تقرر ان يخوض الرجل عملية رفع كامل للحنجرة بعد إسبوع وهي من العمليات فوق الكبرى وألتي تتطلب رعاية خاصة بعد إجراءها بسبب عدم قدرة المريض على الكلام او التنفس او تناول الطعام بصورة طبيعية لمدة عدة أسابيع بعد إجراءها..... كان يصاحب مريضنا زوجته وأولاده....لاحظت ان رد فعل الزوجة تجاه ما أخبرناهم به كان باردا وغير متوقع...فعزوت السبب إلى الصدمة الأولية...ولم يكن رد فعل الأبناء بأفضل منها...فقد إنشغل أحدهم بالرد على هاتفه المحمول بينما كان الأخر يمضغ العلكة بلا إهتمام.
صارحني الطبيب الأخصائي بمخاوفه الخاصة من تلك العملية ولهذا المريض بالذات...حيث ان الرعاية بعد الجراحة كانت لاتقل أهمية عن الجراحة بحد ذاتها...ولم نلمس من ذويه ذلك الأهتمام والتفاعل الانساني المتوقع في هذه الحالات..... في صباح يوم العملية جاء المريض هادئا مستسلما وهو يتمتم ببعض الأدعية والصلوات الخاصة ولم تمض دقائق حتى غاب عن عالمنا وإستسلم كليا لمشرط جراحه البارع. بعد خمس ساعات كان يستلقي نصف نائم في غرفة خاصة بينما احاطت به أكاليل الزهور التي أرسلها اقربائه ومعارفه...أتيت مع الطبيب الجراح بصفتي طبيبة مبتدئة للتأكد من حالة المريض وعلاماته الحيوية بعد إجراء ألجراحة...لفت إنتباهنا إن زوجته ألتي رأيناها قبل أيام وأولاده لم يتواجد منهم أحد بينما جلست إلى جواره إمرأة بعمره تقريبا أو اصغر قليلا وهي متشحة بالسواد وتتضرع بيأس لشفاء عزيزها.... لم يكن من اللائق طبيا ولا إجتماعيا ان نقوم بسؤال المرافقة عن صلتها بالمريض ولكننا خمنا بأنها شقيقته....
كانت الأيام التالية صعبة جدا حيث توجب علينا تنظيم علامات المريض الحيوية والسيطرة على ضغط الدم وكذلك الدقة الشديدة في إعطاءه المحاليل الوريدية ومراقبة عمل الكليتين في نفس الوقت..ومن اصعب الأشياء تعامل المريض مع الخرس الألزامي الذي يصاحب العملية..فلم يكن يستطيع التعبير عن أوجاعه او إحتياجاته الخاصة....كنت قريبة جدا منهم في تلك الأيام وذلك لأن عناية المرضى بعد العملية تعتبر من واجبات الطبيب المتدرب وليس الجراح الأخصائي...
لمست والحق يقال من تلك المرأة حنوا ورعاية للمريض لم اعهدها في مرافق من قبل...فكانت تقوم بتقطير السوائل والعصائر إلى معدته قطرة قطرة مثلما يطعم العصفور اولاده....وتمسح جبينه المندى عرقا بفوطة نظيفة معطرة...حتى عندما يخلد للنوم كانت تجلس الى جواره تراقبه أو تصلي ... وبفضل الرعاية التي ابدتها ذات الرداء الأسوء لمريضنا فقد تحسن بسرعة وتقرر مغادرته للمشفى بعد إسبوع واحد من إتمام الجراحة....
لم اتمالك نفسي وفضولي الذي كان يقتلني رغم تعارضه مع المهنية الطبية...ووجهت اليها السؤال الذي ظل يدور في خلدي منذ أيام...."من أنت ؟؟....أأنت شقيقته "
اجابت بعد إبتسامة حزينة "لا...أنا زوجته "
صعقت مما سمعت لأني كنت قد التقيت بزوجته الرسمية في يوم التشخيص وقبلها عدة مرات خلال الفحوصات الأولية...فتناسيت كل القواعد والأخلاق الطبية المتزمتة وسألتها.....
"لم أكن أعلم أن لديه زوجة ثانية فقد إلتقيت بزوجته وأبناءه قبل إجراء الجراحة.."
أضافت بأسى...."نعم...أنا زوجته الأولى...ونحن منفصلين...ولكني لم استطع ان أتركه يواجه محنته تلك لوحده خاصة وإن الزوجة الثانية وأولاده مرتبطين  بالعمل والدراسة وليس بمقدورهم رعايته بينما أنا متفرغة فلست أعمل وليس لدي ابناء...إنما أتيت لمساعدته لوجه الله تعالى..وستنتهي علاقتي به بعد مغادرتنا اليوم "
طافت كلماتها الحزينة تلك في مخيلتي وزادت من حيرتي وإحترامي لها....الزوجة الأولى..التي لم ترزق بالأطفال...من الواضح جدا ماهو سبب وجود الزوجة الثانية..... ودعتهما وأنا واقفة في باب ردهة الجراحة...اراقبها وهي تسند زوجها او مريضها على ذراعيها لتساعده في ركوب سيارة الأجرة بعد ان لم يأت أحد من اولاده لأصطحابه... .
مرت أشهر وأنا أعمل ..وإنتقلت إلى قسم أخر حتى ظننت إني نسيت ذلك المريض وزوجته الوفية....وكان يوم....إن إستقل ذلك المريض المصعد معي برفقة الزوجة الثانية...أم الاولاد....وقد بدا اكثر صحة وتفاؤلا.... تذكرني الأثنان...فسلموا علي...وأخبروني بأنهما قد أكملا توا الفحص الدوري المختص بمتابعة نتائج العملية وإن الطبيب الجراح راض جدا عن تقدم حالة المريض....كانا يبدوان سعيدين....وقد ارتدى المريض بدلة رسمية بينما أكثرت الزوجة من وضع مساحيق التجميل والعطور....ثم أخبراني ساعة الوداع بأنهما ذاهبين للأحتفال بشفائه في إحدى المطاعم الجديدة في المدينة..وقاما بدعوتي...ولكني إعتذرت متذرعة بالعمل....وودعتهما....وأنا اراقب فرحتهما معا...واتساءل عن ذات الرداء الأسود....هل نالها حظ من هذا الأحتفال....لا أدري.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من يتحمل مسؤولية تأخر التهدئة.. حماس أم نتنياهو؟ | #التاسعة


.. الجيش السوداني: قواتنا كثفت عملياتها لقطع الإمداد عن الدعم ا




.. نشرة إيجاز - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة


.. -تجربة زواجي الفاشلة جعلتني أفكر في الانتحار-




.. عادات وشعوب | مدينة في الصين تدفع ثمن سياسة -الطفل الواحد-