الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هيكل يحاكم التاريخ! فمن يحاكم هيكل؟

ثائر زكي الزعزوع

2005 / 7 / 30
الصحافة والاعلام


1-عبقرية هيكل....
لا شك أن الأستاذ محمد حسنين هيكل الكاتب الصحفي المعروف هو مدرسة قائمة بذاتها، فليس هيكل رجلا استثنائيا فحسب، بل هو ظاهرة استثنائية، وهذا ما يجعل منه مجموعة متكاملة من الهياكل الشامخة فمن رجل الصحافة إلى رجل السياسة، إلى المؤرخ والقاضي مؤخراً....
فمنذ أستأذن "الأستاذ" بالانصراف عن عالم الكتابة سرت الكثير من الشائعات حول مستقبل الثمانيني الذي قرر أخيرا أن يضع نقطة في آخر السطر، ويغمد قلمه الذي استله على مدى أكثر من نصف قرن حفلت بالأحداث والتحليلات التي أبرزت هيكل واحدا من ألمع الكتاب الصحفيين في العالم.
من الشائعات التي سرت لحظة توقفه عن الكتابة أنه سيطلق فضائية، تكون متميزة، وذات نفس خاص ومتطور، ومنها أنه سينصرف لكتابة سيرته الذاتية، لكن أيا من مطلقي الإشاعات أو مروجيها لم يخطر في باله أن الكاتب الصحفي الألمعي سينقلب إلى "مؤرخ من نوع خاص" مؤرخ لا يكتفي برواية التاريخ فقط بل إنه يعلق عليه، ويحاكمه، مستعيناً بخبرته الطويلة وعلاقاته.
هيكل الذي قال عنه هنري كيسنجر ذات مرة: "شخص واحد تعرف كل شيء عن منطقة الشرق الأوسط لو التقيته"..وهيكل- الذي لا يتحدث عنه كثيرون إلا باستخدام اسمه الرباعي "الأستاذ محمد حسنين هيكل"- يحتفظ في رأسه بخريطة كاملة للمنطقة بها كل تفاصيلها، ويحتفظ في أوراقه ودفاتره بما لا يحتفظ به غيره من وثائق، بها أغلب ألغاز المنطقة القديمة والجديدة، ومفاتيح للعديد من خزائن الأسرار. قرر ذاك الذي اقترح الكثيرون تسميته بالهرم السادس بعد الأهرامات الثلاثة وأم كلثوم ونجيب محفوظ، أن ينفض الغبار عن خزائن كنوزه النفيسة، وأن يخرج منها ما لم يطلع عليه الآخرون....
2-الحكواتي....
عبر قناة "الجزيرة" القطرية، أطل علينا "أستاذنا" راوياً ليذكرنا بحكايات جداتنا حين كنا نمضي الليالي منتظرين ما ستجود علينا بها قريحة الجدة، وهي تلملم القصص من هنا وهناك لتنسج منها حكاية تقودنا في آخر المطاف إلى الأسرّة لننام ونحلم بشخوص حكاياتها الخارقين الذين يقومون بالكثير من الأشياء التي نعجز نحن الصغار عن القيام بها.
لم أقصد أن أجعل صورة هيكل وهو يروي "التاريخ" شبيهة بصورة جدتي وهي تحكي "الحكاية" ولكنه بدا لي هكذا، وهو يصر على ربط جمله بعجالة، بلهجته المصرية، دون أن يفكر بإضافة بعض العبارات بالفصحى، فلا يمكن أن يكون النص التاريخي/ الوثيقة، عبارة عن حكاية سلسة يمكن أن تصغي إلى فصولها طفلة صغيرة، لكنها عصية على المتلقي المهتم الذي يريد التقاط فكرة، تكون بمثابة مخطط عمل، أو تضيء له جانبا كان خفياً...
حكايات هيكل موجهة إلى المصريين دون سواهم، فصحيح أننا تعلمنا اللهجة المصرية لكثرة ما شاهدنا من أفلام ومسلسلات، ولكننا لم نقرأ نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني، وصنع الله إبراهيم بـ"المصرية"، ولم نقرأ هيكل ذاته إلا باللغة العربية، فلماذا يصر "الأستاذ" على مصرنة التاريخ، وجعله "حدوتة مصرية"؟!.
كتب سمير عطا الله في الشرق الأوسط ينتقد هيكل على الطريقة التي يتناول فيها سير الشخصيات التي يقر القاصي والجاني بأنها أعطت الكثير لتاريخ المنطقة، وكتب أيضا يذكر بعدم وفائه للراحل الملك حسين بن طلال الذي ائتمن هيكل على سر مرضه، ولكن الأستاذ لم يحفظ "ودا" للراحل، ولم يبادله تلك الثقة الكبيرة.
3-من أين ابتدأ "الأستاذ"....
مع قضايا بنات الليل بدأ ظهور نجم هيكل، ففيما كان يطرق أبواب مهنة الصحافة صحفيا صغيرا بـ"إيجيبشان جازيت"، مهمته جمع أخبار الجريمة، أصدر عبد الحميد حقي وزير الشؤون الاجتماعية وقتها قرارا يقضي بإلغاء البغاء الرسمي، وسبب هذا القرار كان إصابة عدد من جنود الحلفاء بالأمراض التي انتقلت إليهم من فتيات الليل، فكان أن اتفق الإنجليز وحكومة الوفد على إصدار القرار الذي أثار الجنود كما أثار فتيات الليل، كان الجميع يعرفون رأي الجنود الذين لم تكن تعنيهم الأمراض، وقد جاؤوا إلى الحرب أي إلى الموت، لكن أحدا لم يكن يعرف رأي فتيات الليل، وتلك كانت مهمة الصحفي الصغير محمد حسنين هيكل.
كان تكليف الجريدة له هو أن يلتقي بفتيات الليل ويحصل من كل منهن على صورة يضعها على استمارة الاستفتاء التي وضعتها الجريدة وطبعت منها 500 نسخة، كان على هيكل أن يملأ خمسها، وهو ما نجح فيه بجدارة.
وهي القصة التي حكاها هيكل بنفسه في العدد رقم 546 من مجلة آخر ساعة، فكتب ما نصه: "كنت أقضي فترة التمرين في "إيجيبشان جازيت"، وذات يوم جاءني سكرتير تحرير الجريدة وقال لي: إن الحكومة تفكر في إلغاء البغاء الرسمي وإن الجرائد كلها تكتب في هذا الموضوع دون أن تحاول واحدة منها أن تأخذ رأي أصحاب الشأن الأول، وهم البغايا أنفسهن.. وطلب مني يومها أن أقوم بسؤال مائة بغي عن رأيهن في الموضوع، قائلا: إنه سيكون دليلا على مقدرتي الصحفية إذا تمكنت من استفتاء مائة بغي.. وكانت مهمة شاقة.. ولكن المسألة كانت مسألة امتحان.
وذهبت إلى الحي الذي تستطيع أن تشتري فيه كل شيء، ودخلت أول بيت وأنا أفكر في الصيغة التي ألقي بها السؤال، ولكن يبدو أنني لم أوفق في اختيار الصيغة لأنني خرجت من البيت الأول مشيعا بسباب وصل إلى أجدادي حتى عهد الملك مينا، وحاولت..، وحاولت..، ولكن على غير فائدة، وأخيرا أدركت عقم المحاولة، وبدأت أفكر بهدوء، وأحسست أن ثقتي في نفسي بدأت تفارقني، والتفت فإذا مقهى قريب مني فذهبت إليه لأستريح وأفكر، وفي أثناء جلوسي لاحظت وجود سيدة متقدمة في السن كان جميع من في المقهى ينادونها بـ"المعلمة"، باحترام قل أن يكون له مثيل، ووثبت في ذهني فكرة، فتقدمت من السيدة وشرحت لها كل مهمتي، وأثبت لها أن مستقبلي كله يتوقف على معاونتها لي، وفكرت السيدة قليلا ثم قالت لي: اقعد، وقعدت.
بعد لحظات نادت بعض النساء، وعقد الجميع مؤتمرا لبحث المسألة، وجلست أنتظر النتيجة، وفجأة صاحت إحداهن: نادوا عباس، ومرت فترة ثم حضر شاب سمع المسألة ثم تقدم مني قائلا: "معاك كرنيه"، ولم يكن معي "كرنيه" ولا خلافه، ولم يقتنع عباس، ولكن المعلمة اقتنعت قائلة: "ده باين عليه ابن ناس"، وهززت رأسي مؤكدا أنني "ابن ناس" جدا، فبدأت ترسل في طلب النساء من المنازل حتى أتاحت لي الفرصة أن أسأل مائة امرأة وأنا جالس في مكاني أشرب القهوة على حساب المعلمة.
لا يشكل إجراء تحقيق عن البغاء أي انتقاص في مسيرة هيكل المهنية، ولا في موسوعيته، بل قد يكون دليلاً على قدرته غير العادية، وتجواله الذي قل نظيره بين شتى المواضيع ما أكسبه لقب "الأستاذ" وجعله يقف في أول الطابور الصحفي، وجعل المقارنة بينه وبين أي صحفي آخر صعبة، إن لم تكن مستحيلة.
ويبدو أن قراءة البداية تحمل في طياتها الكثير لما ستكون عليه النهاية، فـ"الأستاذ" الذي بنى أول قلعة في قلاع مجده الصحفي بتحقيق عن البغاء، عاد الآن ليحرض ذاكرته المتداعية، فاختلط عليه البغاء والنفاق، واستشكل عليه الأمر فما عاد يفرق بين تدبيج مقال يمجّد فيه "الثورة"، أو كتابة عمود يفضح فيه "الفساد"، وبدا أن الفساد والثورة يصبان في خانة واحدة حين تريد أن تحكي الحكايات للإمتاع، ولكن أن تتدخل في سرد التاريخ وسير الرجال والدول، وترى بعيني مراقب وشاهد على العصر ثم تحدد الخطأ من الصواب، وتصر إصراراً لا مثيل له على "مصرنة" التاريخ والعالم والثقافة والفكر والفلسفة، وتلغي وبخفة لا مثيل لها دمشق وبغداد، فهذا ما لم تفلح به ولم تصل به إلاّ إلى فقدان الكثير من كونك "الأستاذ" وتهدم الكثير من هياكلك....
دُمْ بخيرٍ يا هيكلْ.... واستأذنْ بالانصراف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-