الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التدفق الثقافي: في عولمة الثقافة (4)

علاء عبد الهادي

2014 / 6 / 26
العولمة وتطورات العالم المعاصر


التدفق الثقافي: في عولمة الثقافة (4)

الدكتور علاء عبد الهادي*

بداية, لا توجد ثقافة غير هجينة في مستوى ما من مستوياتها, وتظل أية ثقافة على هذا النحو, إلى أن تصل إلى حدٍّ تستطيع فيه عناصرُها المختلفة أن تصلَ إلى شكل خاص من شكول الارتباط القوي الوجداني بمتلقيها, فتتسم حينئذٍ بمسحة من مسوح الانتماء, وسمة من سمات الوحدة, والهوية. ونذهب في سياقنا هذا إلى أن الثقافة هوية, ولكنها ليست الهوية, إذ إن معتقد الهوية كان يُفترضُ وجودُه في الوعي الإنساني العام في كل كينونة, وكان الاعتقاد الذي يذهب إلى وجود سمات مشتركة نقية في كل أمة, او شعب, أو قبيلة قائمًا, وهو اعتقاد ينتمي في أساسه إلى ما أطلقُ عليه "المتخَيَّل الاجتماعي" للهوية, وقد تعاملت بعض الأدبيات الاجتماعية, والأنثروبولوجية, والسياسية, نقديًّا مع جمّاع هذه السمات لمتخيل الهوية, والظاهر الآن هو نمو وعي عام بتداخل الحدود, والنظر ارتيابًا إلى فكرة النقاء, فضلاً عن الشك في فكرة الثنائيات المتضادة التي سادت إبان القرن الماضي بخاصة. وأشير في ذلك إلى ما مسّ مبدأ النوع ذاته من تداعٍ, شهدنا آثاره في هذه التداخلات القويّة بين حدود الأنواع, والمدارس, والتي مثلت طويلاً أنظمة دلالية, كانت, وما زالت, جزءًًا لا يتجزأ من عملية بناء المعنى المستمرة في العالم الاجتماعي. فبتنا نلاحظ على سبيل المثال, ذيوع التداخل ما بين الأنواع الفنية والأدبية, وتداخل حدودها, على نحو أنتج تغيرات جديدة في الأذواق، على مستويي الإنتاج والتلقي, بحيث أصبح هناك "اهتمام أقل ببناء أسلوب متماسك ومترابط، واهتمام أكبر بالتلاعب بالأساليب المعروفة, وتفصيلاتها, وهذا ما يشير إلى أن ما يحتل موقع الصدارة الآن هو الغياب الحاد للحدود النوعية, فضلاً عن ضبابيتها, بين الفن والحياة اليومية، بالإضافة إلى التشوش الأسلوبي الذي ينحاز إلى الانتقائية, وخلط القواعد. واستخدام المحاكاة الساخرة، والمعارضة، والتهكم، والهزل، فضلاً عن الاحتفاء بالثقافة في أبعادها السطحية، وليست العميقة فحسب, "فعندما يشيع الاعتقاد بأن الفن مجرد تكرار، لابد من أن تنهار فكرة الأصالة التي ينبغي أن تكون موجودة في المنتج الفني”(1).
وقد خلقت الثقافة العالمية الوسيطة تدفقات على المستوى الكوني, من خلال خمسة مجالات: "المجال الإثني الذي يتضح من خلال الهجرات, و حركة السياحة, واللاجئين, والعمال الغرباء, والمجال التقني الذي يظهر في التدفقات التكنولوجية عبر الشركات متعددة الجنسية, والشركات الوطنية, والوكالات الحكومية, والمجال المالي, الذي يمثل تدفقات النقود السريعة, وأسواق العملة, والبورصات, والمجال الإعلامي الذي يتضح في تدفقات الصور والمعلومات عبر الصحف, والمجلات و"الأفلام", و"“التلفزيون”", والمجال الأيديولوجي, الذي يرتبط بتدفقات الأفكار, والمفهومات حول الحرية, والديمقراطية, والتنوير" (2). وعلى الرغم من غياب الدقة في هذا التقسيم, إذ خلط مثلاً بين مادة التدفق وأداتها أحيانًا, كما أهمل التدفقات العقدية, وغير ذلك, فإنه تقسيم كاف, ومقبول, للإشارة إلى حجم التدفقات التي تتحكم فيها الثقافة الآن.
وتشير التدفقات الديموغرافية, وهي تدفقات عبر قومية بطبيعتها، إلى انتقال أفراد, يغادرون بلدانهم من أجل الإقامة, أو الهجرة إلى بلدان أخر، وهذا ما قد يسهم في هدم بنية مجمتعهم الأصلي, وإعادة تكوين المجتمع الذي يستقبلهم. ويمكن ملاحظة ذلك في المجتمع العلمي الأمريكي, على سبيل المثال, وقد بدأت مظاهر التدفق الثقافي الأول, عبر الهجرة من أجل الحياة في أماكن جديدة, ومع إثنيات, وشعوب, وبيئات ثقافية مختلفة, وذلك بعد أن أصبحت هذه الهجرة, أمرًا ممكنًا في النصف الأول من القرن ما قبل الأخير بخاصة, وفي هذا المبحث تفصيلات كثيرة حول الشكول التي اتخذتها علاقات الهيمنة الثقافية المتنقلة بين أيدي الثقافة المحلية؛ "ثقافة الساكن المحلي", وسمات الثقافة الوافدة, وبناها, "ويمكننا أن ننظر إلى مثلٍ لهذه التفاعلات, وتعقيداتها في العصر الحديث, بداية من علاقة المهاجرين الأيرلنديين والألمان إلى أمريكا في بدايات الهجرة, ثم علاقة المهاجر الأوروبي بعامة, بالهنود الحمر, والسكان الأصليين؛ "علاقة تصفية عرقية", مرورًا بعلاقة الثقافة الأوروبية البيضاء في أمريكا, بثقافة الأمريكين السود العبيد قبل حرب الولايات الشمالية والجنوبية؛ "علاقة استعباد", حتى علاقة الثقافة الأمريكية -الآن وهنا- مع المهاجرين الجدد إلى أمريكا؛ "علاقة احتواء, عبر ما يُسمى التعددية الثقافية".
ولهذا التدفق عبر الهجرات, الذي كوَّن كتلاً إثنية, تنوعت شكول اندماجها مع بيئاتها الثقافية المحلية الجديدة, آثار تظهر على مختلف مناحي الحياة السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية, والثقافية, في الأراضي المُهاجَرِ إليها, ولكننا معنيون هنا بالوجه الثقافي لهذه التدفقات, فضلاً عن تأثيرها على مفهوم يُعدّ من أهم المفاهيم في العلاقات السياسية, والدولية المعاصرة, وهو مفهوم القومية, "فلا جدال الآن في أن النظام الرأسمالي العالمي, يسهم في إنتاج ما يسميه مجموعة من علماء الاجتماع "التميع" الثقافي, وعلى الرغم من ذلك، فإنه يجب علينا أن ننتبه إلى أهمية محتوى الثقافات القومية.
ومع النمو الاحتمالي الدال للهجرة الدولية، واختلاط ثقافات عديدة بعيدة عن مواطنها الأصلية، فإننا لا نعدو الحق إذا قلنا إنه "لا يوجد نموذج نظري مؤسس قوميًا يمكن أن يلائم التعامل -على المستوى المعرفي- مع هذا الوضع الثقافي. ليس هذا فحسب، بل إن عدد الناس الذين لا جذور لهم, ولا وطن, يتزايد على نحو متفاقم. ومن ثمّ يتم فكّ الارتباط الحتمي بين الثقافة ومنطقة بعينها. أي إننا دون إطار واسع, متعدٍّ للقوميات, لن نستطيع أن نتعامل بنجاح مع الظاهرة الثقافية، التي على الرغم من ارتباطها ارتباطًا واضحًا بهذا المجتمع, او بذاك، فإنها انتشرت في خارجه، ومن حوله"(3). هكذا حولت حركات الهجرة النظامَ الدولي, إلى نظام لامركزي، وذلك حين جعلت من كل مهاجر لاعبًا محتملاً, برغم تواضع مكانه في اللعبة الدولية, هكذا ينقلب مبدأ الإقليمية؛ وتواجه المطالبة بالعدالة، التي يلوح بها المهاجر، تأكيد القانون الذي تعارضه الدول!"(4).
قامت التدفقات الثقافية بين الدول, في ظل تخلصها من الخضوع إلى الشرط الجغرافي, بربط الثقافة بقوة بسياسات العولمة, وبتحريرها من المفاهيم التقليدية للجغرافيا السياسية, فإذا ما نظرنا إلى مفهوم الثقافة على المستوى الجغرافي-;- لوجدناه منقسما إلى اتجاهين: الأول " يرى الثقافة إقليمية في جوهرها؛ فيفترض أن الثقافة تنبع من عملية تعلم محلية في الأساس. وهذه هي الثقافة بمعنى الثقافة، أي ثقافة مجتمع, أو ثقافة فئة اجتماعية، وهي فكرة ترجع إلى رومانتيكية القرن التاسع عشر؛ وضعت قواعدها في القرن العشرين، النسبية الثقافية بخاصة, ومن الأفكار المتصلة بها فكرة النموذج العضوي, أو نموذج "الشجرة" في الثقافة. أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه أوسع نطاقًا للثقافة, يعالجها بوصفها بالنسبة إلى الإنسان كالبرنامج بالنسبة إلى الحاسب الآلي"(5), وهي فكرة متضمنة في نظريات التطور والانتشار التي تعد الثقافة فيها عملية تعلم, تجاوز المحلية. وهذين الاتجاهين في معالجة المفهوم ليسا متنافرين؛ فالثقافة بناء على الاتجاه الثاني, أدخل في وظيفة التعبير منها في الاتجاه الأول.
وقد وضعت التدفقات الثقافية على المسرح لاعبين فرديين, ولاعبين جماعيين، "فقد تكون نتاج لعبة أفراد, وقد تصدر عن مشاريع, تنشأ من أجل هذا الغرض, على وجه التحديد؛ وهي تدفقات تشمل قطاعات بالغة الاختلاف، كاللغة, والدين, والأيديولوجية, والمؤسسات، من هنا كان اتصالها بعقليات شديدة التنوع, لا يجمع بينها إلا نشر قوانين ونظم, تستهدف خلق طرائق إدراك , ونظم معان, يتقاسمها الجميع, وهي ترجع بصفة أساسية إلى نظم رمزية، تصوغ مجموع التصرفات الاجتماعية على نحو مباشر، وتهيئ الظروف المواتية للهيمنة, على نحو لا يمكن إدراكه بصورة مباشرة, ولعل ذلك هو السبب في إدراج التدفقات الثقافية، بين جميع التدفقات عبر القومية، في منطق العلاقات الدولية, في خارج نطاق الدولة, أو منطق التبعية, (...) أما التدفقات الفنية فهي أقل خطأ في الدراسة، وإن كانت تشكل برغم ذلك عنصرًا لا يستهان به في العلاقات الدولية"(6) وهكذا, غزت الجغرافيا التخيلية المعاني, والناس, وتكونت هويات وصلية عديدة, ولهذه العملية جغرافية تاريخية, ارتبطت دائمًا بالإمبراطوريات، "فغالبًا ما أدي تقسيم العالم إلى غرب تقدمي عقلاني, و"بقية"؛ إلى تفوق غربي أبيض, عبر عملية توليد مستمرة لمن يسمى (الآخر)"(7). أما فكرة التهجين فتدل على "عملية ثقافية منتشرة في عالم اليوم. حيث يشير المفهوم إلى عملية تمتزج فيها المعاني, والأنماط الهادفة, من مصادر تاريخية مختلفة, هي في الأصل مستقلة, من حيث المكان. إن أي ثقافة في أصفى صورها, تفتقد –عند التأمل- النقاء في جوهرها؛ وهو ما نعدّه حقيقة إثنوجرافية, بصرف النظر عن أي قصد محدد. أما السياق الأمثل للتهجين فهو تلك البنية الاجتماعية, التي يكون لحاملي المواريث فيها حساب أكبر مما لغيرهم, مثلهم في ذلك مثل مواريثهم أنفسها"(8).
ويمكننا في هذا السياق أن نحدد اتجاهين تسير فيهما عملية التدامج الثقافي؛ يمثل الاتجاه الأول الآلية التي يمارسها المركز بنشر ثقافته إلى الأطراف, أما الاتجاه الثاني فيتمثل في دخول ثقافات الأطراف إلى المركز, لكن المشكلة هنا هي قدرة المركز دائمًا على تحويل حركة الثقافات في الأطراف, لخدمة مصالحه عبر استيعابها, ودمجها في فضائه تدريجًا بصفتها مكونًا أصيلاً في ثقافته. من خلال نسيج, متشعب اللغات: البصرية, والسمعية, والكتابية, وخلافه, فضلاً عن كونه تدفقًا لا يتحقق كما كان سابقًا, عبر الانتقال المكاني, أو الهجرة بأنواعها فحسب, ولكنه يتحقق الآن, على نحو مؤثر, وهائل, عبر تكنولوجيا اتصالات معاصرة, حاصرت الحدود, وهشمتها, وهذا ما يزيد من قدرة المركز على الإغراق الثقافي, من جهة كمية, وعلى التأثير على من يسميه آخر من جهة أخرى, لأن في ثقافته المبثوثة, ما يربط هذا الآخر بها, وذلك لأن المركز قد استوعب مسبقًا جزءًا من ثقافته, وهذا ما يشير إلى تزامن الخصوصية والعمومية على نحو دائم.
تهيمن على هذه الثقافة العالمية برغم هجنتها, ثقافاتٌ جزئية معدودة, وهي ثقافات تنتمي إلى أسٍّ غربي في جوهرها؛ حدد انتشارها ثلاثة عوامل الأول: عدد المتكلمين باللغة التي تحدث بها هذه الاتصال, من خلال وسائط الاتصال الحديثة, "الميديا", والثاني هو: نسبة توزع هؤلاء المتكلمين على مساحة جغرافية واسعة ممتدة, بما يفرضونه من تفاعل في بيئاتهم الثقافية المختلفة, ومحيط كل منهم الثقافي, وهذا ما يجعل من عدد المتكلمين بلغة ما من غير أهلها, عاملاً مهمًا في هذا الإطار, والثالث هو: وجود هذه اللغات, إنتاجًا واستهلاكًا, على نحو فاعل في المنتديات الدولية, والمؤسسات العالمية. فعدد المتكلمين بالصينية هائل, لكن تأثير هذه اللغة على الشبكة, أو حضورها الفاعل في المؤسسات الدولية, يكاد يكون ضئيلاً, بسبب العامل الثاني السابق. ومن اليسير ملاحظة توافر هذه العوامل بقوة في اللغات: الإنكليزية, والفرنسية, والأسبانية, والألمانية, بخاصة, دون غيرها.
يتضح -من خلال هذا التحليل- أن التفوق الثقافي على المستوى الكلي, تتحكم فيه على نحو مؤثر العوامل الثلاثة المذكورة آنفًا, فكلما ارتفع نصيب ثقافة ما من عامل أو أكثر من هذه العوامل الثلاثة, زادت قدرة هذه الثقافة على التأثير على الثقافات الأخر, أما التدامج -في حدّ ذاته- فلا يحمل قيمة إيجابية, أو سلبية قاطعة, لأنه يقبل القيمتين معًا. لكنه يسهم -في الحالتين- في تفكيك متخيل الهوية, والحدّ من آثاره, ويرجع ذلك إلى حدوث هذا التدامج, بدرجات شديدة التفاوت, والسؤال هنا ليس عن التأثر, ولكن السؤال عن نسبته, على المستويين السلبي والإيجابي معًا, أما زمن استمرار هذا الاتصال بين ثقافتين, فعامل أساس في تحديد حركة التأثير والتأثر, على متخيل الهوية بخاصة. إن كلّ شكل جديد من روابط الاتصال, ييسر لمجموعة محددة من العلاقات الاجتماعية حضورها القوي, مستبعدًا –في الآن ذاته- مجموعة أخرى, تفتقر إلى إمكانية الوصول إلى وسيلة الاتصال المعنية, أو استخدامها, أو توظيفها.
ربما يثير حديثنا عن التدفق الثقافي, وعن التدامج الثقافي, سؤالاً, قد يبدو مفاجئًا في هذا السياق, والعلاقات بين التدفق والتدامج هي علاقات وثيقة, فالأول يشير إلى الحركة, ويشير الثاني إلى الأثر, ويُعدّ التدفق الثقافي -في حقيقته- تدفقًا غير متكافيء, تتحكم فيه, ثقافة مهيمنة, أمريكية الطابع, وتسيطر على أفقه الحضاري بيئة ثقافية غربية في أساسها, وهو في النهاية يقود الثقافات الأخر إلى شكل ما من شكول التوحيد الثقافي العالمي, أو التجانس الثقافي, أي أننا نرى ما يحدث الآن من تدامج, في حقيقته, ومن خلال التدفق الثقافي, مجرد وسيلة مرحلية من وسائل عولمة قيم ثقافة أمريكية في أساسها, وهي ملاحظة مهمة في هذا السياق. فهم يبيعون, والعالم يشتري. من خلال بيئة استهلاك, وسوق نموذجي, يخدم مصالح هذه الثقافات المهيمنة, وقيمها, أما التجانس فيتحقق أساسًا عن طريق تدفق الثقافة بوصفها سلعة من المركز نحو الأطراف.
لقد غرق الجمهور دونما تمييز في فيضان من السلع الثقافية ضئيلة الجودة, على المستوى الفكري, ولكنها سلع ثقافية مُنتَجَة على نطاق شاسع. وهذا يعني تزايد خسارة الثقافات المحلية, فحين تقوم التكتلات الثقافية الاحتكارية الكبرى, بنشر أفكارها عما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، "تصبح الأسئلة الأساسية هي: قصص من تلك التي تُروى ؟ ومن الذي يقوم بذلك ؟ كيف تُصْنَع وتُوَزع ؟ وكيف يتم تلقيها ؟ من الذي يتحكم في الإنتاج والتوزيع والعرض؟"(9)."وتتمثل المسألة المطروحة هنا في أن المركز يستعمر (يطلب إعمار) عقول الأطراف على نحو تراكمي – وذلك من خلال أُطر العملية الثقافية التي يمر عبرها التدفق عابر القوميات بسهولة، ومن بينها إطار السوق"(10). وفي هذه الأطوار الأخيرة، "تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً معدًا داخل أشكال الحياة في الأطراف، بحيث أصبحت هذه الأشكال قائمة, وشديدة التغير، بطبيعة الحال، حتى إن تعريفها الثقافي – هي ذاتها – يتم خلال الشروط المستقاة من المركز"(11). وفي داخل إطار السوق، وتمشيًا مع خطة تحقيق التجانس العالمي، يمكننا أن نتوقع ضعف الرابطة القائمة بين الإقليم والعملية الثقافية. إن تدفق بعض السلع الثقافية عابرة القوميات يقوم، بطبيعة الحال، على حد أدنى من الاهتمام, أو إثارة الاهتمام, بأي سمات خاصة متمايزة من جانب المستهلكين. ويصدق ذلك على ما أسمته إحدى الباحثات "الإغراق الثقافي", (...) الذي قد "يماثل الإغراق بالأدوية منتهية الصلاحية، والحافلات التي لا تؤدي وظائفها بكفاءة"(12)..
على الضفة الأخرى, يرى عدد من الباحثين أنه حين "تمتص الثقافةُ الطرفية تدفقَ المعاني, من المركز, تقوم بتحويلها, وهضمها, وجعلها جزءًا منها إلى حد كبير، وهذا ما يجعل من هذه المعاني عاملاً مؤثرًا على زيادة الصلات الثقافية, بين المركز والأطراف، بحيث تُيَسِّر الطريق للمزيد من الواردات الثقافية, أما الوضع النهائي الناتج عن ذلك، فمن المحال تحديده"(13). إن الاهتمام بالسوق, بوصفه القوة الرئيسة لتحقيق التجانس الثقافي، لا يجب أن يُتجَاهَل من البرامج البديلة المطروحة لثقافات الأطراف, وهذه قضية أخرى تخص المقاومة الثقافية, أما استغلال هذه الأسواق فغالبًا ما يظل محصورًا في إطار نشر الثقافة الشعبية المحلية، أي منح المسيطرين ما يريدون أن يروه, وهي مقاومات تتحكم فيها ظروف موضوعية, كثيرة, يخرجنا تناولها عن هذه الدراسة, وهذا ما يؤكد أننا نسهم أيضًا في تشكيل هذا السوق, وغالبًا ما يكون هذا عبر تصدير ثقافات العالم الثالث الشعبية.
هكذا يصعب في العصر الحالي فصل الآثار الاقتصادية, وأنماط الإنتاج والاستهلاك, وشكولهما الجديدة التي سببها التطور الاقتصادي الحادث على المستويين المفهومي والإجرائي, عن الأبعاد الثقافية الوافدة عبر الثورة المعلوماتية الجديدة, وكفاءة طرائق بثها, وسرعتها في التأثير, وأهمها قدرتها على التغيير الحقيقي في مظاهر الحياة الاجتماعية, وما ينتجه ذلك من تغيير في أنماط السلوك والقيم والمعتقدات والآراء, على نحو يؤثر على نحو فادح -غالبًا ما يكون سلبيًا- على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفرد وللجماعة في دول الأطراف بخاصة, الأمر الذي يشكل عائقًا أمام دول أقل تقدمًا في تنفيذ برامجها الإنمائية, أي أن هذا الوضع يشكل باختصار تهديدًا لما يمكن أن نطلق عليه الأمن الثقافي مرتبطًا بالشرط الاقتصادي, هكذا أصبح الاقتصادي بعدًا من أبعاد الثقافي ومكونًا رئيسًا فيها, مثلما أصبح الثقافي مكونًا أساسيًا للاقتصادي, وبعدًا مهمًا فيه, خصوصًا حين اختلف مفهوم الاقتصاد الكوني عن مفهوم الاقتصاد العالمي, حيث يتسم الاقتصاد الجديد "بأنه اقتصاد معلوماتي, بمعنى أن الإنتاجية والنجاح التنافسي ينبعان من قدرة الفاعلين الاقتصاديين على خلق المعلومات والتعامل معها, والسيطرة عليها وتطبيقها. كما يصعب, على الجانب الآخر, أن نحصر فداحة الأضرار التي يسببها أي طرح ينادي بالانغلاق الثقافي! إذا عرفنا أن حجم المعارف الإنسانية يتضاعف على نحو مستمر. إن عجز دول العالم الثالث عن دعم فضائها الثقافي على نحو منافس, ومؤثر, ومستمر, على المستوى العالمي, كي تحدّ من أن تتبني مجتمعاتها قيم مجتمعات أخر, وأنماط معيشتها, قد يؤدي إلى الاستلاب الثقافي والاجتماعي على مستوى الشعوب, والسياسي على مستوى الأنظمة, وهذا ما يخلق بيئة من التبعية التي تسود فيها أفكار وأخلاق ومعتقدات وسياسات, تضع الثقافات في مكان التابع, ومكانته على الدوام!
هكذا توجه الأثر الأيدولوجي لثورة الاتصالات الحديثةعلى نحو أساسي إلى دمج متواتر للهويات الثقافية المختلفة, من دون انتباه إلى تبايناتها الثقافية, بعد أن ظل المتحكم في هذا التصور على مستوييه المنظم والعشوائي مؤسسات وأفراد ينتمون إلى هويات ثقافية غربية متقاربة ومتقاطعة في جانب كبير منها, ويظل السؤالان الملحان لدول الأطراف قائمين-;- السؤال الأول هو سؤال المصلحة-;- لمصلحة من يتم هذا الانتشار في مفاهيم تحددها, وتخلق بيئتها الثقافية بمعناها الواسع والسائد هويةٌ ثقافية أميركية؟ يلي ذلك وبصورة أقل هويات تنتمي إلى المجتمع الأوروبي؟ والسؤال الثاني هو سؤال التوظيف-;- فعلى الرغم من أن الثورة المعرفية الحديثة يشارك في جانب كبير منها, أفراد ومؤسسات لا يملكون الأهدافَ أنفسَها لمؤسساتهم, أو لتوجهاتها السياسية, فإن الكثير من مجهودهم الثقافي أو العلمي –دون شك- يصب فيها, أما سؤال التوازن فيظل قائماً-;- كيف يمكن أن توظف نظم دول الأطراف السياسية تلك الثورة التكنولوجية والمعرفية لمصلحتها الوطنية الخاصة؟ على الرغم من صعوبة الإجابة عن هذا السؤال من دول الأطراف.

المراجع والإحالات:
(1) سمايرز, جووست., الفنون والآداب تحت ضغط العولمة., ترجمة, طلعت الشايب., القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة., 2005.، ص., 214.
(2) زايد, أحمد., "عولمة الحداثة وتفكيك الثقافة الوطنية", عالم الفكر., 32: 7-38.
(3) فيذرستون, مايك.، وآخرون.، محدثات العولمة.، ترجمة, عبد الوهاب علوب., مراجعة وتقديم, جابر عصفور.، القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة.، 2005.، ص., 24.
(4) بادى, برتران، ماري – كلودسموتس.، انقلاب العالم: سوسيولوچيا المسرح الدولي.، ترجمة, سوزان خليل.، القاهرة., مكتبة الأسرة.، 2006.، ص., 91.
(5) فيذرستون, مايك، وآخرون.، مرجع سابق.، ص., 81.
(6) انظر: بورديو, بيير., أسئلة علم الاجتماع., حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي, ترجمة, إبراهيم فتحي, القاهرة, دار العالم الثالث., 1995., ص., 234.
(7) انظر: كرانغ, مايك.، الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية., ترجمة, د. سعيد منتاق., الكويت, سلسلة عالم المعرفة., 2005., ص., 109.
(8) فيذرستون, مايك.، مرجع سابق.، ص., 109.
(9) سمايرز, جووست., مرجع سابق., ص., 229.
(10) انظر: هانرز, أولف.، "سيناريوهات ثقافات الأطراف".، في: الثقافة والعولمة والنظام العالمي.، تحرير, أنطوني كينج.، ترجمة, محمد يحيى، شهرت العالم، هالة فؤاد.، مراجعة, محمد يحيى، ط, 2.، القاهرة, المجلس الأعلى للثقافة.، 2001.، ص., 178.
(11) نفسه., ص ص.,177- 9.
(12) سمايرز, جووست., مرجع سابق., ص., 267.
(13) انظر: هانرز, أولف.، مرجع سابق.، ص., 182.

* (شاعر ومفكر مصري).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا