الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصص قصيرة جدا

ناصرقوطي

2014 / 6 / 28
الادب والفن



ثكنة...

ذات يوم حين أشعلت نارا في العراء، اجتمعت العقارب من كل حدب وصوب، أتت مسلحة بسمومها وكنت ألازم نوبتي في الحراسة على قفر من الأرض. البندقية فوق كتفي ينوء ظهري بثقلها وكان الصوت يعلو في البرية ، صوت عواء بن آوى. بظلمة ليل رأيت عيونه وهي تقدح، تتوهج في الظلام، صحت : قف.. لم قطعت على خلوتي، قل ماذا تريد ؟ أجائع أنت أم خائف من صوت الهرير ومطاردة الكلاب. ظلام الليل انجلى وعيونك لاتزال تترصد، تبث في روحي سوادها القلق الحزين. تقدم فأنا وحدي هنا، ثوبي الكاكي مثل لون وبرك، لا وحشتي أشد تصحرا من مقلتيك، لا.. لاتخف، شاطرني العواء والاصطلاء أمام ناري الموقدة. سعير اللقمة التي تبحث عنها، دفؤك، صيدك الليلة هنا، فأنا أوقد الآن نارا من الوحشة، دخانها المتصاعد يداف مع رماد حرائقي وأكاد أن لاأرى غير قفر ينجب أذناب عقارب مشرعة وسواد مقلتيك. عزاؤك الليلة هنا وعشاؤك فلتتلامض مقلتاك، الكلاب التي طاردتك ستزحف أسفل قدميك و... لاعليك، ضمانتك وحشتي فأين تراك اختفيت. الظلمة لم تقدر على إطفاء سواد عيونك. في غبش النهار سألت القفر عنك وجنادب الأرض المطمورة بالجحور فلم أر عيونك كما كنت أراها كل يوم، إنما شهدت أشلاءك التي مزقتها كلاب الشيخ فوق جسر ترابي، وأنا في الطريق، حين رأيت أوصالك ممزقة وعيونك مطفأة بالبياض... بياض النهار... وحيدا عويت.

قفص...
في ليلة غاب عنها القمر وتلاشت بظلمتها النجوم سرحت من السجن، منتعلا رصيف شارع لاأعرفه، حافيا كما تركتني ركلاتهم، عاريا إلا مما يستر عيوبي حتى إذا رفعوا العصابة السوداء عن عيوني تكشفت الغيوم من حولي ليتركوني منطفئا زائغ النظرات، فعجبت كيف قادتني خطاي نحو باب الدار وكيف طرقته أصابعي حين صرخت أمي وقد رأتني بدوني. كان البلبل يمسح ريشاته بمنقار غرابي، حتى إذا اقتربت منه رفع جناحيه وغرد بأصوات متفاوتة النغمات. قالت الأم / انه يرحب بك يابني /.. وراحت تمسح عن عيونها بقايا الدموع، والبلبل الذي ربيناه صغيرا يطلق أصواتا حادة، مديدة ذات جرس حزين انه فرح لخروجك /.. كررت الوالدة قولها، فهمست بيأس ونفاد صبر // بل يستنجد بي.. انه يستغيث ياأماه //. وامتدت أصابع كفي التي قلعت أظفارها لتشرع باب القفص حتى إذا انطلق من النافذة صلب دموعا كثيرة أُخر فوق خديها الضامرين، فيما نزعت فوطتها شديدة السواد لتغطي بها القفص المعدني القديم.

أمـــل... -

ذات مساء حزين حلمنا أن تكون لنا حديقة مزدانة بكل ورود الأقحوان، بهية المنظر طيبة الرائحة والمنبت. كنا ثلة من الأصدقاء الطيبـين وعلى شيء من الثقافة فابتعنا أرضا صغيرة من صحارى الوطن بما ادخرناه من تعب السنين، وبحب وحذر ألقينا البذور فنمت سيقان يافعة وبراعم لم تتفتح بعد، ففرحنا وأملنا خيرا وإذا بليلة مغبرة لانجم يفضح سماءها ولاقمر يكشف ظلمتها فوجئنا ببقايا الظلمة المندحرة تعود وتهاجم حقلنا البائس ومعقلنا الأخير بمناقيرها المثلمة والمدماة، وهي تلتقط البذور وتلتهمها قبل ان تنبت وتنمو. وحين احتطنا للأمر وغرسنا فزاعة مضحكة لطرد المناقير الناعقة والسحنات الجهمة الساخمة. توجست الغربان خيفة وولت هاربة باسوداد سحناتها وآثار مخالبها على أديم الأرض. ولكن بمرور أيام قلائل اكتشفنا ان ما نلقيه من بذور ليلا يختفي صباحا وقد غدى كل مافي الحديقة يسوء من حال إلى حال على مر الوقت وتوالي الأيام، حتى بتنا في حيرة من أمرنا ونحن نعض شفاهنا أسفا على ماقمنا به وعملناه خلال الأيام والسنوات الماضية من أجل أعواد القش والخرق البالية، وحتى الزوائد والنفايات التي تشكلت منها الفزاعة. لقد اكتشفنا ان فزاعتنا كانت تتسلل خلسة في ظلام النهار لتعيث فسادا بكل ماعملناه، ومن دون خجل تتنكب عدتها لتتلف كل الورود التي غرسناها ذات صباح مشمس وبهيج.


نكوص...
بعد إن رسمت الظلال ظهرا محدودبا فوق كلس الحائط، راحت كفه اليمنى تتقوس وتعكس ظلها القاتم على ساح الورقة بانية خيمة عرس لإعرابي عجوز. الشمعة الخامسة احترقت ذبالتها وتوشك ان..! ( يوشك ان يعم الظلام ) الضوء يخبو وفي البيت القريب تسمع زخات رصاص. زغاريد مطر وطبول، أنها ليلة عرس والرؤيا تغيم. أصوات الرصاص تبتعد، تنأى كما لو تسمع من بعد طرقات باب. السطور تمتلئ، تصطف عليها الديدان بأنساق متوازية، تدب هاربة من فوهة بركان مشتعل وتسعى فوق نثار من رماد أزرق. ظل نتوء القلم ينعقف كمنقار صقر، يفترس ماتبقى من بياض لحم الورقة والأصابع النحيلة في ارتجاف تحت رفيف الضوء. كلمات تتوالى والحروف السود تترى، تزدرد ماتبقى من بياض يشعل جذوة روحه قبل ان تخنقها الأمنيات. ( يوشك ان يعم الظلام ).. كتب جملته الأخيرة فخمد البركان وانسل ضوء شمعته الخامسة لتغيب الأصابع، القلم، الورقة، تحت معطف أسود ثقيل. لقد سرق الظلام كل شيء وأخفاه بين ثنيات معطفه فيما انبجس على حين غرة صوت نبع لازمه الجفاف طويلا من فوق ناصية السرير / ألا تأتي وقد عم الظلام /.. قالت المرأة ذلك وأحنت رأسها إليه ليمسد شعرها الفضي، جدائلها البيض كما النهار. ومن بعد بعيد تسمع طرقات باب تبتعد كما لو صرير عجلات القطار وهي تخترق الصمت العميق. ثلاثون عاما لازمته ولم تزل بأعوامها الخمسين تتقلب في السرير، تحلم بصراخ طفل يبد د عنها وحشة الليل الطويل وهي في انتظار... ( لاعليك، سأكمل الحكاية يوم غد ).. قال زوجها ذلك وغيبهم السرير. -



احتدام...

ليس سوى عصف الريح وأسلاك شائكة تحكم قفرا منسيا، كتفته ظلمة ليل أشد سوادا من جناح غراب. كرة عاقول ضخمة تتدحرج، تسح خلفها دوامات غبار. أفعى لامبالية تنساب على الرمل وعواء ذئب وحيد يقطر وحشة باردة في جوف العتمة. أضأت عود ثقاب بحثا عن إبريق الماء لأسقي به شجيرة ورد كنت غرستها منذ زمان. أشعلت العود فتشكلت دائرة ضوء أسفل بنطالي، راحت تلاحق ذيل الأفعى المنسحب وراء الأسلاك. قرفصت وكان ثمة صراع محتدم بين عقرب أسود وعنكب بلون الرمل، قربت العود المتفحم للنصف فاتسعت دائرة الضوء. العقرب يهجم بضراوة والعنكب يتقهقر حتى إذا سطع الضوء، كاشفا عري المكان اتحدا ضدي وقد توجسا خيفة من خطر كفي المضيئة التي فضحت الظلام وليشرعا في نهاية الأمر أسلحتهما تجاه سبابتي والإبهام. سحبت كفي بسرعة فسقط الإبريق وتسرب ما ؤه بين حبيبات الرمل ليتلاشى الضوء، ويلتئم جرح الظلمة على عواء الذئب والريح تهز الأسلاك ويدي التي تقبض على علبة الكبريت الفارغة.

وهم...

كما لو كان يمرن ذراعيه على الطيران ومجابهة عصف الريح المضادة، نزع آخر قيوده ودرب مخيلته على رؤية سماوات لم يخفق بزرقتها جناح لطائر. وطن النفس على تقمص الرفيف وإلغاء كثافة الجسد، يوم ترك دفء موطنه الأول ونفذ إلى عوالم لن تراودنا حتى في الخيال، ولم يحلم أحد في رؤية مواسمها وبحارها التي يغمرها الجليد وصحاريها التي زرعت في بساتين الروح زهرة وحشية لايمكن أن تنسى مرارتها. كان العطش المر يمد جذوره المتشعبة حتى شغاف القلب، ولم تك ثمة واحة أو نقعة ماء راكدة تندي يباس النسغ. هكذا حلق في نهاية الأمر، رحل بعيدا، طار عبر بحور تيه ومستنقعات موحلة رأى خلالها نمور موطنه وهي تقتات على نفايات السواحل الغريبة التي لم تطأها قدم. رأى كل أصناف المومسات والعنادل وهي تذرف دموع أناشيدها تحت أضواء المصابيح الشاحبة لأعمدة المواخير، رأى هناك ما لم تره عين.. دار كثيرا.. ذاق كل الأمواه الغريبة فلم ترو عطشه وحين أعاده الحنين صارت أجنحته تنفض غبار خيبتها وتغمر كل السماوات بخفقانها الجذل. ومن هناك.. من بعد بعيد عاد يرى بوضوح تام، مدققا ــ بعيون أدمعها الشوق ــ تلك الفوضى المربكة لتضاريس القاع، ومن عل تراءت له تلك الالتماعة الصدفية وهي تتوهج كالفضة تحت الشمس. كان عطشا، ثملا بالرفيف، حتى إذا ما كور جناحيه وأغمض عينيه على دموعها الحبيسة، ألقى بجسده نحو بركة الماء معانقا نسيمات موطنه القديم. راح يهوي إلى أسفل وكانت البركة تتسع كلما انحدر أكثر متأملا أن يعب من مياهها ولكن...!.. لكنها لم تكن بركة ماء، كانت بحيرة صغيرة لايتجاوز قطرها خمسين مترا تحيط بها خزانات ضخمة طليت بالون الأصفر وثمة خراطيم سود تمد ألسنتها الافعوانية المشطورة وتقيء سائلا لاصفا عند حافات جرفها الترابي وبعض شجيرات الأثل نبتت بعيدا عنها. اقترب أكثر ــ وكانت الشمس تتعرى على سطحها الذهبي البراق ــ لم يشعر بعدها إلا بارتطام سطح البحيرة الرجراج بجسده النحيف، وسائل كثيف ينزلق على الريش الرمادي يحيط به من كل مكان، فيما انبعثت رائحة عفنة راحت تفور ويتصاعد بخارها من السطح الصدفي اللاصف. لقد أدرك وبعد فوات الأوان انه سقط في حفرة واسعة كانت أعدت لنفايات النفط الخام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-