الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( دمشق : اختبار الدم و النار ) : إنعاش الذاكرة الوطنية السورية

محمد حيان السمان

2014 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


وسط حمّى التأليف عن سوريا و محنتها الرهيبة المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات, يصدر كتاب ( دمشق : اختبار الدم والنار) للكاتب والصحافي علاء الدين الكيلاني( عمّان - دار السواقي العلمية - 2014م ). و المفارقة في الأمر أن هذا الكتاب لا يتناول الأحداث الراهنة بسوريا, لكنه - و بشكل غير مباشر - يقول عنها الكثير, و يعيد إنعاش الذاكرة الوطنية السورية, بعدما اجتاحتها اختلاطات هائلة, و إرباكات خطيرة, جعلت - على سبيل المثال - من التحريض الطائفي فضيلة و مدخلاً للتألق الشخصي, و من تبني العنف الدمويّ و تسويقه شجاعة مقرونة بالحكمة و الوطنية, و من استجداء المجتمع الدوليّ و التوسل إلى صانعي القرار, دهاء سياسياً و حنكة مشروعة.
لقد سعت أطراف عديدة, إقليمية و دولية, بشكل حثيث و منظم, من أجل تحويل مجرى الأحداث بسوريا من ( ثورة شعبية) بمطالب محددة, و وسائل مشروعة مناسبة, إلى ( حرب أهلية) مدمرة, تستبيح البلاد و العباد, و تعيد سوريا إلى العصور الوسطى. و قد وجد هذا السعي - مساندة محلية - إذا جاز التعبير, تمثلت - في أحد أوجهها - بسيلٍ من ممارسات وكتابات و مناورات سياسيين و مثقفين و كتاب سوريين وضعوا أنفسهم مباشرة في خدمة ذلك المسعى, مع تضحية كاملة بكل ثوابت الوعي الوطني, و متطلبات إعادة بناء الدولة الديمقراطية. و باختصار: عمل هؤلاء - باسم الثورة أحياناً, وباسم مناهضة التطرف و الإرهاب, ومواجهة (المؤامرة) أحياناً أخرى - على تدمير إمكانيات تحقيق الأهداف الجوهرية النهائية للثورة, و عبور سوريا نحو المستقبل, عندما انهمكوا في تأكيد التوجه العنفيّ الطائفي, و برروا - إن لم أقل صفقوا - في كثير من الأحيان لمهرجان الدم و الخراب.
* * *
يتناول علاء الدين كيلاني في كتابه ( دمشق : اختبار الدم والنار ) الفترة الممتدة من دخول الفرنسيين بقيادة الجنرال غورو إلى دمشق, و القضاء على الحكومة الفيصلية,و صولاً إلى أحداث ثورة دمشق ما بين عاميّ 1925-1926متتبعاً - انطلاقاً من الأوضاع في دمشق ذاتها - تطورَ الحركة الوطنية في سوريا عموماً, التي نشأت خلال مواجهة الانتداب سياسياً و عسكرياً. و من الواضح أن اختيار المؤلف لهذه الفترة ينبع من أهميتها التأسيسية الكبيرة, على صعيد تشكيل الوعي و العمل السياسي الوطني في سوريا المعاصرة, و ترسيخ ثوابت هذا الوعي, كما تجلت في مطالب ونضال الحركة الوطنية, مما أفضى في النهاية إلى الاستقلال و تأسيس دولة برلمانية ديمقراطية.
يبدأ الكاتب بتمهيد حول موقع سوريا الجغرافي, و أهميتها الحضارية, بوصفها مجالاً تاريخياً عريقاً لتمازج الثقافات و تعايش الأديان, و محط أنظار الطامعين بالسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب, أو إقامة الامبراطوريات و توسيعها و حمايتها. و يخصّ دمشقَ - خلال ذلك - بالتفاتات متكررة تبيّن تطورها عبر أزمنة سحيقة, كواحدة من أهم المراكز الحضرية في الشرق, وصولاً إلى ( الثورة العربية) على الدولة العثمانية, و دخول قوات الأمير فيصل دمشق سنة 1918, و ما تلا ذلك من تكشف لنوايا البريطانيين والفرنسيين حيال سوريا, و تنكرهم لكل الوعود التي قطعها ( الحلفاء) للعرب قبيل الثورة.
ابتداء من (التمهيد) يظهر بوضوح حرص الكاتب على تتبّع و إضاءة التجاذب والتوتر بين مطالب الحركة الوطنية السورية, بمرجعيتها الشعبية الحاسمة و وضوحها المبدئي الوطني القائم على وعي كامل بالحق بالاستقلال والسيادة والحرية, وبين خدع و مناورات سياسة الانتداب الاستعمارية. و يصل الكاتب في نهاية التمهيد إلى لحظة ( ميسلون ) و دخول القوات الفرنسية دمشق " فوق جثث سكانها ", و مغادرة فيصل البلاد " إلى أوروبا مخلفاً وراءه حلماً منكوباً قضي عليه بعد أقل من سنتين على ولادته " - ص 34 -.
* * *
خلال فصول الكتاب التسعة, يعرض الكاتب للمسار الذي تكشفت فيه الأحداث في دمشق بخاصة, وفي عموم المدن والمناطق السورية بعامة, عن الوجه القبيح للانتداب, حيث تحولت فرنسا تحت ضغط المطالب المشروعة للسوريين, من ممثل لدعاوى الحرية وحقوق الإنسان واحترام حقوق الشعوب في الاستقلال و تقرير المصير, إلى مجرد قوة عسكرية تسعى بكل السبل, و مهما كان الثمن, إلى إخضاع السوريين والبطش بأحرارهم. و في المقابل, تكشّف مسار الأحداث عن جذرية المطالب الوطنية للسوريين, ومدى الترابط والتكامل بين النخب و وعيها و نشاطها السياسي من جهة, و بين المطالب الشعبية التي لم تحِدْ عن هدف الاستقلال والتمسك بالوحدة الوطنية, و رفض أي خنوع أو تبعية للمستعمر الذي يسعى للتستر تحت أقنعة مختلفة.
بكلام آخر يمكن القول إن المؤلف أراد - انطلاقاً من المجال الدمشقيّ - بسط المواجهة التي حدثت خلال تلك الفترة في سوريا, بين منطق الوصاية, التي أراد الجنرال غورو - توطيدها بالدماء -, و بين إرادة شعبية ترفض هذه الوصاية, و تسعى إلى نيل حريتها و استقلالها بكل السبل. و بينما يحتفي سرد المؤلف بالكشف عن الأساليب و الإجراءات الوحشية التي اتبعها الفرنسيون لتطبيق مبدأ - التوطيد بالدم -, و تتبع المسار المتصاعد في العنف العسكري لقوات الانتداب, وصولاً إلى الإعدامات الميدانية و قتل المدنيين و ترويعهم بمشاهد التنكيل و الأجساد المدماة, انتهاء بالقصف العشوائي و تدمير الأحياء على ساكنيها؛ فإنه - من جهة مقابلة - يرصد تطور الحركة الوطنية في مواجهة الوحشية الاستعمارية, و يعرض الملامح الأساسية للعمل الوطني كما تجسدت في تصريحات و مواقف النخب السياسية و قادة العمل السياسي المقاوم.
* * *
في سياق هذه المواجهة تبلورت بالتدريج ملامح و حدود السياسة السوريّة, بثوابتها الوطنية الديمقراطية المعروفة. و ربما كانت فضيلة كتاب الكيلاني الأساسية, هو التذكير بهذه الملامح و الحدود التي نهضت عليها ثوابت العمل الوطني السوريّ. فالكتاب لا يكشف جديداً على مستوى الوقائع و خلفيات الأحداث و حقيقة الدوافع و الأهداف, و لايعرض وثائق جديدة على هذا الصعيد, لكنه, في لحظة مرارة و ارتباك العقل و الضمير, يعيد التقاط الجوهري, و يرمم الذاكرة مما لحقها من ضعف و تفتيت و تغييب.
يتضح من عرض المؤلف لمسار الأحداث أن ارتباطاً وثيقاً قام في سياق مواجهة سياسة الانتداب, بين النخب السياسية, والمنظمات و الأحزاب المتشكلة حديثاً, وبين المطالب الشعبية و وعي السوريين جميعهم لحقوقهم السياسية و الوطنية ( ص 88). تبعاً لذلك يمكن القول : إن أهم ملمح / ثابت في وعي و عمل الحركة الوطنية السورية هو التمثيل الحقيقي للشعب و مطالبه التي اندرجت في حركة وعي وطني وقومي ديمقراطي شاملة. تمثيل يعطي النخب استقلالية المبادرة و جرأة التمثيل و صدقه, بهدف تحويل التطلع الوطني العام إلى مكاسب سياسية و حقوقية ملموسة, من دون الوقوع في شعبوية بائسة تشي بالانتهازية السياسية, والارتهان لتعطش مقيت للسلطة. و ربما كان ( حزب الشعب ) بقيادة الطبيب عبد الرحمن الشهبندر خير ممثل لهذا الملمح آنذاك. ( ص 102- 103 ).
يتضح أيضاً, كملمح ثابت في العمل السياسي الوطني, حرص النخب و الجمهور على السيادة الوطنية, و اعتبار كل خطوة تتعارض مع هذه السيادة عملاً مشبوهاً و بالتالي مرفوضاً بشكل قاطع. ( انظر مقابلة الشهبندر لساراي في بيروت ص 87 ).
من بين الملامح المؤسسة للوعي والعمل السياسيين داخل الحركة الوطنية السورية, كما يعرضها الكتاب أيضاً, التمسك بالوحدة والروح الوطنية الجامعة, و هو ما لقي تجسده الأنصع في الثورة السورية الكبرى سنة 1925, التي شاركت فيها مختلف المدن والمناطق السورية. ساهم هذا الملمح في تخليص الحياة السياسية والاجتماعية بسوريا من مرضين فتاكين, هما: الطائفية والتطرف الديني. و قد استمر غيابهما ( النسبي ) عن العمل السياسي السوري حتى مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي, إبان الصراع الدامي بين النظام و الأخوان, حيث استخدمهما الطرفان في معركة قذرة من أجل السلطة, قبل أن يستفحلا و يعيدا ترتيب أولويات الحرب الأهلية القائمة.
* * *
لا يمكن قراءة كتاب (علاء الدين كيلاني) بعيداً عن الأحداث الراهنة بسوريا. و من شأن توقيت إصدار الكتاب, أن يمنحه أهمية خاصة تتمثل في كونه يأتي بمثابة إنعاش للذاكرة السورية, و دعوة للمقارنة و التدبر في الحدث الراهن على ضوء أحداث شهدتها البلاد مطلع القرن الماضي, و أبدت إزاءها استجابات محددة, ارتسمت تبعاً لها ملامح و ثوابت العمل السياسي الوطني في سوريا, وهي ملامح و ثوابت تم - للأسف الشديد - التخلي عنها والتنكر لها بسرعة و بكل يسر, من قِبل معظم الفاعلين في النكبة السورية القائمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب و باحث من سوريا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة