الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-ثيلوفا-- بيان حكائي- - 6-

سعيدي المولودي

2014 / 7 / 2
الادب والفن



"موحا" ليس منا، جزيرة عزلاء، غبار، بوراق مغربي، نبي مغدور، ذاكرة تغتسل على أرصفة الوطن الصاعد من القهر، خارطة هوجاء متقدة ترشح بذكريات نازفة من تاريخ محمول على الأكتاف، ميت ضل طريقه إلى القبر، وتخلى عن جنازته ليذرع شجر الحياة. قضى طراوة عمره في حارات النسيان. غريب كغابة مورقة على الأنقاض، تستسقي المزن والحزن، مقاتل عنيد، ولا موعد له مع الفرح..
اغتصبت قوات النصارى شموخه، وشهامته، وانتزعت منه طرائد الأرض التي تسكن دمه،ولم يبادلهم أنخاب النصر.كان ذلك اليوم بعيدا وظل متشحا برأسمال من التمرد والرفض، طارده العملاء من الشيوخ والمقدمين وتوعدوه بالثأر والقصاص، وبدأوا يضطهدونه في كل آن وحين، وكلما طرأ طاريء كان اسمه في الصف الأول، قاوم بصبره، وشدته لكن الأرض كانت مطوقة بسلاسل من سعير، وأينما تولوا وجوهكم فثمة الرهبة.
تحمل الذل والهوان ترواده أحلام كثة بلون الجنون، وضمد جراحه المفتوحة، عل الفرج يأتيه قريبا لكن البطش كان يمشي على حائط رغبته ويفتح الأعداء النار عليه في كل لحظة.
في كل ربع من هذا الوطن ترك "موحا" المجهول، آثاره المتفشية كالسراب، كانت تُوكل لحضوره المهمات الشاقة الصعبة فيخرج منها ظافرا دونما ادعاء، ويزداد ولعه بحجر الأرض التي رواها بعرقه وقرأ اللطيف على دواليها..
يبدأ الجرح منه وينتهي.
يبدأ الصدق منه وينتهي.
يبدأ الحزن منه ولا ينتهي.
حينما ضاقت به الدنيا ووجد نفسه في قلب الأمواج، لم يجد ملاذا غير الانخراط في الجندية فحل أهلها ونزل سهولها.كانوا ثمانية جبال ماردة،انخرطوا دفعة واحدة، برعوا في الرماية وركوب الأخطار، واصطفاهم الأكابر للريادة، ولم يلبثوا أن ارتقوا سلم المسؤوليات وفرقت بينهم بعد ذلك المهمات، لكنهم تعاهدوا أبدا على الوفاء لصقيع هذه الأرض الطيبة ورمادها المنسي. أفرغتهم بداوتهم من بعض، والتقوا على خطوط النار سنوات، فشتتت الحرب شملهم، وانقطع حبلهم، وتولى كل منهم وجهة من الوجهات.
قاتل "موحا " كأبناء جلدته وتناسته كثبان الصداقات العريقة ورمال الأحبة، لم يدْرِ كم كانت قساوة الحرب. كان يطلق النار في كل الاتجاهات، فلا فرق بين محارب ومحارب، ولا فرق بين نار ونار.
حين كانت الصدفة وكان التاريخ ، عاد "موحا" إلى مسقط رأسه، مسلولا، سأل عن الجبال الغافية ، والأنهار، والأشجار الواقفة، فلم يجد لها صدى،كأنما خان العهد والوعد .. لِمَ يعود الآن منخورا عاجزا أمام وطنه الصارخ، ارتد به الشغف بالنار والبنادق والطلقات الضائعة، فانخرط في جيش التحرير، ووضع نفسه في كفة الموت والوطن.. وعقودا بعد ذلك عرفته العاصمة مسافرا عنيدا زاده الأوراق والصور الشخصية وتثبيت الإمضاءات والنسخ المطابقة للأصل الهارب، يتفتت كبذور الريح مترددا على المصالح والبنايات المشهرة، باحثا عن بطاقة هوية ترد له بعض اعتباره المفقود، لكن المواعد المغربية تخذله في كل مرة، ويتوسد مرارته، كما لو كانت أعذب شيء.
"موحا" فاته أن يوقع على وثيقة الاستقلال، لأنه لم يقرأ عنها، والمسألة بالنسبة إليه أكبر من توقيع، لذلك ظل وثيقة استقلال آخر، وباب التوقيعات مفتوح ، مفتوح..
" موحا " الآن يمحو تاريخه أو هو يمحوه، يتسلق جدار الموت فينا، فيأتيه السوط قانيا. حين يجلس على دفتر الذكريات يرتاع ، يصرخ، يرغي وينادي في الممرات:
أبو العباس السفاح آت، قائم في لؤلؤ الخليج ومحار المحيط، لقد عاهدنا أن تصل عينه والسيف عتبات النبض.. آه .ما أضيق هذا المدى. ما أبرد دم هذه السماوات.
"موحا" بنك دم، ومعلومات، حين اقتنص حديث المهمات والشجون، فضح أسرار حقيبته ، وكان اليوم أمام نهاية الهول، فقد صدر قرار برفض ملتمساته ووثائقه ومستنداته، وتاريخه، لأنها لاتثبت له أية هوية.. قال "موحا" وجغرافية التوتر تنساب في سهوبه، وتكاد تخنق أنفاسه:
- أنا الليلة منكوس، راغب في سكرة عرضها السماوات والأراضي..
اتفقا على الشراب واستقلا حانة قريبة، شربا حتى الصدود، زادا همّاً على هم ووهما على وهم، ونبتت الصولة في تلابيبهما، طافا حانات المدينة، وصناديق لياليها حتى تلفا عن القبلة وما يأتي منها. وفي منتصف الليل لفظتهما الجدران، وخرجا يترنحان في الشارع الأسود كقصبتين، تغريهما نسائم المحيط التي تتسرب إلى قشعريرتهما. فكرا في مخاطرات كثيرة، دقا أبواب الفنادق الشاحبة، لم يجدا لهما موئلا، أو فرصة، دارت بهما الأرض، تقيأ أحدهما جوفه في عرض الشارع الرئيسي، داخلهما خيط من الرعب والوحشة النادرة، واستقر قرارهما على أن يتجها لضاحية المدينة حيث سينعمان بهدوء شجر النوم. قال "موحا" وضحك ثمل يتهاوى على مجاريه، إنه يفضل النوم في الهواء الطلق،أن يرتع في الهواء الطلق، أن يتغوط في الهواء الطلق ، وأن يحيا ويموت في الهواء الطلق..
آه كم أنت طلق أيها الهواء..
سارا معكوسين في اتجاه الضاحية، وصلا بثقلهما، توسدا تاريخهما الدامي، ناما بأقصى سرعة ممكنة، إذ أنهكهما المشي والطريق الطويل..
***
سلام ايتها العصا الميمونة،
صباح الخير.. مساء الخير..
هكذا يعانق "حوسا" عصاه، يراودها، تراوده، يصافحها، ويتحلل فيها كسر مختوم، يضعها على كتفيه الصلدتين في مستوى أفقي، يعتصم بها بكلتا ساعديه، يتشبع جبل رأسه بقليل من ماء الطموح، يبدأ محياه يغرق في أنغام موشوشة، وتشتعل في جلبابته موسيقى إفريقية توقظ فيه أنهار الفزع القديم، يهرع مهزوما إلى غنيماته، في هرم جلبابته قطعة خبز تالدة، وقطعة سكر في أحسن الأحوال، حيث يبدأ مسيرة كل يوم من عمره المفصول عن التاريخ، يداعب العصا بملء جناحيه، تتوزع الغنيمات في قدم عرش الجبل الصغير، ويتوزع هو بين أمل دفين وألعاب الفروسية الهشة التي تشقيه وترسم صورته على الأرض كطائر مهاجر ينزع بردة الأفق ويمضي في المضي المحدق بنا..
مدى سنوات يمتص غبار العمر يقف ماثلا كقربوس حزين، هو والعصا إذ هما في القعر، يتعانقان، ينشابهان، يجتمعان..تفاءل أبوه للإلقاء به في المدرسة الموعودة، التي لم تقم بعد، عرض في المناسبات الممكنة جام هذه الرغبة على أشخاص من مستويات مختلفة، وحين حل رأس السنة الفلاحية كان عمر "حوسا" سبع سنوات وأياما تزيد. ولما استقبلت القرية ذات يوم رهبة المدير وطلعته، تجرأ أبوه ليلتمس إغراق اسمه في قارعة المسجلين، لكن المدير الذي بدا عصبيا قال بشدة محمومة:
- القانون هو القانون..
بعدُ، أسرَّ إليه الشيخ أن يغزو بيت المدير. لتكن يداك مبسوطتين. قال له ناصحا.وفعلا قامر "حدو" ذات ليلة وانسلخ عن الضغط الجوي للقرية، تحت رحمة النجوم، انتزع من صلبه زربية أطلسية وحملها زادا سافر به على الأمل الذي يسكنه، وصل مع أبواب الفجر إلى مشارف بيت المدير، وتستر بظل ذلك الصباح وعيون الأشجار في انتظار أن يستيقظ الدب الإداري، فقد بدا له من الأدب ألا يقلق غابة راحته، فانتظر حتى اشتعلت الشمس في حدقة الأفق، طرق الباب كعادة الغرباء، أعرب عن رغبته في رؤية المدير. خرج المدير يفرك عينيه، التوى "حدو" من الحياء الهمجي، سلمه مفاتيح القلب وأسرار الأمانة المحمولة آناء الليل ، هبطت سماوات خير مخبوء على وجه المدير، مشوبة بلون ذلك الأفق الصباحي الشريد، أطلق بسمة خضراء وغاب عن الرؤية، ومن الداخل كانت تتعالى وشوشات وضحكات وقهقهات وئيدة ترتد لمسامع "حدو" فتزهو ذاكرته بكبرياء يغزو مفاتن جسده. قال في نفسه مرات متتالية كدورات البرق:
- اللهم آتنا في هذا الذل حسنات..
من الداخل تصاعدت أصداء كلام امرأة متوسطة العمر، تنفث كلاما مشوبا بإقليمية ، لم يستطع سبر أغواره أو فهم دلالاته، وفكر أنها زوجة المدير، وأن الهدية سحرتها..الآن ظفرتُ، يبتسم بينه وبينه، فتسبقه مهام الحمد لله ممسانا ومصبحنا، يشعر بالدفء يغمر سواحله البدوية، ويغرق في أجواء صوفية طافحة بالأنس والتفرد والشطح.
على حين غرة ينفتح الباب الخارجي لسكنى المدير المخملية، تظهر سحب فرحة مكتومة على ملامحه، يستنفر جيوش البدوي المفتون:
- أهل الكرم.. أنتم الكرام..
يفور الخوف الغائر في مخازن "حدو" حاول أن يرد ولو بكلمة، اضطرب الزمان والمكان في غدوه ورواحه، تأمله المدير الخارج في منامته الشفافة يضع يده الشفافة أيضا على منطقة تواجد عضوه التناسلي البارز بشكل واضح، يدرك الرغبة الصامتة في وجه "حدو" يربت على كتفه المتقادمة:
- قضية الولد... خيرا إن شاع الله.
عرج "حدو" على طريق العودة مسلحا ببعض الأمل، وبدا وكأن أمواج الحرقة الملتهبة تتكسر على صخرته، شملته رهبة حمراء، وهو يستعيد مهازل هذا التاريخ الأسود القادم منا إلينا، وظلت أوجاعه تحترق شيئا فشيئا..
كان الله في عون القرية المخبوءة في قعر التاريخ كعملة أهل الكهف. حضر لمعالمها لأول مرة مدرس بعد عقود من الإغلاق والتمثيل والانتخابات والديمقراطيات، والشعارات البئيسة: الصحة للجميع والتعليم للجميع و القهر للجميع والموت للجميع والجميع للجميع..قضى ليلة بحذافيرها ثم انفصل عن القرية ومهماته فيها، ومرت السنون والمدرسة الموقوفة التنفيذ تنتظر جبريلها، جدران الفصل الوحيد الموشومة بالجير الناصع البياض ،تغري كصفحة عذراء، لذلك كتب على واجهتها بعض العابرين بقطعة فحم مأكول، وبكتابة شبه واضحة:
" المدرسة تقتل التلاميذ".
داهم اليأس مدارج الناس البسطاء، ولجأوا لمن استطاع إلى ذلك سبيلا لأقرب مركز، يتوسلون ويستعطفون ويستنجدون بالمعارف والنكرات، ومن حسن الحظ كان "حوسا" محظوظا في هذا الخضم.
وسنوات تتوالى، كان "حوسا" يجتر حياته بعيدا عن الفضاء الذي رضع فيه أبجدية الرعي والرمي، يصل إلى عانة القسم الخامس الخسيس، يتربع كرسيه لسنوات، فتلفظه القرارات الإدارية، ويعود أدراج رياحه، والعودة إلى الأصل أصل. يكتب مرثية عمره المدرسي، ويتذكر الآن مغزى الأسئلة الصدئة:
من بنى صومعة الحزن؟
متى كانت وقعة وادي المخازي؟
أين يصب نهر الغضب.؟
كم يبلغ طول السيف بيننا وبيننا؟
ينفض "حوسا" أوزاره من شر المدرسة، ويرحل مسكونا بالفجر المغروس في خيبات القادمين لهذه الأرٍض، ويغدو أغرودة يغنيها أعمى في الظلام..يولد كل مساء في قارات اليائسين.
ما أعظم أن نشد على يد القسوة بنفس القسوة.
ومن كانت هجرته يا "حوسا" لشيء فهو له.
انتابته نوبة غضب عاصف، لعن التاريخ الزائف الذي يلاحقه، بصق في وجه المدارس المغلقة على الوجع الرتيب، الضالعة في نواقض الوضوء والمسح على الجبيرة، ولما صعد القرية الغافية وجدها آمنة كعهده بها، أطلق زفرة يائسة في وجهها الدامي، قامت النار في صدره، سقطت براءته دمعة ساخنة، بكى كنافورة في شارع رئيسي في مدينة رئيسية، في وطن رئيسي، مسح عنه هوانه وخطا نحو الخيمة الشاهدة.
دنا من فضاء الخيمة ، انفجر شذاه عانقت الكلاب الأمينة زئيره، فهبت ضارعة، عانقته عناقا، مسحت غمائم مخيلته، وقامته المكسوة بهزيمة الروم، كانت أذنابها قد اشتعلت بهجة فلوحت ذات اليمين وذات الشمال.. وداخل بهاء الخيمة سقطت دموع القرون الوسطى من عرقه، شتم ألف باء الاغتيال، واجتثاث السنابل من جذوعها، نفث أبوه هواء الرئتين وقال في حنق أليم:
"حوسا " أيها اليبس المغفور له
زمانكم التتاري يا بني هذا.
كن قلعة الصمغ. واقترب من غواية الكي.
كم هذه الريح تغرينا، لنمضي ونجلس على مقربة من النهر.

سعيدي المولودي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي