الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللعبة الإعلامية من فيتنام إلى العراق

فيصل القاسم

2005 / 8 / 1
الصحافة والاعلام


يُحكى على ذمة الراوي أن وزير الدفاع الأمريكي الشهير روبرت مكنامارا أيام حرب فيتنام قد قام بزيارة للقوات الأمريكية المنتشرة على الأراضي الفيتنامية للاطمئنان على حالها ومعنوياتها القتالية. ولدى لقائه بالجنود والقادة الميدانيين أصيب الوزير بحالة إحباط شديد. فقد أخبره الجنود والضباط بأنهم يعيشون في رعب دائم وأن حياتهم تحولت إلى جحيم مقيم وأن معنوياتهم في الحضيض، فحرب العصابات التي كان يشنها المقاتلون الفيتناميون (الفيتكونغ) كانت تستنزفهم جسدياً ونفسياً بعد أن تجاوز عدد القتلى من القوات الأمريكية يومياً المئات ووصل في النهاية إلى حوالي ستين ألفاً. لقد شكل مكنامارا أثناء زيارته صورة قاتمة للغاية عن وضع قواته في بلاد "هوشي منه" لا تبعث على أي نوع من الأمل والتفاؤل.

وعندما ركب الوزير الأمريكي طائرته عائداً إلى واشنطن تجمع حوله الصحفيون المرافقون على متن الطائرة (المختارون بعناية فائقة) ليسألوه عما شاهد وسمع من الجنود الأمريكيين في فيتنام، فأسّر لهم الوزير بأن وضع القوات الأمريكية لا يبشر بالخير أبداً وأن معنويات الجنود على وشك الانهيار لكن بشرط الا يتم نشر ذلك الكلام. وقد بدا مكنامارا وهو يتحدث للصحفيين كئيباً للغاية وظهرت على محيـّاه علامات الأسى والحزن الشديدين لتدهور الوضع. لكن ما أن بدأت الطائرة تقترب من واشنطن وهي في طريق العودة من فيتنام حتى راح وزير الدفاع الأمريكي يصطنع وجهاً جديداً تماماً، فغير ملابسه وتهندم كما لو أنه عريس في ليلة عرسه وهو يستعد للنزول من الطائرة. وما أن فـُتح باب الطائرة ليطل منه الوزير حتى ارتسمت على وجهه بسمة عريضة للغاية كما لو أنه فاز بالياناصيب للتو. وقد بدا مكنامارا في غاية السعادة وكان وجهه مشرقاً وحركاته رشيقة وهو يواجه "عامة" الصحفيين الذين تجمهروا بانتظاره في المطار كي يطلعهم على مشاهداته في فيتنام."كيف الوضع في فيتنام يا سيادة الوزير"، سأله أحد الصحفيين بلهفة شديدة، فأجاب مكنامارا: "إن وضع القوات الأمريكية عال العال. إنهم في أفضل حالاتهم ومعنوياتهم مرتفعة جداً". وربما طمأنهم بأنه لا ينقصهم سوى مشاهدة عائلاتهم وذويهم وأحبائهم في أمريكا.

طبعاً لم يكن متوقعاً من وزير الدفاع الأمريكي العائد من فيتنام أن يخبر الصحفيين والرأي العام الأمريكي بأن قوات الاحتلال الأمريكية في حال يُرثى له وأنها تنتظر الساعة التي تأتي فيها الأوامر من واشنطن كي يهرب الجنود بجلودهم من الجحيم الفيتنامي. وقد تبين لاحقاً أن بعض الجنود كان يتلهف لمغادرة فيتنام حتى لو تعلق بذيل المروحيات. لا شك أن من حق مكنامارا تماماً أن يكون مقتصداً في قول الحقيقة كي لا يزيد الطين بلة ويفاقم في وضع إدارته ويزيد من غضب الشارع الأمريكي الذي انتفض وقتها مطالباً بسحب القوات الأمريكية من فيتنام. لكن من حق الجميع أن يجري مقارنة بين ما كان يحدث في فيتنام وما يجري الآن في العراق على الصعيد الإعلامي. هل يتكرر سيناريو التضليل الأمريكي في فيتنام هذه الأيام في بلاد الرافدين؟ أليس هناك تعتيم إعلامي شبه كامل يذكـّر بالتعتيم وقلب الحقائق في فيتنام؟ هل صحيح أن الذين يقومون بخطف الصحفيين المستقلين وإرهابهم وترويعهم وجعلهم يلعنون الساعة التي وطئت فيها أقدامهم أرض العراق هم جماعات إرهابية؟ أليس حرياً بالمراقب أن يتساءل عن الجهة المستفيدة من عمليات تخويف الصحفيين وإبعادهم عن بلاد الرافدين؟ ألا يفتش القاضي عادة عن الجهة المنتفعة من قتل هذا الشخص أو ذاك عندما يبدأ التحقيق في القضية؟ من المستفيد من زرع الخوف في نفوس رجال الصحافة العالمية في العراق؟ أليس من يريد إخفاء الحقائق وإرهاب كاشفيها كي يفكر الصحفي ألف مرة قبل أن يشد الرحال إلى بغداد؟ ألم يحذر وزير الدفاع الأمريكي الصحفيين قبيل الغزو بأن كل صحفي لا ينضوي تحت لواء القوات الأمريكية سيكون في خطر بحجة أن "قواتنا" قد تفشل في تمييزه عن قوات الأعداء وبالتالي ربما تصيبه بأذى، وكأنه يقول إن من لا ينضم إلى فيالقنا الإعلامية ويخرج عن الخط الإعلامي الأمريكي المرسوم لتغطية الحرب في العراق سيكون عرضة للقصف؟ ويبدو أن الأمريكيين كانوا صادقين في تحذيراتهم، فقد أصبح الصحفيون أول ضحايا الغزو، إما قتلاً أو خطفاً.

أليس من حق البعض أن يربط بين عملية اختطاف الإعلاميين في العراق وبين إخراس بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية التي تحاول أن تغطي جزءاً يسيراً مما يحدث في العراق؟ هل هناك فرق بين خطف صحفي وإغلاق مكتب صحيفة أو إذاعة أو تليفزيون في العراق؟ أليس الهدف ذاته ألا وهو خنق الحقيقة أو لي عنقها؟ ألم تتعرض إحدى الصحفيات الأمريكيات إلى مضايقة شديدة لمجرد أنها صورت نعوش الجنود الأمريكيين الملفوفة بالعلم الأمريكي في مطار الكويت وقامت بنشرها على شبكة الانترنت؟ ألا تمارس الإدارة الأمريكية ضغوطاً رهيبة على كل وسائل الإعلام العالمية كي تقتصد في تغطيتها للحرب في العراق وأن تخفف من لهجتها وأن تخرس إذا لزم الأمر؟ أليست تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد المتشجنة واتهاماته المجانية لهذه الوسيلة الإعلامية أو تلك مؤشراً على هشاشة الموقف الأمريكي في العراق وقلقه المتزايد من انفضاح حقيقة ما يجري هناك؟ هل كان للأمريكيين أن يتوتروا ويمتعضوا بهذه الطريقة من وسائل الإعلام العالمية لو أن وضعهم على ما يُرام في العراق؟ هل يختلف رامسفيلد عن سلفه ذائع الصيت روبرت مكنامارا؟ أم أن السياسة الإعلامية الأمريكية فيما يخص الحروب لم تتغير منذ فيتنام بالرغم من تغير الظروف.

إن ما يُسمى بالثورة المعلوماتية بما تنطوي عليه من شبكة انترنت وأقمار اصطناعية وقنوات فضائية عابرة للقارات وسماوات مفتوحة لم تساهم كثيراً في كشف حقيقة ما يجري في الحروب طالما أن الرقيب الإعلامي الأمريكي يفعل فعله بالطرق العسكرية والضغوط الدبلوماسية وأسلحة التضليل الشامل. هل استطاعت وسائل الإعلام الحديثة التي يعود الفضل في اختراعها للأمريكيين أنفسهم اختراق جدار التعتيم الأمريكي؟ بالطبع لا. فالمعلومات المتوافرة عما يحدث في العراق نادرة وشحيحة للغاية وكل ما نراه وما نسمعه ربما لم يصل إلينا إلا بعد أن تمت غربلته مائة مرة على يد الرقيب الأمريكي أوالبريطاني. ولو كنت محل المروجين لأسطورة "السماوات المفتوحة" لقمت بتغيير ذلك المصطلح الإعلامي المزعوم ليصبح "السماوات المُقفلة" التي يمكن أن تـُفتح فقط لأغراض خاصة. وقد شاهدنا كيف أن إقصاء بعض الفضائيات العربية عن هذا القمر الصناعي الغربي أو ذاك جاء ليؤكد أن خرافة الأجواء المشرّعة ما هي إلا كذبة كبرى وأن الحرية الإعلامية المطلقة أشبه بنكتة سمجة. ولعلنا لاحظنا كيف تقوم السلطات الأمريكية بين الحين والآخر بإغلاق هذا الموقع الالكتروني أو ذاك بسرعة البرق وتستولي على حيثياته.

قد يقول قائل إن التعتيم الإعلامي الأمريكي على ما يجري في العراق هدفه عدم إثارة الرأي العام الغربي وإفساد حياته بمشاهد القتل والدمار والدماء لأن الشعوب الغربية ترفض بشدة مشاهدة مناظر حربية بشعة على شاشات التلفيزيون. فقد أثارت عملية قتل أحد المصلين العراقيين في مسجد على يدي جندي أمريكي غضباً عارماً في أمريكا بعد أن سربها إلى الإعلام أحد الصحفيين مما جعل وزارة الدفاع الأمريكية "ترأف بحال المشاهدين وتمنع عرض أي مشاهد مشابهة". لكن أرجو الا يظن أحد أن الحكومات الغربية تمنع بث بشاعات الحرب بسبب حسها الإنساني الفائق. صحيح أن بعض أعضاء الكونغرس احتجوا بشدة قبل فترة على عرض صور للتعذيب في سجن أبي غريب وعلى مشاهد قتل بعض المدنيين العراقيين بدم بارد، لكن احتجاجهم لم يكن نابعاً من رفضهم لتصرفات الجنود الأمريكيين في بلاد الرافدين بل من حرصهم على أن تقوم القوات الأمريكية "بمهماتها" في الخفاء بعيداً عن أعين الإعلام كما لو أن الأعضاء الموقرين يقولون للجنود الأمريكيين: "افعلوا ما تشاؤون بشرط ألا نرى ما تفعلون أو ما تعانون".

لقد وصل الأمر بالسلطات الأمريكية إلى منع نشر حتى أسماء الجنود الأمريكيين القتلى في بعض وسائل الإعلام العالمية بحجة أنه يجب إعلام ذويهم أولاً. ولا شك أن ذلك إجراء طيب للغاية وفي قمة الإنسانية لولا أن بعض الصحف والمجلات ومواقع الانترنت خرقت قليلاً جدار التعتيم الإعلامي الأمريكي في العراق لبرهة ونشرت صوراً لجنود أمريكيين يقومون برمي جثث رفاقهم القتلى في أنهار العراق. ولا أدري ماذا يمكن أن يقول وزير الدفاع الأمريكي رداً على هذه الأنباء فيما لو سأله أحد الصحفيين عن صحتها. هل سيؤكدها أم ينفيها على أنها مفبركة أم يتحايل على الموضوع على طريقة مكنامارا؟ على الأغلب لن يلجأ إلى الأسلوب المكناماري المخادع، فبينما استطاع مكنامارا أن يغطي على وضع قواته في فيتنام بأن يمثل على الصحفيين ويستبدل التجهم بالبشاشة أمام وسائل الإعلام فإن رامسفيلد على ما يبدو فشل في هذه اللعبة بدليل أنه لا يعقد مؤتمراً صحفياً إلا ويتهم وسائل الإعلام بإفساد مهمة قواته في العراق كما لو أنها المسؤولة عما يواجه القوات الأمريكية من مصاعب ومحن في بلاد الرافدين. ولعله في ذلك أكثر صدقاً من مكنامارا لأنه على الأقل ومن خلال تذمره المستمر من التغطية الإعلامية وممارسة الضغوط للتعتيم على ما يجري في الأراضي العراقية يعطي مؤشراً غير مباشر على أن وضع جنوده في العراق لا يسر الخاطر على أقل تقدير. والله أعلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدم المنازل الفلسطينية وتوسيع المستوطنات.. استراتيجية إسرائي


.. مجدي شطة وا?غانيه ضمن قاي?مة ا?سوء فيديو كليبات ????




.. قتلى واقتحام للبرلمان.. ما أسباب الغضب والاحتجاجات في كينيا؟


.. الجنائية الدولية تدين إسلامياً متشدداً بارتكاب فظائع في تمبك




.. فرنسا.. أتال لبارديلا حول مزدوجي الجنسية: -أنت تقول نعم لتما