الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم (آغورا).. أجوبة الماضي لأسئلة الحاضر..

عبد الكريم بدرخان

2014 / 7 / 4
الادب والفن


من يملك الحق في إلغاء الآخر؟
ومن يحق له أن يدعي احتكار الحقيقة؟
أسئلة كثيرة يطرحها فيلم (أغورا) للمخرج الإسباني (أليخاندرو أمينابار)، الفيلم من إنتاج 2009.
أغورا (agora): كلمة يونانية تعني السوق الذي يتوسط المدينة، وهذا السوق كانت تجري فيه المبادلات التجارية، والمناظرات العلمية والدينية والثقافية، ويقع فيه مجلس الحكومة.
الفيلم مقتبس من حادثة تاريخية حقيقية، وهي حادثة اجتياح المسيحيين لمكتبة الإسكندرية وتدميرها وإحراق الكتب الموجودة فيها؛ عام 391 م في عهد الإمبراطور الروماني تيودوسيوس الأول، وبطلة الفيلم شخصية تاريخية حقيقية هي الفيلسوفة هيباتيا السكندرية، وهي ابنة آخر رئيس لمكتبة الإسكندرية، كانت مدرِّسة يضم صفّها تلامذة متنوعي الأديان والطبقات، تعلمهم الفلسفة والرياضيات والفلك، وهي التي اكتشفت أن الأرض تدور حول الشمس بمدار إهليلجي قبل العالم الألماني يوهان كيبلر (1571-1630) باثني عشر قرناً.

تظهر هيباتيا (التي أدتْ دورها بشكل رائع ريتشل وايز) كامرأة جميلة مخلصة للعلم، قوية الشخصية، مسموعة الكلمة، محترمة ومحبوبة من الجميع، تحاول إبعاد تلاميذها عن الصراع السياسي في المدينة، فتحلّ مشكلةً بين طالبين أحدهما مسيحي والآخر وثني بمعادلة رياضية: إذا تساوى شيئان مع شيء ثالث فالثلاثة متساوون، فهي الفيلسوفة تساوي نفسها مع نقيضين: مسيحي- وثني، لتعلن أن الجميع أخوةٌ وأن ما يجمعهم أكبر مما يفرقهم، وهنا لا يغيب عن ذهننا ما يحمله الرقم 3 من دلالات في الفلسفة واللاهوت والرياضيات. يقع اثنان من تلامذتها في حبها: آريستس (أوسكار آيزاك) والذي سيصبح حاكم المدينة فيما بعد، و ديفيس (ماكس مينغيللا) العبد الذي سيعتنق المسيحية.
يبدأ إيقاع الفيلم بالتسارع عندما يقوم المسيحيون بإهانة آلهة الرومان، بالاعتداء على تماثيلهم المنتصبة في سوق المدينة (الأغورا)، فيكون ردّ الوثنيين هو حمل السلاح ومحاربة المسيحيين،
لكن المسيحية كأي عقيدة جديدة أوجدتْ لنفسها انتشاراً واسعاً في الطبقات الفقيرة والمعدمة، وبين العبيد والسجناء وكلّ معارضي الحكم، فكانت الغلبة للأكثرية المسيحية على الأقلية الوثنية، وجاء قرار الإمبراطور الروماني المسيحي بتسليم مكتبة الإسكندرية – أعظم مكتبة في التاريخ وهي آخر ما بقي من حكمة البشر- لأيدي المسيحيين، وعندها يهرب أهلُ المكتبة حاملين معهم بعض الكتب التي استطاعوا إنقاذها، ثم يدخل المسيحيون المكتبة، يدمّرون التماثيل الإغريقية والتحف الفرعونية باعتبارها رموزاً وثنية، ويجمعون كل الكتب والمخطوطات الموجودة في المكتبة، ويقومون بإحراقها، وهنا يمتعنا المخرج (أمينابار) بلقطة جميلة، عندما يقلب الصورة فنرى من يحرقون الكتبَ أرجلُهم للأعلى ورؤوسُهم للأسفل، كأن المخرج يريد أن يشير إلى انقلاب القيم والمفاهيم رأساً على عقب، عند تغيّر السلطة السياسية.

تهرب الفيلسوفة هيباتيا ومن تبقى من أساتذة المكتبة خارجها، وتبقى تتابع شغفها في علم الفلك، وتحاول تطوير نظرية أرسطو القائلة بدوران الأرض حول الشمس بمدار دائري، فتنشغل بحل لغز انقلاب الفصول، بينما يكون المسيحيون قد أحرقوا كل ما يمتُّ للعلم والحضارة بصلة، وجعلوا من مكتبة الإسكندرية حظيرةً للماشية.

بعد وفاة أسقف الاسكندرية يستلم بعده الأسقف سيرول (الذي لعب دوره الممثل المصري سامي سمير) ويبدأ أعماله كرجل دين بالهجوم على اليهود يوم السبت، وبعدها تتحول ساحة المدينة من مكانٍ للتجارة والعلم والعبادة إلى ساحة لإراقة الدماء؛ عبر اقتتالٍ مسيحي- يهودي لم يجرؤ حاكم المدينة الروماني (آريستيس) أن يتدخل فيه، فيضطر في النهاية إلى اعتناق المسيحية قسراً بعد مكيدةٍ أوقعه فيها الأسقفُ سيرول، ولأن رفضَه اعتناقَ الدين الجديد يعني الموت، ويظهر اعتناقُ آريستيس المسيحيةَ لحظةَ ركوعه أمام أسقف (ساريني)، وكأن المخرج يشير إلى أن الدين لم يعد عبودية لله، بل عبودية لرجال الدين وأوامرهم.

الفيلسوفة هيباتيا هي الوحيدة التي لم تتخلَّ عن عقيدتها طمعاً بالسلطة أو خوفاً منها، أعلنتْ أمام الجميع أنها تؤمن بالفلسفة، وأن الدين يمنعُها من الشك، وعملُها كفيلسوفةٍ قائمٌ أصلاً على الشك، فيسخر منها رجالُ السياسة معتبرين أنْ لا حاجة للعلم والفلسفة وسط هذي الظروف، ثم يعلن الأسقفُ (سيرول) أنها امرأةٌ كافرةٌ وساحرةٌ مستشهداً بكلماتٍ من الإنجيل يفسّرها لخدمة غرضه، فيقوم المؤمنون المسيحيون بسحبها إلى المكتبة وتجريدها من ملابسها، وعلى الرغم من أن التاريخ يشير إلى أن المسيحيين قاموا بسلخ جلدها حيةً، إلا أن المخرج جعل لها نهاية أخرى، عندما جعل (ديفيس) تلميذها وعاشقها وعبدها السابق يقوم بقتلها قتلاً رحيماً، يخنقها بينما كان البقيةُ يجمعون الحجارة لرجمها، وفي هذا المشهد الرائع – مشهد خنق ديفيس لها- كانت هيباتيا تنظر إلى السماء من فتحة في سقف المكتبة، وكأنها ترى الله وتدرك روح الإيمان (وهي التي شهد لها آريستس بأنها أكثرُ مسيحيّةً من المسيحيين أنفسهم)، وبعد انصراف ديفيس قاتلها، كانت السماءُ تنظر إليه من الأعلى إلى الأسفل عبر فتحة السقف ذاتها، وكأنها تشكره على هذا القتل الرحيم.

الفيلم يناقش حادثة تاريخية، لكن المشكلات التي يطرحها مشكلاتٌ معاصرة بامتياز:
1- مشكلة التعصب الديني، فكل دين يدعي احتكار الحقيقة، ويقوم رجال الدين بدفع الشبان إلى ساحات الموت، لكي يحققوا مآربهم السياسية.
2- مشكلة تفسير النص الديني، فالأسقف (سيرول) يفسر النص الديني بالشكل الذي يخدم غايته الشخصية، فتصبح كلماتُ الإنجيل كأنها فتوى واضحة وصريحة بقتل الفيلسوفة هيباتيا.
3- مشكلة المقدَّس والمدنّس، فعندما تصل أيُّ عقيدة جديدة إلى السلطة، تحاول قلبَ القيم والمثل والمفاهيم في المجتمع، فتحول المقدَّس إلى مدنَّس والمدنس إلى مقدس، لكي لا تبقي أثراً للسلطة السابقة.
4- مشكلة اضطهاد المرأة، هيباتيا هي المرأة الوحيدة في الفيلم، صحيح أن انتقال البشرية من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي كان قد بدأ قرابة ألفي عام قبل الميلاد، إلا أن هذا الانقلاب لم يتم في جميع المناطق بنفس الوقت، ولم يتم بفترة قصيرة أيضاً، وهنا تظهر الفيلسوفة هيباتيا كأنها آخرُ امرأة مقدّسة بعد سيادة الأديان الذكورية، ويظهر اضطهاد المرأة عندما لا يسمح الأسقف (سيرول) لأي امرأةٍ أن تُعلِّم أو أن يكون لها رأيٌ مع الرجل.

الحديث عن الفيلم يطول كثيراً لما يحويه من حوارٍ مكثَّفٍ عميقٍ وذي دلالاتٍ لا تنتهي، لكني أودُّ أن أشير إلى الأداء الرائع الذي قام به الممثل أشرف برهوم في شخصية (آمونيوس) وهو يمثل شاباً مسيحياً متحمساً للدين الجديد، يقوم بأداء المعجزات عن طريق استغلاله جوع الفقراء، ويكون له دور رئيس في قتل الوثنيين واليهود وتدمير الحضارة السكندرية، مما جعل الأسقفَ يعتبره شهيداً بعد موته، ويعلنُ ترقيتَه إلى مرتبة قدّيس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فيلم رائع .. !
ماجد جمال الدين ( 2014 / 7 / 4 - 08:30 )

لقد شاهدت فيلم أغورا كاملا من مكتبات الأفلام على الإنترنت .. شاهدته مدبلجا إلى اللغة الروسية ..

لا أدري هل توجد على الإنترنت نسخة مترجمة للعربية .. أرجو أن يجد احد ما رابطا لها .. وأتمنى للجميع مشاهدة الفلم البديع والغني بالأفكار عدا عن كونه عرض وتوثيق تاريخي مهم للأحداث وطبيعة المجتمع السكندري حين ذاك .

هنالك مسألة أضيفها : في المجتمع الوثني حتى أشخاص من طبقة العبيد كان بإمكانهم دراسة الفلسقة والعلوم (عدا عن المثل الذي جاء في الفيلم ، هنالك أيضا الحكيم إيسوب نموذجا الذي كان عبدا أعتق نفسه بشرائه لحريته من مالكه ، ومن ثم خيروه بين الرجوع للعبودية او القتل بأن يرمى من قمة الجبل فقال كلمته الخالدة ، لا أذكرها بالنص ولكن ما معناه : لحظات الحرية في الطريق للهاوية أحلى من كل سنوات العبودية التي يمكن أن أعيشها ) ..

مع مجيء الأديان التوحيدية وخاصة المسيحية ، حرصت على أن تحصر تداول العلوم فقط بين رجالات وكهنة الدين أنفسهم !!

شكرا للكاتب ألأستاذ بدرخان المحترم .

تحياتي


2 - الأستاذ ماجد جمال الدين
عبد الكريم بدرخان ( 2014 / 7 / 4 - 10:32 )
شكراً جزيلاً على قراءتك واهتمامك ،
كما أشكرك على هذه الإضافة الغنية على مقالتي ،

تحياتي


3 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 7 / 4 - 17:54 )
هكذا هي المسيحيه , الآن , نريد تعليق الزملاء المسيحيين على هذه الجريمه , و لا سيّما ان مرتكبها هم المسيحيين الشرقيين!... نحن في إنتظار المعلقين المسيحيين .


4 - الأستاذ عبد الله خلف
عبد الكريم بدرخان ( 2014 / 7 / 4 - 20:08 )
لا ذنب للمسيحيين اليوم ، ولا للمسلمين اليوم ، بما جرى في سالف التاريخ.
هذا هو حال الأديان الجديدة والعقائد الجديدة والأحزاب الجديدة والثورات الجديدة ... تقضي من سبقها إقصاءً كاملاً.

محبتي لك.

اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة