الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول الهوية والثقافة

علاء عبد الهادي

2014 / 7 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


حول الهوية والثقافة

الدكتور علاء عبد الهادي*
الهوية؛ تجريد عملاق, هي كل شيء, ولا شيء في "الآن ذاته", وعلى الرغم من أن الهوية قد تدل على الواحد, فإننا نشعر عندما نحسن الاستماع لها بأقدام المجتمع, وبإيقاع الكليات, فالشائع هو الكلام عن الهوية منسوبة إلى طرف ما بصفتها شيئًا واضحًا لا يحتاج إلى فائض قول, لكنّ الاعتراف بتعدد العمليات التاريخية التي ولدت عددًا غير متناه من شكول الهوية الإنسانية من جهة, والاختلاف القائم في تحديد الهوية بسبب تعدد المواقع التي يمكن النظرُ منها إليها من جهة أخرى, كانا سببين يبرران أهمية النظر إلى العلاقة بين الهوية والثقافة, فالمتخيل السائد عن الهوية يرى أن لها وجودًا موضوعيًّا أو ماديًّا سواء على المستوي الفردي, أو على المستوى الجمعي, بسبب الإيمان الخفي, المطمئن, الواعي من الأفراد بوجودها, هكذا شكل لفظ الهوية –على نحو ما- تعبيرًا عن وحدة ما, فردية, أو جماعية, برغم إشارته على المستوى اللغوي إلى (هو) دائمًا, إلى آخر, لا تتحقق الأنا إلا من خلال وجوده, في إطار الاختلاف!
وقد تداولت مفهوم الهوية مباحث معرفية متعددة, وتجاذبته اتجاهات سياسية, واجتماعية, وإثنية, ونفسية, وفلسفية, مختلفة, وهذا ما خلق له نوعًا من الاستقلالية النسبية في كل علم من هذه العلوم, كما سبب في الوقت ذاته, تشابكًا في المفهوم, وانتماءً يصعب الحد منه إلى أكثر من اتجاه معرفي, وإن دلّ مفهوم الهوية المتداول –من الوهلة الأولى- على ما يؤطّر المنظور العام لمجموعة من الخبرات الاجتماعية, والاقتصادية, والثقافية, لشعب ما, أو لمجتمع, أو لجماعة, في سياق تاريخي محدد, يجمع المنتمين إليه بسمات شديدة التنوع, في ذات الوقت الذي يحافظ فيه على إبقاء ثوابت نسبية في الوعي الجمعي لشعب, أو لمجتمع ما, أو لجماعة, تتجلى في سلوكهم المعيش, وردات أفعالهم, ومواقفهم, تجاه الناس والأشياء. وفي هذا ما يشير ضمنيًّا إلى ارتباط الهوية بثقافة جمعية خاصة..
من المهم في هذا السياق الإشارة إلى الفجوات التي تتخلق في المسافة الواقعة بين مفهوم الهوية -أو مفهوماتها- على المستوى الفكري, ووعي مجتمع ما لهذا المفهوم, وما يترتب عليه من ممارسة, وهذا ما يجعلنا نتساءل عن العلاقة بين الهوية القومية التي كنا نعدها ثقافة جمعية (الهوية بصفتها ثقافة), وما يحدث الآن من تغير حثيث عليها, على نحو باتت تتحول معه الثقافة النوعية أو الفردية إلى هوية, (الثقافة بصفتها هوية)! الأمر الذي يشد تدريجًا سياق الهوية القومية الجمعية, إلى فضاءات الهوية الفردية بما تحمله من اختلافات يسمح بها تعدد الثقافات الشديد, وتأثيراتها القوية المتباينة على انتماءات حامليها.
فإذا ما اقتربنا من مفهوم الهوية القومية وجدناها تشير إلى المسئولية الاجتماعية التي يشترك في تحملها أفراد ينتمون إلى مجال واحد, وهي من ضمن أشياء أخرى تشير إلى قدرة مجتمع ما على الشعور بالمسئولية من خلال ثقافة مشتركة. ويذهب عدد من المفكرين إلى أن ثمة شيئًا شديد الغرابة حول الكيفية التي يجري بها استخدام مفهوم الثقافة اليوم، حيث اُستعملت كلمة الثقافة في مفهومات عديدة، وفي مجالات مختلفة، وعبر أنماط تفكير متباينة, بل متضاربة أحيانًا؛ بحيث باتت من أكثر الكلمات غموضًا, وأشدها تضليلاً في الاستعمال في عالمنا المعاصر, وإن كان هناك اتفاق مبدئي, بين مجموعة من العلماء, يذهب إلى أن تعريف "الثقافة" "أصبح من المشكلات المركزية التي أخذت تزداد وضوحًا, يومًا بعد آخر. فقد تغير في أواخر القرن العشرين دور الثقافة في الدول الرأسمالية المتقدمة تغيرًا جذريًّا, إلى درجة يمكن القول معها إن الثقافة تساعد على تنظيم الحياة الاجتماعية, ولا تقتصر على مجرد تجسيدها. وذلك بعد أن خفتت مشاركة الجماهير في الأحزاب السياسية, وسائر صيغ المشاركة السياسية، وهذا ما منح الشاشة المرئية, ووسائل الإعلام الحديثة, مثل برامج اللقاءات, والبريد المباشر, فضلاً عن سائر البرامج المرئية التفاعلية, قدرة هائلة على تشكيل الوعي العام, والتأثير على مفهومات الهوية القومية ارتباطًا بالمحتوى الثقافي الذي تبثه هذه الأجهزة, وذلك على نحو يفوق قدرة الأحزاب السياسية على التأثير.
هكذا فرض الوضع العالمي الجديد, على الثقافات القومية, تحديات جديدة عبر ما تفرضه الآن, وسائط اتصال حديثة "الميديا", من مواد ثقافية تقع في خارج سيطرة رقابة الدولة الوطنية على فضاءاتها المعرفية, والاتصالية, من أجل هذا ذهب عدد من المفكرين إلى "إننا نقف الآن، على عتبة العولمة الثقافية". فحين كانت الثقافة تمثل تدفقًا للمعنى في علاقات مواجهة مباشرة بين الناس الذين لا يتنقلون كثيرًا, كنا نفكر في الثقافات بوصفها كيانات لها حدود مختلفة, واقعة في أقاليم, لكل إقليم خصائصه التي قد تتفق, مع خصائص بقية الأقاليم, أو تختلف عنها, لكن الأمر الآن اختلف عما كان عليه كثيرًا, وذلك عندما أتاحت التكنولوجيا وجهًا جديدًا للتواصل الثقافي، وأصبح الناس أكثر تحررًا من قيود الحركة والتنقل. وهذا ما أثر على تعريف الثقافة, فأصبحت الثقافة, تنظيمًا اجتماعيًّا للمعنى، "يتدفق من منطقة جغرافية, إلى أخرى، إما على شكل هجرة عرقية, أو بث إعلامي, أو من خلال حركة السلع والخدمات العالمية". "وتظل قوة الثقافة كامنة في قوة العلاقات الاجتماعية التي تنقل افتراضات عن العالم, من شخص, أو موقف, إلى آخر", وهذا ما يربط الثقافة بالهوية. ويمكننا أن نتفق هنا على أن الثقافة من وجهة النظر العالمية هي "نتاج أصيل للحداثة الغربية التي حولت الاختلاف إلى جوهر, وعيًا بالتميز، بل إن كلمة ثقافة أصبحت تشيرعلى نحو مطرد إلى الاختلاف, وذلك نظرًا إلى أن مدلول الكلمة يغطي وقائع شديدة الغنى, والثراء, يصعب حصرها"..
يشير عدد من المفكرين إلى ثلاثة تطورات كانت تشجع الاتجاه نحو تحديد الهوية من منظور ثقافي في القرن العشرين, كان أول هذه التطورات, تعاظم الدور المسند إلى الوعي, والمعرفة, والعلم, مع زيادة كبيرة في القوة الإنتاجية للعمل، وهو ما خلّف إحساسًا بمحدودية النطاق الاقتصادي, والنظر إلى إمكانية إخضاعه إلى التحكم البشري. أما ثاني هذه التطورات، فكان هذا التحول الذي اتجه من تأكيد الادخار والتضحية, إلى تأكيد زيادة الاستهلاك, حيث نشأ الاستهلاك المكثف, والثقافة المكثفة بصفتهما نطاقين أساسيين لتكوين الهوية الشخصية. وأخيرًا، كان هناك تحول آخر اتجه؛ من نموذج صراع مجتمعي يقوم على العلاقة بين رأس المال والعمل, إلى نموذج تعاوني ارتبط -في الولايات المتحدة بخاصة- بمصطلح "الحقبة التقدمية". وهذا ما ساعد على ظهور خيال جديد, يهتم بالصراع فوق المادي؛ الشخصي, والاجتماعي, على حدٍّ سواء، القائم على الوسائل الذهنية".
هكذا تعتمد الهوية القومية "أساسًا على التوظيف الثقافي لتاريخ مشترك, وقد مارست كل دولة, على مرّ تاريخها المعاصر, ومن خلال طرائق عديدة, ومختلفة, عملية إدارة المعنى, وذلك من خلال ما تتوجه به أجهزتها المختلفة, إلى رعاياها, لتغديتهم بالشعور الوطني, حفزًا لفكرة الأمة، وذلك من أجل بنائهم على المستوى الثقافي, بوصفهم مواطنين لهم تاريخ مشترك, وهي عملية تشتمل على قدر من تحقيق التجانس, والانتماء, بوصفهما هدفين للتخطيط الثقافي القومي.
في هذا السياق, أضحت مسألة التدفق الثقافي مركزًا لاهتمام اقتصادي وسياسي, جاوز في أهميته الآن أهمية الحدود الطبيعية "الجغرافية", حيث شهد العالم نتيجة هذا التطور تبدلاً هائلاً في بنياته, وفي التجليات الرمزية الجديدة لهذه البنيات, هذا فضلاً عما ترتب على ذلك من تغير حثيث على المفاهيم السائدة عن الهوية القومية. حيث أدى الحضور القوي لتكنولوجيا الاتصالات المعاصرة, إلى إحداث تغيرات مهمة في ديناميات العلاقة بين الإنسان والكون, على نحو أضحى شديد التأثير على النسيج الاجتماعي في الدول القومية, من خلال آليات الاتصال اللحظي، ممثلة في أدوات الاتصال المرئي بخاصة. كما ارتفعت مكانة الثقافة السلعية, و"المجتمع المدني", والإعلام, بوصفها مجالات تسهم في تشكيل الهوية. ويمكننا أن نتفق على أن الثقافة من وجهة النظر العالمية هي "نتاج أصيل للحداثة الغربية التي حولت الاختلاف إلى جوهر, وعيًا بالتميز، بل إن كلمة ثقافة أصبحت تشيرعلى نحو مطرد إلى الاختلاف, وذلك نظرًا إلى أن مدلول الكلمة يغطي وقائع شديدة الغنى, والثراء, يصعب حصرها.
* (شاعر ومفكر مصري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24