الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: لعبة الكاشكاش

عبد الرحيم لعرب

2014 / 7 / 5
الادب والفن


كانت السماء ملبدة بالغيوم. الجو مليء بالعواصف التي تتلاحق في أنين جارف. هناك كانت تسكن عائلة مزارعة تتألف من أربعة إخوان. يحكى أن أبناءهم تفرقوا أيدي سبأ. أما الأباء فلا أثر لهم منذ نكبة بعيدة.
أكبرهم إسمه " آل حماد" و الثاني "حسني عبده" و الثالث "علال". ويقال أن أخاهم الرابع "ياسر" قد لازم الفراش مصابا بمرض خطير، وانقطعت أخباره في المستشفى البعيد.
أما الإخوان الثلاثة فكانت لعبتهم المفضلة والدائمة هي لعبة الغميضة" cache-cache " . يفنون النهار على طوله وأول الليل في هذه اللعبة المسلية. لا يغادرون حقلهم إلا لدافع ضروري جدا.
حدث مرة أن زارهم بعض الغرباء ذوي بشرة رومية ولهجة غريبة عن آذانهم. إنهم بشر من بلاد بعيدة. رحب بهم الإخوان الثلاثة...تبادلوا الترحاب، الأسماء والأماكن الأصلية. وأجلسوهم بجانبهم.
"دجيمس" يقطن في بلاد بعيدة جدا، ما وراء البحار. أما "دافيد" و "إسحاق" فقد سافرا من بلاد لأخرى هروبا من ويلات الحرب. وقيل أن سبب اجتماعهم هو تجديد المودة والصداقة في أرض الميعاد. وكان الميعاد محددا في هذا الحقل المخضوضر المزهر كرما وزيتونا.
جلس هؤلاء الغرباء تحت شجرة وارفة الظل قرب آنية تستعمل في لعبة الغميضة. استمر الإخوة في اللعب. أما الغرباء فأخذوا يتأملون في هذه اللعبة المسلية، ويلاحظون حركاتهم وقوانين لعبتهم بدقة.
تقدم "دجيمس" نحو "آل حماد" وطلب منه أن يدع له دور المفتش. سمح له بذلك ولكن دون علم الآخرين. سار ليختبىء إلى جانب أخويه "حسني عبده" و"علال". لكنهما تجنباه واختبئا عنه حتى لا يراهما، ظانين أنه هو المفتش. هكذا وهما في حذر يتسللان من شجرة لأخرى، يحاولان الوصول إلى الآنية حتى يفوزا عليه.
فجأة وقعا في الفخ! إذ وجدا أنفسهما أمام مفتش جديد، لم يكن في الحسبان. ضرب " دجيمس" الآنية على الصخرة معلنا انكشافهما، وفشل محاولتهما في الوصول إلى الآنية. انزعج الأخوان من تصرف "آل حماد". و بدءا يشتمانه بأقذع السباب، حتى خرج من مخبئه مضطرا. فانكشف هو الآخر. حينها حميت وطيس المعركة بين الإخوة الثلاثة. وتحولت المشادات الكلامية إلى شجار حقيقي.
"دجيمس" تدخل في صورة المصلح ذات البين. اقترح عليهم للخروج من هذه البوتقة بدء اللعبة من جديد بإشراك صديقيه "دافيد" و "إسحاق". ولأن الأخ لا يطيق أخاه، اختاروا إدماج هذه العناصر الجديدة في اللعبة. و كل واحد منهم يود أن تستقر حجرة القرعة في يد أخيه ليتسنى له الإنتقام.
دارت الحجرة دورتها بين اللاعبين، وأخيرا استقرت عند "علال". فانطلقت حينها ضحكات ساخرة لآل حماد و حسني عبده. أما الغرباء فابتسموا هازئين، وشجعوهم على هذه الحماسة التي تجعل من الغميضة لعبة مسلية جميلة.
جلس علال تحت الشجرة لبدء اللعبة، أغمض عينيه وبدأ يعد إلى العشرة. انطلق الأخوان صحبة الثلاثي الغريب وسط خميلة البستان، يدوسون على المزروعات والنباتات. ولما ابتعدوا عن أنظاره، أعلن دجيمس خطته للفوز باللعبة. فانطلق دافيد وحسني عبده نحو مكان كثيف الأشجار. وسار دجيمس وإسحاق في الإتجاه الآخر، رفقة آل حماد المتحمس للوصول إلى الآنية.
سأله إسحاق عن حماسته المفرطة ضد أخيه. فأجابه متعصبا:"أريد أن يبقى ذاك السلوقي ضحية هذه اللعبة".
ضحك دجيمس وقال له ساخرا: "حسنا ..حسنا.. تقدم نحو صديقي إسحاق..."
مافتئ يدير وجهه لتجديد السلام حتى وجد نفسه مدرجا بالدماء، خائر القوى لم ينبس ببنت شفة. أراد أن يصرخ لكن بلا جدوى. لم ير أمامه إلا سحابة رمادية اللون أغشت بصره، ثم خر بلا حركة.
في الجهة الأخرى لكز دافيد ظهر حسن عبده بشكل مفاجئ، لتصدر منه صرخة مجلجلة أثارت انتباه علال، الذي ركض نحو مصدر الصوت مسرعا للكشف عن وجوده وإعلان انتصاره. لكنه فوجئ من الجهة الأخرى بدجيمس واسحاق اللذان قرعا الآنية بقوة على الشجرة. وأعلنا فشل علال في اللعبة. مما سيحتم عليه وفق قانونها إعادة الكرة من جديد.
أغمض علال عينيه مرة أخرى، والحقد يأكله تجاه أخويه. تطايرت من فمه أرقام غاضبة. فرح حسن عبده بدوره بهذه الخطة البارعة لهزيمة علال، و إبقائه في دوره السيزيفي. انطلق مع الغرباء الثلاثة في إرقال وتبغيل على الأعشاب اليانعة. والترب تتطاير من تحت حوافرهم التاتارية، خطوات يتطاير منها الحماس. اختبؤوا في خميلة وارفة الظل، استلقى على الأرض ليداري نفسه عن عيون علال المتربص به. فجأة ارتمى عليه اسحاق ودجيمس، وألقيا عليه بكلكلهما، وبطعنة غادرة من دافيد خر صريعا مدرجا بالدماء كظبي معزول بين سرب من الكلاب المتوحشة.
تقدم دجيمس نحو علال، مبتسما كثعلب في زي الواعظين. و قال له : "لا تتغاضى عن رؤيتي.. أعرف جيدا أنك ترغب في توريط إخوانك..لا بأس.. هناك طريقة أخرى، دعني ألعب دورك، انطلق أنت للتمتع بدورك بهذه اللعبة الجميلة، نكاية فيهم."
انطلق علال كالسهم لاحتضان الغريبين ومباغثة أخويه. ليجدهما تحت أقدامهما جثتين هامدتين. تذكر حينها أفلام "الكوبوي". الأخوان هنود حمر ظلمهم المخرج. صورهم همجا متوحشين لا يستحقون الحياة ولو في شهر أبريل. الغريبان "الكوبوي" أبطال منقذون للبشرية من وحوش آدمية، موعودون بأرض جديدة. لم يصدق ما رأته عيناه. أحس بقشعريرة باردة ممزوجة بصعقة كهربائية ذكرته بطفولته المريضة.
حاول أن يتراجع إلى الخلف. حاول أن يدير جسده بسرعة لولبية كاملة. عجز كل العجز، كأن الأرض تشبثت بقدميه، تقبلهما، تتمسك بتلابيبه كي لا يفر ويتركها وحيدة مع الغرباء. بسرعة الشبح أو الميراج وقف وراءه دجيمس. ربما قرأ أفكاره قبل ورودها إلى ذاكرته. ربما يملك قدرة الحدس العنكبوتي أو قمرا صناعيا يراقب بلا رقيب...
ضحك دجيمس ساخرا، مربتا على كتفيه: " لا تخف يا علال، اسحاق و دافيد رجلان مسالمان، طيبان إلى درجة لا تتصور...أما أخويك فأنت أكثر الناس تود التخلص منهما... ألم يتشفيا في هزيمتك، ويسخرا من فشلك في لعبة صغيرة... إنهما لا يستحقان اللعب معك...لا يستحقان هذا الظل وهذه الأرض الندية التي أمامك..."
دخلت هذه الكلمات مع أذني علال باردة أو دافئة، اختلطت عليه الأحاسيس. كيف لا؟؟ ودجيمس أعلن السلام الدائم. اطمأن لكلماته المعسولة. التفت ليعانق اسحاق و دافيد. فجأة انقلبت كلمات الدفء و البرد إلى ألم جارف في أمعائه. الدم ينزف بلا توقف من فمه. عيناه تنظر إلى أشجار الزيتون والكرم والرمان، تتقلص أمامه مغشية بظلال الموت الزؤام. تذكر حكمة كليلة ودمنة ، قصة الثور الأبيض، التي حكتها لهم جدتهم وهم صغارا، وتعلموها في المدارس وهم كبارا. ترددت قربه ضحكاتهم المتقطعة و كلامهم الذي لن يفهمه أهل الجنة. تذكر شقاوة الطفولة وبراءتها حين كان الكبار يستدرجون الصغار بقطع الحلوى. تذكر ابن بلدته محمود الذي كان يتحدث عن أسطورة أناس يبحثون في أشلاء وطنهم عن وطن. وعلت وجهه ابتسامة أخيرة وخر ساقطا على صدره، بصوت خافت قد لا تسمعه إلا الأشجار والعصافير والتراب، ربما كما قال محمود هو الوطن حقيبة، أو ربما هو وطن مسافر حتما سيعود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??