الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فنجرة البق وملاعيب الكلام

السيد نصر الدين السيد

2014 / 7 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


"قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"
الإمام الشافعي

يقول لنا علماء الجينات ان أي كائن حي يحتفظ في كل خلية من خلاياه بوصف كامل لنفسه. ففي نواة كل خلية توجد جزيئات الدنا DNA التي تختزن وصفا تفصيليا لسمات الكائن الجسدية مثل لون العين، أو لون الشعر، أو الطول، وغيرها من السمات، او ما يعرف بـ "المادة الوراثية". وما ينطبق على الكائنات الحية بصفة عامة ينطبق أيضا على الانسان. وفى حالة الانسان يؤكد العلماء ان المادة الوراثية لشخص ما هي ما يميزه عن الآخرين فهي لا تتكرر إلا في حالات التوائم المتماثلة. لذا أطلق عليها اسم "البصمة الوراثية". الا ان الإنسان يتميز عن بقية الكائنات بامتلاكه بصمة اخري شبيهة بالبصمة الوراثية هي "البصمة الثقافية". و"البصمة الثقافية" هي مجموع ما يؤمن به الفرد من مسلمات وما يتبناه من قيم وما يمارسه من سلوكيات. وهو مجموع يتمسك به الفرد ويدافع عنه بإستماتة معتبرا إياه ممثلا لهويته المستقلة التي تميزه عن الآخرين ("لما اتفرقت العقول كل واحد عجبه عقله ولما اتفرقت الارزاق ما حدش عجبه رزقه"). وعلى الرغم من وجود البصمة الثقافية، بما تعنيه من اختلاف في الرؤى وتضارب في المصالح وتناقض في الافعال، نجح الانسان في إقامة كيانات اجتماعية فاعلة بدءا من الاسرة وإنتهاءا بالمجتمعات البشرية. وهنا يكون السؤال "كيف تمكن الانسان من تجاوز المعوقات التي تفرضها البصمة الثقافية على التعاون والعمل المشترك؟". والاجابة، في كلمة واحدة، هي "الحوار". وهي إجابة قد يدهش ايجازها الكثيرين. والحق أقول لكم انى اعذرهم في دهشتهم هذه فما يتابعونه من "حوارات مجتمعية" وما يشاهدوه من "برامج حوارية" تدفعهم دفعا لاعتبار "الحوار" شيء من قبيل "فنجرة البق" او "طق الحنك" وانه "جعجعة بلا طحن". ولكن الحوار الذي نعنيه هنا هو "حوارهم" هم وليس "حوارنا" نحن؟

عن حوارهم
في البداية تخبرنا المعاجم العربية ان "الحوار" ما هو الا "حديث يجْري بين شخصَيْن أو أكثر" وتكتفي بهذا. اما معاجمهم، مثل قاموس ميريام – وبستر Merriam – Webster، فتعرف الحوار بأنه "تبادل للرؤي بهدف اكتشاف موضوع ما او اتخاذ قرار في مسألة بعينها". وهناك امران يلفتان النظر في هذا التعريف. الأول هو نظرته للحوار بوصفه تبادل للرؤى لا تبادل للكلمات. والامر الثاني هو اضافته للهدف من الحوار في متن التعريف. وانطلاقا من وعيهم بأهمية الدور الذي يلعبه الحوار في تسيير شؤونهم لم يكتفي القوم بما جاء في معاجمهم من تعريفات فنظروا اليه بوصفه عملية من ثلاثة مراحل. واولى مراحل عملية الحوار هي "مرحلة الابتداء" التي يتم فيها تحديد المشاركين في الحوار واهدافهم هذا بالإضافة الى نوع الحوار والهدف منه. اما ثاني المراحل فهي "مرحلة التجادل" Argumentation التي يطرح فيها كل طرف من أطراف الحوار حججه واسانيده التي تعزز وجهة نظره ويرد فيها على استفسارات وانتقادات واسئلة الطرف الآخر. وتنظم خطوات هذه المرحلة مجموعة من القواعد الاجرائية التي تحدد المسموح به في كل خطوة. وتتضمن آخر مراحل الحوار، "مرحلة الإتمام"، تقييم أطرافه لما تم التوصل اليه ودارسة كيفية تحقيقه في الواقع. وهكذا يتحول الحوار من مجرد تعريف ساكن في معاجم الالفاظ الي عملية منضبطة، ومن مجرد عمل تحكمه الصدفة الى فعل مقصود يسعي لبلوغ هدف محدد.

وبالطبع يفترض الحوار "استعدادا مبدئيا ومعلنا ومقبولا من كل طرف لقبول حجة الطرف الآخر إن أصابت موقع الحقيقة وكبد الصواب. والحوار يفترض قبول كل طرف لتعديل مواقفه التي كان عليها قبل بدء الحوار إلى مواقف أخرى جديدة يثبت الحوار صدقها". أي أن "غاية الحوار هو بناء موقف جديد أكثر تقدما ونضجا وعقلانية من الموقف الفكري السابق على الحوار" (فرحات, 1997) ص. 7-8).

الحوار في الميدان
الحوار عندهم ليس لعبة لغوية لتبادل الكلمات بل هو آلية يستخدمونها لإدارة الواقع المعاصر فائق التعقد بتنوع مكوناته وتشابك علاقاته وتسارع احداثه. ويتطلب التعامل مع هذا التعقد اشكالا مختلفة من الحوار سنعرض لأربعة منها هي: "الاقناع" Persuasion و"التفاوض" Negotiation و"الاستقصاء" Inquiry و"التشاور" Deliberation (Walton, 1989). ونقطة الانطلاق لأول هذه الاشكال، "الاقناع"، هو وجود تضارب في الآراء التي يتبناها كلا من طرفي الحوار الذي يسعي كل منها الى اقناع الطرف الآخر بصحة موقفه. والهدف من هذا النوع اما يكون تجاوز أوجه التعارض او زيادة إيضاح كل رأي. وإذا كان "تضارب الآراء" هو نقطة البداية لحوار الاقناع فإن "تضارب المصالح" هو نقطة البداية لثاني هذه الاشكال، "التفاوض". وفي هذه الحالة يسعى كل طرف الى تعظيم استفادته من الصفقة (المسألة) موضوع التفاوض. وهدف هذا النوع من الحوار هو الوصول الي تسوية ترضي كافة الأطراف.

ولعل اهم ما يميز ثالث اشكال الحوار، "الاستقصاء" الذي يهدف الي زيادة المعرفة المتعلقة بشيء ما، هو تعدد اطرافه. وزيادة المعرفة في هذا السياق تعنى صياغة الفروض الصحيحة التي تدعمها شواهد من الواقع. ويعتبر إيجاد هذه الشواهد والتحقق من صحتها هو هدف كل طرف من أطراف الحوار. وأخيرا يعتبر وجود مشكلة تتطلب اتخاذ قرار بخصوص ما يجب عمله هو نقطة البداية لرابع اشكال الحوار، "التشاور" الذي تتعدد اطرافه. لذا يعتبر الاتفاق على أفضل الطرق للتعامل مع هذه المشكلة هو الهدف الذي يسعى لتحقيقه التشاور. وهو أيضا شكل الحوار الذي يهتم بالتخطيط لما يجب ان نفعله في المستقبل.

والآن وبعد استعراض امثلة لبعض أشكال الحوار السائدة عندهم نتساءل عن الأشكال السائدة عندنا. ولا تتطلب الإجابة على هذا السؤال جهدا فالسائد لدينا هو "السجال" الذي غايته "هدم أفكار الطرف الآخر، ولابديل عن ذلك، ودون ذلك الحرب والخصومة والقتال" (فرحات, 1997) ص. 8).

وفي النهاية ارجو ان أكون قد أسهمت في إزالة بعضا من دهشة المندهشين لتبقي كلمة أخيرة اختتم بها هذا المقال ة وهي "تحاورا ترتقوا".

المراجع
Walton, D. 1989. Dialogue Theory for Critical Thinking. Argumentation, 3(3): 169-184.
فرحات, م. ن. 1997. البحث عن العقل: حوار مع فكر الحاكمية والنقل. القاهرة: دار الهلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض ضغوط عضو مجلس الحرب بيني غانتس لتقديم خطة واضحة


.. ولي العهد السعودي يستقبل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سو




.. جامعة أمريكية تفرض رسائل اعتذار على الطلاب الحراك المؤيد لفل


.. سعيد زياد: الخلافات الداخلية في إسرائيل تعمقها ضربات المقاوم




.. مخيم تضامني مع غزة في حرم جامعة بون الألمانية