الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرقة بين استبدادين..والفرات شاهد على الألم !

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

(Abdulrahman Matar)

2014 / 7 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


شعرت بحنقٍ يعصف بدمعتي، ويملأ مقلتيّ. كانت صورة الفرات أمام ناظريّ متلألئة بأنوار زرقاء تزين الجسر الجديد. الحياة تدب في الصورة هذا الصباح، وانا متسمرٌ في مقعدي أمام الطاولة، بنوايا الكتابة عن هذا اليوم بالذات:25 حزيران 1985. لكن الأخبار المتوالية عن الغارات الجوية والقصف الذي يتزايد على الأحياء السكنية في المدينة، وينثر الموت والخراب، لم يترك لي فرصة في الذهاب الى حيث أسعى منذ ايام.
الرقة على بعد حنين، و ضلوعي منهكةُ بجمرة القلق، كان مايدفق قبل سنوات، تحفّه الخضرة، يميل نحو الجفاف أو قليلاً.. لكنه شديد الحزن جداً واهن انسياب الروح في مجرى الأحلام والحكايات. زحفت الحصى إلى ضفتيه، ونبتت الرمال السود. لم يكن الفرات في مسربه الطويل محظياً بالعناية، يدخل البلاد كعاشق..لكنه يلقى الصدود..لم تظلل ضفتيه الحدائق ولا الزهور..وكان الألم يسكنه أكثر فأكثر..
فوق إحساسه المرّ بالإهمال..كان ثمة ما يضنيه ويلوي الموج الليّن على جوفه، فيئن من وطأة الريح التي كمدت عند قدميه هذا الصباح.
يغطي الأحمر صفحة الماء..كان محيراً ما قاله الكاتب محمد جاسم الحميدي أن " الدم ليس أحمر "..لستُ أذكر الآن..ماكان يعنيه تعبيره الأدبي، قبل نحو ثلاثين عاماً. يتداخل الدم مع الماء والهواء هنا، كأنه السراب الذي يضفّر المتاهة التي مشينا بخطانا إليها..وتركنا على الحافة انكسارنا وبؤس كلماتٍ لم تثمر بسقيا الفرات، لكنها لم تمت!
منذ الصباح تغير الطائرات على المدينة، وليس ثمة من يردع عن اقتراف الموت..الجحيم مفتوحة أبوابه السبعة، لسبع غارات قذفت حممها فوق البيوت الآمنة، واختطفت ابتسامات الأطفال والأمهات..رغم قسوة العيش وضنك الحياة، في ظل إمارة استبداد جديدة، تخلف طغاةً تركوا تعاليمهم محفوظة في ألواح الشر، في ضلوع الرايات السود، وخفقات رصاصاتها التي تجندل أبناء الحرية وطلاّبها السّادة، أو تختطفهم!
الاختطاف- أيضاً - هو فعلٌ اتسمت به قبل داعش "دولة طاغية دمشق" ، التي أمّرَ عليها الأسد الأب، جزّارين أمنيين، لم يتركوا جرماً بحق السوريين دونما اقتراف. زائرالفجر، صورة قديمة أصبحت من الماضي. دشّن خدَمُ نظام "البعث – الأمني/ الأسدي" مرحلة جديدة بالإعتقال والاختطاف في وضح النهار، ومن الطرقات المزدحمة، أو مقار العمل والجامعات والمدارس، وأبواب المعابد. عشرات الآلاف من السوريين لم يطرق بابهم زائر الفجر، لم تكن لدى أجهزة الأمن أية مشكلة في الاختطاف والإعتقال، فالوقت متاحٌ استباحته في كل ظرفٍ. كما أنها غير معنية بسرية المهام تلك، وحدث كهذا، فإن انتشاره هو دفع للناس مكرهين وجلين نحو الطاعة والإنحناء والتفكير بمصير مماثل، عن لم يكن أشدّ.
المدن السورية اليوم، سوريا مختطفة ومقيّدة، وسجّانها يستزيد كل وقت خراباً. ألماً على المٍ تنثني البلاد على جراحاتها التي لاتنضب ولا تجّف مع المغيب دماها. هناك الضحايا مثل أوراقٍ تمرّ على صفحتها الريح باردة، فتحترق من جمر عذابات أيامها الأحلام.
هناك..ظل الفرات شاهداً وشارداً بمرارة وحدته، فلم يعد عشاق نسائمه، يحثّون الخطى إليه كي يبادلهم الأسرار وحكايا الهموم، ما عاد أحدٌ هناك يقوى على بثّ المواويل، وعطر الخزامى بين أغصان "الغرب" المثقلة بالأسئلة، على ضفته الحيرى!
كنت هناك قبل نحو ثلاثين عاما، كهذا اليوم 25 حزيران 1985، أذكر انه الثلاثاء- ربما- الأخير من رمضان، تدرّجت الهوينا عابراً الجسر العتيق، باتجاه المدينة أنا ورفيق أيامي الغابرات " جمال الغرسي ". لم نكترث لاقتراب موعد الافطار، شهدنا عبوره في حديقة الرشيد، ونحن مشغولان بأنفسنا وحكايات ما، أذكر أطراف بعضها. لبثنا وقتاً قصيراً، ثم أخذنا الدرب باتجاه بيوتنا القريبة.
ضغطتُ جرس البيت بلطفٍ وأنا أفتح الباب وأدخل، كان سعيد القادم من دمشق، مضطجعاً – كعادته – يكمل إفطاره. نهض كي نتعانق..لم يكمل نهوضه حقاً..حتى كان جرس الباب يرنّ بشدة طويلة، متقطعة ثم طويلة، لاصبر فيها لمنتظرٍ! غضبتُ لمن يأتنا هكذا الآن. قلتُ واستدرتُ نحو الباب، فانهمرت على البيت جموعٌ مسلحةٌ، دفشتني جانباً ذاهلاً، وغير مدرك للحظةٍ أولى مالذي يجري.
دخل عناصر مفرزة الأمن العسكري ببنادق كلاشينكوف، مثل جرذان هائجة، انتشروا فوق السطح، في أرض الديار، والغرف، استباحوا البيت دون اعتبار لوجود نساء أو حرمة، او أنه رمضان. كانت عائشة في المطبخ ولم تدر بمايحدث، ما أن رأت المشهد المسلّح أمامها، وقعت صينية الشاي من يديها، وأغمي عليها في الحال. أما امي فقد تماسكت بصبر لامثيل له، وهي تحاجج الرعاع!
سألنا واحداً واحداً عن أسماءنا، وحين تعرّف إليّ أمسك بساعدي وجرّني بقوة الى الخلف، وأمرني بعدم التحرك وأمّر عليّ مسلحاً. الزاوية التي حصرني فيها، هي ذاتها التي كان أبي يجبرنا على الوقوف فيها عقاباً على ما نقترفه، لكنه كان يمضي الى طاولته وكتبه، دون أن يُعِرْنا اهتماماً..حسبه الإنذار والتحسيس بالخطأ.
أستعيد إحساسي بالقلق الذي تضاعفت فيه دقّات قلبي، شعرت بأن القفص الصدري كلّه يضرب بشدّة، وببرودة خفيفة تسري في جسدي، وأن شعر رأسي وساعديّ قد وقف حقاً. ثمة دوار وغشاوة غطت عيوني للحظات، ألمّت بي قبل أن أستعيد قدرتي على متابعة مايجري في بيتنا. حرّك مسلّح بندقيته نحو سعيد حين تحرّك واقفاً فجأة، فأجلسته أمي ورفعت صوتها صافياً قوياُ وبلا خوف: من أنتم..ماذا تريدون !
استمرت عملية التفتيش لكل ركن، ولكل أريكة وكتاب، وطنجرة..مايزيد على الساعة، أُدخلت خلالها الى غرفة المكتبة. بعثروا كل مكان عبروه، قلبّت أصابعهم كل شئ وصلت إليه، وعبثت به. كان المسلحون يفتشون برعبٍ كنتُ ألمسه في عيونهم وفي حركتهم، وطريقة تفتيشهم. لم يكن اسلوب حذرٍ..بل خوف! أما فقد كنتُ خائفاً أن يعثروا على أي شئ في طيّات الكتب، مما كنت أخبئ بين الصفحات. في المكتبة كان كتاب " في ظلال القرآن " يجاور كتب لينين وماركس، وكتاب " القحط " لهيثم الخوجة، وفلسفة اسبينوزا، وديوان ابن الفارض و نزار قباني. كانت المكتبة خليطاً معرفياً متنوعاً تتجاور فيها الأفكار والانتماءات، كما هي حياتنا.
سحب عنصر الأمن أورقاً مطبوعة، كان يحتفظ بها والدي كواحد من علماء وشيوخ الطريقة النقشبندية. وضعها على الطاولة أمامي وهو يجمع كتباً وأوراقاً فوق بعضها. اقترب عنصر آخر وسحب من زاوية المكتبة دفتر الهواتف خاصتي، كان بحجم الكف..قلّبه وأنا اتابعه بنظري خفيةً..ثم دسّه في جيبه، فغضضتُ النظر.
أخرج المسلحون ما تمّ جمعه، واعطى رئيسهم، إشارة انتشار جديدة لعناصره، قُيّدت ياداي إلى خلف ودفعت نحو الباب..فالشارع وكان يحيط بي المسلحون الذين كانوا يزدادون، ويجيئون من أطراف مختلفة، كانت الحارة مغلقة تماماً، والبيوت المجاورة لبيتنا، اللصيقة به محتّلة تماماً من قبل الأمن العسكري، منذ قبيل الإفطار، تحسباً لاعتقالي.. كانت سيارة الدودج – بيك آب الحمراء على الباب في انتظاري..وسيارتان أخريتان. دفعت جانب السائق..وتحركت السيارة بهدوء، كأنها في استعراض، فيما بدأ أهالي الحيّ بالخروج أمام ابوابهم والتطلع عبر النوافذ التي أشرعت..بعد خروج الأمن المحتل لبيوتهم!
ومضى بي الموكب، الى مفرزة الأمن العسكري المجاور لكنيسة الشهداء، في شارع يحيى الرغيب. نزلت من السيارة، ووقفت ووجهي الى الجدار الأصفر، لأقل من دقيقةٍ، ربطت إثرها قماشة سوداء على عينيّ، وسحبني الى الداخل. كان ثمة نصف درجة تعثرت بها، فمنع عنصر الأمن سقوطي وهو يقول لي: لاتخف.. وبعد خطوة واحدة تركني وأمرني أن أتقدم.. ولم أفق بعد لحظات سوى أنني مكوّم على الأرض مثل كيس من الخيش، بعد أن دفعني بكلتا يديه بقوة الى المجهول..الى جحيم الرائد عزيز " أبوفادي " !
قبل أيام خلّفت طائرات الأسد مايزيد على ثلاثين شهيداً، عشرات الجرحى، وكثير من الدمار الذي شرد الأهالي. كانت بشاعة الخراب تماثل تماماً أفعال الفاشية الاستبدادية الداعشية، التي ستعلن لاحقاً دولة الخلافة، في مدينة أطفأ الحزن والألم جذوة الأمل بالحرية..لأنها تُركت وحيدة. ولم يعد الفرات يدفق..كما كان، حين تركناه ومضينا عنه بعيداً.
__________
كاتب من سورية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض ضغوط عضو مجلس الحرب بيني غانتس لتقديم خطة واضحة


.. ولي العهد السعودي يستقبل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سو




.. جامعة أمريكية تفرض رسائل اعتذار على الطلاب الحراك المؤيد لفل


.. سعيد زياد: الخلافات الداخلية في إسرائيل تعمقها ضربات المقاوم




.. مخيم تضامني مع غزة في حرم جامعة بون الألمانية