الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يموت الآباء، فنموت معهم وإن بدا غير ذلك

أحلام طرايرة

2014 / 7 / 6
سيرة ذاتية


تغدرنا الحياة، تغدرنا كثيرا. ونتقبل غدرها كسُنّة، كجزء لا يتجزأ من عقد وجودنا عليها. لكننا نرفض ثم نرفض ثم نرفض أن تغدرنا في آبائنا. هي فكرة ليست واردة، وبندٌ لا نوقّع عليه. حتى وإن أخذنا ذلك سنيّ دنيانا كلها، نبقى معتصمين خلف أسوار برلمانها ومطبخها السرّي نرفع لافتات: لا نسمح لآبائنا أن يموتوا؛ لا لموت الآباء؛ الآباء خط أحمر لا يمكن تجاوزه...

وهي- الحياة- بكل صفاقة، لا تأبه بنا وبرفضنا وبوجودنا كله، فتضربنا- أينما ووقتما شاءت- في أعمق مقتل، ذاك الذي ظننا ضلالا أن لا يد غدر تطاله أيا كانت درجة خبثها. تضربنا هناك حيث لا عزاء ولا شفاء ولا حياة بعده.

لا عزاء في أن يموت والدك وأنت في الثلاثين فيما مات آباء لآخرين وهم لم يتجاوزوا طفولتهم بعد. لا عزاء في أن يموت أباك وقد ترك لك بيتا وأرضا وثروة فيما مات آباء آخرين فقراء تاركين من خلفهم معوزين. لا عزاء في أن تتزاحم حشود من الناس في جنازة والدك وميتمه وأن تمتد صلاة جنازته لأكثر مما ينبغي لأن الإمام لم ينتهِ من ذكر مآثره بعد فيما يموت آباء آخرين بصمت موحش. لا عزاء في أن يموت أباك وهو راضِ عنك فيما يموت آباء لآخرين غاضبين حزانى. لا عزاء في كل ذلك. لا عزاء عندما يموت الأب. هذه لافتة أخرى على المغدورين في آبائهم أن يرفعوها احتجاجا على كل محاولات التعزية والمواساة التي يغرقون فيها بعد فجيعتهم. لا عزاء عند موت الأب وكفى.

لا شفاء من موت الأب. قد يقولون بعد عام؛ بعد عشرة؛ بعد عشرين؛ بعد مائة عام. قد يقولون لا يزال جرحنا أخضرا ولهذا نظن أننا نقول باللا شفاء. لكنني لا أعرف أحدا شفي من مصابه بأبيه. لا أحد، وإن بدا غير ذلك، وإن ادعى غير ذلك. موت الأب جرح لا يلتئم وإن اجتمعت الإنس والجن على أن يقولوا بغير ذلك، هو لا يلتئم.

تروي عمتي الأرملة منذ ما يزيد عن العشرة أعوام والتي أنجبت ابنتها الأخيرة بعد خمسة شهور من موت زوجها أنها وجدت رسائل سرّية تكتبها طفلتها لأبيها تقول فيها أنها تمنّت لو أنه عاش فقط ليوم مولدها، ليعرفها على الأقل، ليعرف أن له ابنة صغيرة، ليحملها بين يديه فتستطيع أن تقول لصديقاتها اليوم أنها كانت في حضن والدها يوما. هذا ما يتركه موت الأب. لا شفاء حتى لأولئك الذين لم يعرفوا آباءهم يوما. لا شفاء لنا من موت آبائنا وكفى.

لا حياة لنا بعد آبائنا. يخيّل إلينا- أحيانا- أن الحياة وقحة لدرجة أنها تستمر بعد موت آبائنا. لكنها لا تستمر. الحياة بالمعنى الحقيقي للحياة هي أن تستمع لصوت أنفاس والدك في ذبذات الهواء أينما ذهبت وحتى آخر نفَس لك. الحياة هي أن يكون لأبيك حصة في الهواء الذي تتنفسه حتى آخر نفَس لك. الحياة هي أن يشهد والدك كل نجاحاتك وخيباتك. أي نجاحات تظن أنك محقق بعد موت والد؟ أي خيبات ستنهض منها بدون يد والدك؟

هذه الأنفاس التي تأخذها أنت بعد موت أبيك ليست إلا خيالات. أنت يتيمٌ منذ اللحظة التي يموت فيها والدك، صغير كنت أم كبير؛ غنيّ كنت أم فقير؛ عظيمٌ كنت أم حقير. في اليتم، يتساوى الجميع، ولا حياة في اليتم، حتى وإن بدا لك وللآخرين غير ذلك. لا حياة في اليتم وكفى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 7 / 6 - 18:03 )
قال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) .


2 - تعزياتي الحارة لك ِ
نضال الربضي ( 2014 / 7 / 7 - 07:48 )
كل كلمة كتبتيها تصرخ بالألم و العجز و الخوف و الغضب، و الحب يلفها جميعا ً.

المقام لا يسمح أن يطول المقال، تعزياتي الحارة لك ِ و أتمنى السلام لقلبك ِ.

أفهم ما تقولين.


3 - شكرا سيد نضال الربضي
أحلام طرايرة ( 2014 / 7 / 8 - 08:49 )
شكرا سيد نضال الربضي لكلماتك. لا أراكم الله مكروها بعزيز

اخر الافلام

.. بوتين يكشف عن مقترح روسي لـ -سلام واقعي- في أوكرانيا


.. قمة سويسرا للسلام.. حشد دولي كبير في محاولة لعزل روسيا




.. حرائق إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا جنوب لبنان


.. بعد سنوات من التخطيط.. مسار ركوب الأمواج الاصطناعي يفتح أبوا




.. حصاد ثقيل لسبعة عشر عاما من حكم حماس في قطاع غزة | #نيوز_بلس