الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقفون: الحلم العراقي وهوية الدولة

سعد محمد رحيم

2014 / 7 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


إن مسار ما يقرب قرناً من الزمان، وهو تاريخ الدولة العراقية الحديثة، ممهور بآثار دماء غزيرة سالت فيه وطبعته بطابعها. وتتبّعها يلقي ضوءاً باهراً على إشكالية تكوّن تلك الدولة.. وهو تاريخ ليس شاذاً تماماً إذا ما قورن وقيس بتواريخ دول/ أمم أخرى ولدت في هذه المنطقة وفي أمكنة أخرى من العالم.. فبدءاً تمخضت هذه الدولة من حربين دمويتين؛ الأولى هي حرب الإنكليز ضد العثمانيين لاحتلال العراق، أما الثانية فتمثلت بثورة العشرين.. ومن ثم كانت هناك الانقلابات العسكرية المتتالية، وزج الجيش في القتال ضد الجماعات المتمردة والمكونات الأثنية التي رفضت الخضوع للاستبداد.. فضلاً عن حرب الثماني سنوات مع إيران ( 1980 ـ 1988 ). وبعدها مغامرة غزو الكويت 1990، وحرب التحالف الدولي في الـ 1991 لتحريرها، وما تبعهما من حصار دولي خانق وقاتل. فمهّد ذلك كله لحرب احتلال العراق 2003، والفصل التراجيدي الدامي من الاقتتال الأهلي منذ ذلك الحين، وانتعاش المافيات والمجموعات المسلحة والإرهاب المغذّى عبر قنوات استخباراتية خارجية، ومصالح جماعات داخلية تفتقر إلى أبسط مقومات الولاء للوطن ومستقبله.
في هذه الدوامة الوطنية الشائكة، الممزقة بالنعرات وصراعات المصالح، والمثقلة برائحة البارود والدم، أين يمكننا تعيين موقع الهوية الوطنية العراقية، وكيف لها أن تتجسد في دولة جامعة، حقيقية؟. وأيضاً، ماذا يمكن أن تكون هوية هذه الدولة؟.
قد تبدو أسئلتنا، القابلة للتشعب والتمدد، للوهلة الأولى، مباشرة ومكررة، وربما في عرف بعضهم، سطحية. غير أن ما يحدث الآن من فصل دموي جديد يُراد له، في بعض وسائل الإعلام، وفي طروحات جهات وفئات ومؤسسات خارجية وداخلية، وبقصدية، أن يكون ذا طابع طائفي وعرقي مآله تقسيم العراق، يفرض علينا إعادة طرح ذلك السؤال الابتدائي الحاسم، مع تنويعاته التي تنبِّه إلى إشكاليتنا الوطنية القاسية.
لم تتعرض الهوية العراقية للتشكيك ومحاولات التقويض خلال العقود العشرة الأخيرة مثلما تتعرض له في وقتنا الراهن. وإذا كان مرد ذلك إلى حسن النية عند بعضهم وتخوفهم على مصير كيان جيو سياسي مثّل، فيما مضى، مبتدأ حضارة البشر ومدنيتهم، فإن منطلق بعضهم الآخر هو سوء النية بالتأكيد.. ويمكن القول أن الدولة العراقية تقف في مواجهة التحدي الأخطر في تاريخها، وهو تحدٍ مركّب أضلعه هشاشة المؤسسات والبنى القانونية، وغياب الفلسفة الوطنية الجامعة عند النخب السياسية، والإرهاب والفساد، ناهيك عن الفعل الاستخباراتي واللوجستي الخارجي والدعايات المضادة.
لا يمكننا تصور وجود دولة ذات بنية صلبة في عالمنا المعاصر، لاسيما تلك التي يتسم مجتمعها بالتنوع العرقي والمذهبي والطائفي والثقافي كالعراق، من دون توطيد القواعد الخمس التالية:
1ـ الطابع المدني.
2ـ مبدأ المواطنة.
3ـ ديمقراطية الحكم، والتداول السلمي للسلطة.
4ـ المجتمع المنتج، والتنمية المستدامة.
5ـ العدالة الاجتماعية.
وكلما افتقدنا لواحدة من هذه القواعد أو أكثر يختل الاتزان، وتتوالد الأزمات، وتكثر التخندقات، وتنتعش جيوب التخلف والظلام والعنف في الداخل، وتبرز الثغرات التي منها تنفذ القوى الخارجية المتربصة.
بدأ المجتمع المدني في العراق بالتبلور منذ أواخر العهد العثماني، أي في العقود القليلة التي سبقت تأسيس الدولة 1921، غير أنه لم يحصل على صورته الواضحة، ولم يكتسب أبعاده الوظيفية، إلا في ظلها، حتى وإنْ لم يكن على وفاق تام معها.. وجاء تبلوره مع انتشار التعليم والصحافة، وتشكيل الجمعيات ذات الطابع الثقافي والسياسي. وراح يتسع وتترسخ دعائمه مع اكتشاف النفط والتحولات الاقتصادية وازدهار التجارة وتكوّن طبقة عاملة، فضلاً عن طبقة وسطى مدينية، وغالباً ما تعزز هذا كله بأفكار تنويرية باتت متداولة بين الأوساط المتعلمة والمثقفة.
إن الضمانة الأولى للديمقراطية هي نمو مجتمع مدني فعال والقبول العام بمبادئ التعايش والتعددية والتسامح. وهذا لا يحصل إلا في ظل مناخ سياسي اجتماعي صحي وعبر تربية اجتماعية ورسمية، وثقافية وإعلامية، فضلاً عن وجود أرضية قانونية صلبة تضمن حقوق الجماعات المختلفة من جهة، وحقوق كل فرد من جهة ثانية. فبغياب البنية القانونية ومؤسسات الدولة الحامية لتلك الحقوق، وضعف المجتمع المدني سيحصل انقسامات متسلسلة ليس بين الجماعات فقط، ولكن حتى داخل الجماعة الواحدة نفسها، وداخل المنطقة الجغرافية نفسها. فالحريات إن لم تُمأسس وإن لم تُقونن ستغدو فوضى لا أول لها ولا آخر، لاسيما في البلدان التي لها تاريخ طويل، كتاريخنا، من القمع والاستبداد، وغياب التقاليد الديمقراطية، وطغيان الأمية، وتسيّد مؤسسات المجتمع الأهلي.
واليوم يغدو رهان الثقافة العراقية الأكبر في تقوية المجتمع المدني، لا من أجل معادلة المجتمع السياسي وحسب وإنما في مواجهة ذلك الجزء من المجتمع الأهلي بمؤسساته الما قبل الدولتية والمعوِّقة لبناء دولة مؤسسات ديمقراطية عمادها سلطة القانون والحريات العامة، ومبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية.
ليس العراق وحده من يحوي هذا التنوع العرقي والطائفي الواسع، وليس وحده من يحمل على عاتقه عبء تاريخ مضرج بالدم. وأيضاً ليس وحده من تعرض تاريخه لانقطاعات، وجغرافيته السياسية لتمزقات، ومجتمعه لصدمات متتالية. وقد استطاعت بلدان كثيرة تجاوز اختناقات وصدمات واقعها ومآزقها التاريخية بالنظر إلى الأمام، وجعل صورة المستقبل المحلوم بها في بؤرة اهتمام الأفراد والجماعات والنخب.
لا تكفي الشحنة العاطفية والوجدانية العالية لترصين أسس الهوية الوطنية على الرغم من أهميتها القصوى، بل هي بحاجة إلى تمثلات وعي، وتجسيدات على الأرض؛ وهي التي تنبثق في صورة دولة/ أمة، تبدأ بحلم في نفوس وضمائر وعقول أنتلجنسيا ونخب سياسية تتوافر على شرط الإرادة الحرة، والنظر الواقعي إلى معطيات التاريخ والجغرافية السياسية. وهذا كله ينصهر في صيغة مشروع مجتمعي وبرنامج سياسي يمكن تحقيقه.
تبدأ المشكلة حين تغدو الدولة نفسها عائقاً أمام المشروع بدل أن تكون وسيلته والتجسيد التاريخي له. وهذا يحدث، في الغالب، حين لا تجعل الدولة من أولوياتها تأصيل قيم المواطنة والعدالة والتسامح. وكانت هذه غائبة، بنسب متفاوتة، في سياسات وممارسات الحكومات المتعاقبة التي أدارت تلك الدولة منذ العام 1921.
الهوية الوطنية، بمعايير حقبتنا التاريخية هي لحظة عليا في زمن التحضر والرقي، وعلامة على خروج الإنسان من جاهليته السياسية، ومن نزعته المتعصبة العمياء عبر تفضيل هوياته ما قبل الدولتية؛ تلك التي تستحيل في أوقات الأزمات إلى هويات خائفة وقاتلة في الوقت نفسه.
إذا قلنا أن خارطة العراق بترسيمتها وحدودها الحالية الدقيقة هي مستحدثة فإن خرائط معظم دول العالم، ومنها دول منطقة الشرق الأوسط، في وقتنا الحاضر لم تكن، قبل مائة سنة، وحتى أقل من ذلك، مثلما هي عليها اليوم. فمن الظلم إذن الحديث عن حتمية تقسيم العراق بحجة كونه كياناً سياسياً ملفقاً. العراق الذي هو تشكّل تاريخي يمتلك إرثاً حضارياً ضخماً، ويمتلك مقومات وجوده واستمراريته، ولكن بشروط يفرضها الواقع والمرحلة التاريخية ودواعي المصلحة العليا للمجتمع ومكوِّناته، وليس لبعض جماعاته أو طبقاته المحدودة، أو لفئات انتهازية من نخبه.
لا يترسخ الشعور العام بالهوية الوطنية بقرارات فوقية ولا بالنصائح والمواعظ، وإنما بالتنمية الثقافية، وبممارسات على الأرض، وبمنجزات سياسية واقتصادية على الصعيد الوطني تصبح مصدر فخر واعتزاز عند أفراد المجتمع كافة. من هنا نفهم لماذا يوحِّد فوز الفريق الوطني لكرة القدم مكونات المجتمع وجدانياً، فيما يمزقها الإعلام الفئوي، والديماغوجيا السياسية، والخطاب والتحشيد الطائفيين.
ما يتعرض له العراق التاريخي اليوم هجومان، يتخذ أحدهما طابعاً عنفياً مخيفاً يعكس صورة إرهاب متعدد الوجوه، والاتجاهات، هدفه تفتيت اللحمة الاجتماعية الوطنية ومن ثم تقسيم البلد على أساس عرقي وطائفي ومناطقي. وهذا الجانب لست بصدد توصيفه الآن. ويتخذ الثاني شكل خطاب سياسي وإعلامي يسعى للفتك به ( بالعراق ) كياناً تاريخياً وحضارياً وواقعاً جيو سياسياً على الأرض، ومجتمعاً ودولة ومستقبلاً. والهجومان معاً يتعاضدان، وهما يصدران لا من مركز واحد/ مؤسساتي واستخباراتي خارجي أو داخلي فحسب، وإنما من مراكز متعددة تبدو أحياناً متناقضة أو متصارعة.
تشكّل العراق الحديث باستلهام سردية تضرب جذورها عميقاً في الذاكرة الجمعية لأولئك الذين عاشوا في ضمن الحدود التي سميت منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ببلاد ما بين النهرين؛ سواءً كانوا من أحفاد البناة الأوائل، أو مِن أحفاد مَن هاجروا إليها واستقروا في أرضها وصاروا جزءاً عضوياً من نسيجها الاجتماعي.. وتعززت صورة العراق في ضمائر الناس ووعي المثقفين.. في الفنون والآداب والفلسفة وعلوم الإنسان، لاسيما خلال القرن الأخير، حين تمفصلت فكرة النهضة والتنوير بصيغتها العراقية مع حلم تأسيس الدولة الحديثة، وبلورة هويتها السياسية. وقد اقترنت سردية الاثنتين ( النهضة والدولة ) بعضها ببعض. ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجدت عملية التمفصل تلك تمثلاتها في وعي النخب الثقافية ونتاجاتها في حقول الفكر والمعرفة والإبداع. من هنا يمكننا استجلاء مضامين تلك السردية وروحها في مقالات المفكرين وعلماء الاجتماع والمؤرخين ودراساتهم، كما في نصوص الشعراء والقصاصين والروائيين، وأعمال المسرحيين والسينمائيين والفنانين التشكيليين.. ولم تتحقق تلك التمثلات نتيجة هوى رومانتيكي وتخيلات بقدر ما نبعت من قراءة موضوعية متفحصة كانت صورة العراق المستقبلي حاضرة فيها بوصفها إمكانية تاريخية قائمة، إلى جانب صورة العراق الحضاري بوصفها مرجعاً تاريخياً وملهماً للعمل والتقدّم. فيما التوتر الحاصل بين صورة الدولة/ الحلم والنهضة المأمولة المصاحبة لها من جهة، وشكل الدولة/ الواقع وحال المجتمع من جهة ثانية بقي يحفِّز الإنتاج المعرفي والأدبي والفني والنقدي العراقي عاكساً حالة الصراع الجدلي الخلاّق ذاك.
ليست الهوية الوطنية ( مثلما هي الحال مع أية هوية إنسانية أخرى ) جوهراً نهائياً ناجزاً.. صحيح أن فيها ما يمتح من الماضي، لكنها تستمد نسغها من الحاضر وضروراته أيضاً، وتغتني بالتجربة الإنسانية المشتركة للبشر من حاملي تلك الهوية، وتتأصل.. وعلى المثقفين العراقيين، اليوم، أن يدركوا حقيقة أن هذا التحدي يمثل المعركة الفاصلة في دفاعهم عن العراق التاريخي، والعراق الحلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هكذا علقت قناة الجزيرة على قرار إغلاق مكتبها في إسرائيل


.. الجيش الإسرائيلي يسيطر على الجانب الفلسطيني من معبر رفح




.. -صيادو الرمال-.. مهنة محفوفة بالمخاطر في جمهورية أفريقيا الو


.. ما هي مراحل الاتفاق الذي وافقت عليه حماس؟ • فرانس 24




.. إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على «موقع الرادار» الإسرائيلي| #ا