الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بكائية للقامة العتيدة

سعيدي المولودي

2014 / 7 / 7
الادب والفن


بكائية للقامة العتيدة
.. دون أن تلتفت ذلك الصباح، أو تتمهل قليلا، كنت تمضي إلى أقصى الكون واثقا من الطين ،تنقل خطوك القديم حيث تشاء، تعبر الضفة، الشارع، المدينة والقرية الشاحبة لوطن أصفى، لقيامة تأتي لميلاد يرفرف كالحضن، لوطن يكبر، يكبر في طرقات الأعماق، ولا يموت، يصل الحلم بحافة الورد، بحجم السيل..
.. دون أن تتذكر خيل الريح، وبخار المساءات العنيدة، والأخطاء والألوان الغامقة، وصورة الأعداء، والنوافذ السميكة، والأسرار المجدولة، المخبوءة في تيه الغابات المرتبكة، أو تستعيد أسماء الثورة الحسنى، والآبار، والكواكب الصخرية والممرات والعباءات التقليدية والمدافن القريبة، تبتعد أو تقترب، تغلق الباب أمام القوافل العائدة، تمضي وتختزل الشمس، توغل في سارية الغيب، ينصرف حجر العمر، ليبدأ هذا الجرح الطويل، هذا الحزن الشاهق، يتسلل عميقا في عويل الحطام يحاصر أطراف الرهبة.
لعل هذه السحابة منك
تدنو أصابعها من السطح.
.. دون أن تستريح، ذلك المساء تخرج في حلة الوعد ، تقف على مرفأ العشية وحيدا، تحدق في السماء البعيدة، المجللة بالسواد، ترسم رائحتها الذهبية في سر الطريق، تطبق على هوة الأطراف. وتزهر حقول السواد، تبكي المدينة. المدينة التي تعرف وجهك، ذات المصابيح العالية والأسوار والأوسمة والحمامات وقارات الصفيح، والمدارس والملاهي والسجون وجبال الملح وتماثيل الصحراء.. تسري الرعشة في ركاب القلب وسرير الأرض تستهويها، توقظ مفاتيحها في ممالك الصنوبر، والمسالك القريبة البعيدة، يتهاوى النجم، أرى الآن ملامحه بالوضوح تورق في وحشة هذه الأجواء الثقيلة، المحشوة بالغربان وطيور الليل. تهجر السماء زرقتها، هذا الوهج الإلهي، يجيء الموت طباقا يبني قلعته على الصدر، إنها الشمس تجنح للمغيب..
كل ذلك العراء
لا يتنفس، .. يتألم.
تتقدم السنون، اللحظات الهاربة كالحروب الملونة. يتناسل الدم والسهو والسواد وتهبط الأمداء في غسق الرماد، يجيء الرماد مطروقا، و تنقلب الطير، تتدافع الأوزار، كان الصيف يلبس جبة الخريف. لا يخطيء السهم مودة الرأس، لحظة يجيء الموت مهللا في عرباته، يسرق ضوء القمر من عليائه وتذهب ساقية الذكرى مع كوم الرصيف.
تلك الصورة تحاصرني، أحس أصابع البرودة الميتة تغزل مفاصلي، ومفازات مأسورة تطرق أوبتي.
ما أثقل هذا الصمت، الأسود، الحائط، حيث يهرب الغبار من جلده وتسبح الأـسماء في دمها. تبدأ ريح الانهيارات والهياجات الطويلة تملأ الكأس حتى الرعب، يخرج من رمله ويشهر الخوف: من أنت إذن أيها المخبوء تحت معطف القتل.؟
لا تهدأ جبال المدينة، دويها الضالع في الجمر يطوق وديان النخل، وخلوة المحطات، والقلاع المذعورة، يجيء في عرض اللحظة حاملا تعبها يستبق خوذة الموج:لماذا تسعفك خيول الموت، وتخذلك شوكة الحياة، تغتسل الساحات من صداك، وتنشر فوقنا تعبها الشائخ الشائك الآهل بالخرائب والأصفاد، هذا ما يقتضيه الود، يرفع الموت سوطه ويطفيء المنارة.
ترتد الأصداء في عري الفراغ.
لا شيء غير هذا الرصيف الخائن، حيث بقايا من دماء ذبيحة ترقرق كالهاوية، تصل عروة الأرض بتلة السماء.
آه ، لماذا تأتينا هذه القساوات تباعا تتركنا القسوة.. ولا تمضي.

... دون أن تلتفت ذلك الصباح، أو تتلكأ قليلا، تسافر القامة عتيدة: لا أستثني وهجها، عشب الأعماق الندي ، النادر، وبذور الطيب الوارفة، والمآذن العتيقة، والبسمة الدانية. تطلق رجفتها وترحل بين الشقوق: عاما فعاما تأتيها الريح من كل الجهات، وقفت في وجهها المتقلب، كأنها تعرف أسرارها راكضة نحو جذع الصباح. ها هي تتقدم جزائر من حداد أو رماد، وأغنيات من بلاد غائبة، تشرق ويبلغ صوتها رابية الوقت، ما تعبت رمالها من طقس النداء..
ما كانت لتمحو هذا الحلم الواصل بين الخطو والبحر والخطوة والقرب والخطوة والقبر..
ماذا أسمي هذا الخوف السائل؟
ماذا أفعل بهذه المرارات تعطيني يديها، وتغمر صحراء وجهي؟
ماذا أفعل بهذه البلاد المغطاة بالليل؟
ماذا أسمي هذا الانكسار، يستجمع رصاص الأحزان ويملأ أقاصي العمر، وسقوف المدينة، والحجر المتساقط وموج البحار القديمة، يرسم ظلال القتل، هتاف هذه الأزمنة الكاسدة ،تسند ضفيرة الخراب..
ماذا أسمي هذا الوجه الشاخص يقطر بالصحاب، والدم العذب، والشموس الخضراء، يوقظ مغارات الصباح، يركض في برية هذا الزمن اللولبي، يصل صداه الأبراج وصخور الضفاف، يهبط رنين الخطو في نخيل الجذور وامتداد المسافات. أأقول : ها هو يتدافع نحوي، يصعد الدرج، أو يتحرك بين الليل والنهار، بين الحلم والسيف، والجريدة والمطبعة، يكتب ، يخطب، أو يرقب، يمشي في العتمة، وينام في سواعد الناس إذا مروا..
..دون أن تلتفت ذلك الصباح، أو تتوقف قليلا، تمضي القامة العتيدة، تعبر زليج الحياة، تنيخ على الرصيف، يتدلى دمها المتورد، يضوع في كل الدروب، حتى انحل في بلل الطريق. كانت الطريق امتدادا كحطب الرحيل، كأنما تحفر معابر الوجه في سحنته البعيدة: جنون الطريق يرقد في الزاوية المعتادة، يجيء عاتيا، يبقر جوف الريح، تتداعى القامة، وتنقلب النار على الماء.
هكذا يبدأ الموت بئر الطعان: قافلة سوداء مدججة بالمخالب السوقية،تشق غابة مهجورة تورق في عز الليل، تجرف عمر الخطوات وتختبيء في شهوة الريح، تجري بما لا تشتهي الأقدام، وتحتمي بذاكرة الطين: للأحبة وصلة الغيب، وللأعداء هذا المتسع من الرمل...
فلماذا تكون أنت الفريسة أيها " العلي"؟
أأقول:إنك أبي، المسنود برايات الأمهات وماء العتبات. علمتني أن أحمل حزني، وقميص الوعد، وأعبر مرآة الأرض، وأسير من الفجر إلى الفجر. هذا وطن أنت ترسمه في خُفي، لو أنه ترامى دوني، لا أريد أن تتعب أو تقف دمائي، أو أخون الأرصفة والجبال المتصلبات، والمسافات، والمراعي القديمة، والأحلام الصغيرة الممزوجة بالتراب، والمرافيء المزروعة بالصدق والسواعد المرهقة كالغبار..
من بعيد ، ها هي تلوح الطفولات الغريرة، والظلال البللورية الداجنة، والطيور المثقلة بزخات من المطر البلدي، تمضي في دقات الساعة. ثمة غيمة داكنة تتراءى بعيدا، تلقي بها الريح في المزار، تقترب ، تمعن في القبض، تزهر، تبرق، ترعد، تتقدم تماما حتى تحط في سويداء القلب، أتحسس غبارها الدافيء يملأ برج الفراغ.. أبكي ، أبكي طويلا، وأدفن وجهي في احتراق الجهات..
أناديك مرة، والمرات، يا أبي المتداعي، الآتي من هذا القطب، هل ثمة أقسى من هذا اليتم؟
شجرة واحدة لا تصل جذورها لون السماء
وطن واحد لا يصل منتهى الصباح...
هذه الأرض العارية تهرب من قدمي، طفولتي تحترق في الهواء، يداي ملطخة بسلاسل الفجيعة: لا أملك إلا أن أناديك من هذا الغور النائي، حيث تصعد أنوار رمادية في دهاليز النهايات : يا أبي.
إني ملء اليقظة، أعرف الأعداء واحدا واحدا، ها هم يجيئون من كل الطرقات، تضيق بهم الشرفات. أعرف الجدار الوضيء والستائر الوردية وخروب بلادي، واصطفاق السنابل والمنازل المتناحرة، لن أغادرها، تضرم في دمي خصوبة الرماد، أكاد ألمس ذعرها.
حزين يا أبي.
أسفل الدرج، أسفل هذا الوطن، قرب المدفأة الشهباء القديمة، تتكوم الأجراس الميتة، مرهقة الأعصاب، تمر بي المدائن محملة بالوحل والريح، تهرب الأشياء من حولي، كل الأصدقاء الذين رابطوا في دوامات الوجد، جاؤوا حيث أرى وجهك الأبيض وشلالات النور الموقدة، والغابات الملبدة بالوحشة، والأقدام المكفهرة، والطيور التي غادرت أعشاشها..
تيبس في حلقي أغصان هذا التاريخ المترامي ، أشم رائحة النعش، ووشوشة الموت والرداء الأبيض المتفتح كباقة الزهر، تمضي المسافات في جلدي كالطلقات، وصراخي في مجرى الريح ملوث بالحزن، وحافات الظلام ترمي في وجهي نثار التراب ( الأعداء الذين غادروا الساحة والتفوا حول الزبد، رأيتهم حبلا من الغرقى يمتد قبل الطريق، شجرا يابسا، مطفأة عيونهم، يطرقون الباب أشلاء ساقطة تخيط تجاويف الظلام... الذين جاؤوا من البرية حاربوا فيك ممشى الموج، والذين جاؤوا من البحر حاربوا فيك مودة البر.. هؤلاء الواقفون لاصطياد المارة في عتمة المنعطف..)
هل تستطيع أن تموت أكثر من مرة واحدة؟ أو تموت أبعد من لحاء الطريق.؟
يا للقسوة.
تأتينا هذه القساوات سراعا،
تتركنا القسوة للقسوة ، ولا تمضي.
ماذا أفعل بهذه الصداقات المقفرة تمعن في الرحيل، أأقول: هذا قاتلي، يتكشف في كل وجه، يأتيني في كل حين. لو أغلقت هذه الطريق عثرتها، ومدت يديها لسدرة الضياء. أأقول: أن ألقاك مع الفجر، دائم الخضرة. وحيدا يملأني ضيق الأرض. صوتك لا يصل، صداك لا يصل، أنت لا تصل، والخيبة في صدري تشويني ملقاة على الطريق.

هذا انتظاري: أكتب اسمك على هامة الجدار، وأنقش صورتك في نبض الأرض.
يا سيد المواقع.
أيها الجبل الواقف، الزاحف، المبقع بأنسام الممالك الحافلة بالغرباء، البحر الصاخب يغالب الأضاحي وصقيع البراري ( لن يحوطك الآن سور البذلات الزرقاء، والجريدة المبللة بعرق الرصاص، تبسط انحدارها في هذا البلد البعيد، خلف أكياس الفقراء الطيبين..)
.. دون أن تلتفت ذلك المساء، أو تتريث قليلا، تخرج من قسوة الوقت متأبطا حلمك الدائم وفي امتداد الطريق تتداعى الخطوات، ترتج خوابي المدينة، تلبس الأشياء سوادها أو بلاءها، تنضاف نقطة سوداء لقلبي، تختبيء المذبحة في خوفي، مقرورا يذهب ظل العمر.. يا للقسوة، أصرخ ملء الأرض:
ماذا أفعل بهذه الجراح الجاثمة على مرمى القلب؟
ماذا أفعل بهذه البلاد الذابلة، المغطاة بالجنازات، والأحلام الشاغرة والأطياب الميتة.؟

سعيدي المولودي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي