الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقدة المظلومية

خالد صبيح

2014 / 7 / 13
مواضيع وابحاث سياسية



ليس من السهل أن لاتكون طائفيا في العراق اليوم!

فالأمر يبدو عصيا على التحقق في خضّم نزوح جماعي وعودة شاملة نحو الهويات الفرعية، وفي ظل إستقطاب طائفي ديني وقومي موجع للهوية الوطنية العراقية. لكن ليس في الحياة مستحيلات كما نعرف، ولابد من إن يكون هناك مخرجا عقلانيا لإية إزمة.

معضلتنا الراهنة لها عنوان موحد عريض ومحرج هو المظلومية، بإسمها ومن أجلها تكسرت أحلام بناء مجتمع موحد. وهي معضلة لها جذور مهدت لها، نشأت مع تصدعات حلم الدولة العراقية الناشئة، مطلع القرن الماضي، في بناء مجتمع موحد بتنوعه وتعدده. إبتدأت المظلومية في صرخة صاخبة أطلقها الكرد مع ولادة الدولة العراقية طامحين، بتردد، إلى صنع كيان خاص بهم يَقتَطع من مِزق الدولة العثمانية الآفلة خرائطه. كان لهم، إسوة بغيرهم، ملكا، هو الشيخ محمود الحفيد، أراد أن يوحدهم حول ملكه وإقطاعيته، لكن إرباكات المشهد الدولي ومماحكات التنازع على سلطة الملك، فللشيخ الوقور خصوم نازعوه ملوكية المملكة الحلم، أجهضت حلما لم يستطع مستوى نضج الشعب الكردي حينذاك، الموزع بين القبائل والولاءات، أن ينتج إرادة قادرة على تحقيقه، عاكسا بذلك قصورا صريحا في الوعي الذاتي المؤهِل لإنجاز حلم الكيان المستقل، هذا بالإضافة إلى تنازعات العقيدة الدينية وتناقضها مع عقل الحداثة الذي تتطلبه نشاة الدولة التي أدت إلى تردد ونكوص في توجهات الشيخ الحفيد ومن يسانده، فضلا عن عامل الجذب الذي قدمته توجهات الكيان الجديد الجامع، الدولة العراقية، التي كان لها تاثيرها في كسر التردد لدى الشيخ الحفيد لصالح الإنتماء إلى دولة شاملة جامعة.

وصرخة المظلومية الكردية، رغم صخبها، إلا أنها بعمومها، وفي كامل مسارها، إتسمت بقدر من العقلانية واسع وثابت رغم ماتخللها من ثغرات هنا وهناك في مراحل متباينة ومعقدة، كإعلان ثورة ايلول عام 1962 والتواطؤ بنفس إنتهازي ضيق الأفق مع أعداء الجمهورية الاولى ( إنقلابيو شباط). وثنتيجة لذلك كرّست هذه الصرخة العنيفة في الوجدان الجمعي العراقي صورة لمظلومية لاتباريها سوى المظلومية التي نشأت إرهاصاتها في ذات الزمن وعلى نفس إيقاع بناء كيان الدولة العراقية الجديدة حينما اختار الشيعة، وفق إجتهاد ثقافي ـ ديني وسياسي، النأي عن المشاركة في وليمة تقاسم ما تجود به دولة تريد مركزة نفسها حول مجتمع متناقض شبه متحارب. غير أن مظلومية الشيعة لم تبق مكتفية بالإمتعاض الصامت الذي وسم موقفها وسلوكها في العهد الملكي، المنفتح والهادئ نسبيا، وإنما إكتسبت شكلها المسموع والمعلن في العهد الجمهوري، وبصورة اكثر كثافة بعد استيلاء التيار القومي العروبي على مراكز القرار في الجمهورية الناشئة بعد انقلاب 63 واستحواذ القوميون على السلطة في ماأسموه بـ(ردة تشرين)، حيث بلغت النزعة القومية والطائفية مستويات مرتفعة من التصعيد الذي ولِد عنها كإفراز طبيعي لسلطة يقودها أناس جهلة وسط تقلبات وتصارعات إقليمية كان الصوت العروبي فيها، في المرحلة الناصرية، هو الصوت الأعلى، وكان لهيمنة عسكريين ذوي أنحدار مناطقي، سني في غالبه، قد فرض تاثيره أيضا على مسار تطور أو حراك الدولة بمنحى شوفيني، ضد الكرد، وطائفي، ضد الشيعة، بصورة ملموسة لم تتستر عليه حتى في خطابها المعلن.

غير أن المظلومية الشيعية اكتسبت صوتا مرتفعا اشتدت حدته تصاعديا مع استيلاء البعث على السلطة في عهده الثاني عام 1968 ليكتسب بعد ذلك شراسته الخاصة مع انفراد صدام حسين في الحكم وهيمنته على كل مراكز الدولة والحزب عام 1979، بعدما اثمر هذا التحول الشاذ في مسار السلطة والدولة مايمكن تسميته بالظاهرة الصدامية في سياق الدولة القومية البعثية التي دفعها، وباختصار شديد، الهاجس الامني إلى أن تأخذ منحى طائفيا صريحا في سلوكها وشكل ادارتها للدولة لاسيما مع تحولات الوضع السياسي في إيران ووصول الملالي إلى سدة الحكم هناك، ومن ثم نشوب الحرب العراقية الايرانية في ايلول 1980.

ولما لم يكتف الشيعة باللطم، كما تكرس الانطباع السيء عنهم، وأرادوا الحكم وبلغوه بعد 2003 التحق السنّة، بعد تخبطات وتناقضات أربكت وضعهم العام، في مظلة تلك المظلومية لتكتمل دائرتها وتغطي كل الطيف العراقي الذي مزقت وحدة نسيجه المفترضة، كمشروع تشكلت على قاعدته الدولة العراقية الحديثة، التعارضات الاجتماعية والعرقية، أو بالأحرى أشكال إدارة الدولة والسلطات الحاكمة الخاطئة لهذه التعارضات الطبيعية التي حولتها الى صراعات وتجاذبات متنافرة.

والآن نحن وسط حالة متفاقمة من الاستقطاب والتجاذب والتخاصم والاشتراطات والاشتراطات المضادة يضعها كل طرف ضد وأمام الطرف الآخر. وبلغت حدة هذه الاستقطابات مديات مخيفة حينما انجر المثقفون اليها وانخرطوا بحماسة في محترب الصراع القومي والطائفي وصاروا جزءا منه واخذوا في تبني رؤى عامة الناس التي اتخذت شكل مد قوي يكاد يجرف كل توجهات المجتمع نحوها، وأخذ كثير من المثقفين يشترط على الطرف الآخر، القومي أو المذهبي، اتخاذ مايراه هو موقفا سليما حتى يلتزم هو بموقف مماثل غاضا بصره في هذه الحالة عن مقتضيات الموقف السليم ودوافعه الاخلاقية والمبداية المتجاوزة لردات الفعل العاطفية.

في هذ الخضم المتوتر التبست صورة الآخر ورُسِمَت بمزاج عدواني يوغل في نزع الصفات الإنسانية من (الخصم) بوصمه بنعوت مهينة تقلل من شأنه وتضعه في منزلة اجتماعية وضيعة، وتسلب منه صفات بديهية في تكوينه، كالمواطنة والوطنية. هذا ماجرى بصورة خاصة على الكرد والشيعة، وكان نصيب الشيعة هو الأكبر من حملة التسقيط هذه حيث سلبت منهم وطنيتهم وعروبتهم وأُلصِقت بهم نعوت الخيانة والتخلف والانحطاط مصاغة بمفردات تحمل مدلولات انتقاص، كالشرو گية والصفويين وأبناء المتعة وغيرها من النعوت البذيئة والمهينة. وبالاضافة إلى أن هذه الصورة الضاغطة والمشوهة هي إنعكاس لمزاج استعلائي مارسه طائفيو سنة العراق لمدى طويل معتبرين أن مواطنيهم من الكرد والشيعة ليسوا بذوي مواطنة أصيلة، وضيوف ثقلاء في الوطن، فهي أيضا نظرة غير واقعية، تفندها معطيات الواقع العراقي. ولو اننا بحثنا عما ينفي هذه الصورة العدوانية لعثرنا على شواهد كثيرة بارزة ومؤثرة تؤكد الدور البارز والتاسيسي الذي لعبه ابناء الجنوب ( موطن الاكثرية الشيعية) في بناء مجتمع حَضري متمدن، وماقدموه من منجز ابداعي رفد الثقافة العراقية وأسهم في صناعة الذائقة الجمالية، ولاكتشفنا، دون عناء، أن دورهم كان هو الأكبر من بين جنبات الوطن الاخرى، فمن الجنوب انطلق الغناء والشعر الحديث والفنون البصرية وكل ماله صلة باغناء الحس الجمالي ( الأسماء والعلامات كثيرة يصعب حصرها في هذا الحيز الصغير) من غير أن يكون ذلك على حساب الأدوار التاريخية الأخرى في ميادين النضال الوطني، السياسي والثوري، كما أراد أن يوحي لنا بعض طائفيي السنة الذين نسبوا، بطريقة اعتباطية، صفات الفروسية والبطولة لأهل المناطق الغربية السنّية وأنكروها على أهل الحنوب، وخير شاهد تاريخي على ذلك هو ثورة العشرين التي سجلت في وقائعها حجم ونوع مشاركة أهل الجنوب في الأحداث العراقية الكبرى، هذا عدا مشاركتهم الفعالة في الأنشطة السياسية النضالية الأخرى التي قادها اليسار العراقي، كالإنتفاضات الفلاحية والإضرابات العمالية والتظاهرات الطلابية وغيرها من الانشطة السياسية والنضالية بعمومها.

ومع أن لامثلبة في أن تكون لاي مواطن عراقي أصول عرقية غير عربية، أولا لأن المجتمع العراقي، والجنوب منه بشكل خاص، مجتمع مفتوح ومتعدد، تمازجت فيه اعراق بشرية متعددة، وفي ذلك مفخرته، وثانيا لأن ليس هناك عرق أدنى وآخر ارقى، فالبشر متساوون في القيمة مهما كانت انحداراتهم، رغم ذلك اقول أن أهل الجنوب هم (اكثر ) عروبة من اولئك الذين (سلبوهم)، بدافع عنصري بغيض، أصولهم العربية.

ليس في ما أقول انحيازا طائفيا باي شكل من الأشكال، لكني أُؤشر إلى أن المثقف الشيعي، (وهذه تسمية مجازية مؤقتة فرضها الوضع الشاذ على الخطاب العراقي) يتعرض الى ضغط كبير من أشكال الإمتهان لشخصيته الجماعية ولكيانه الاجتماعي والثقافي يصعب، بغير تحوطات واسعة وعميقة ومتماسكة، أن تبقيه متبنيا لنظرة موضوعية وطنية شاملة في نظرته للاحداث وتقييمه للوقائع. وهناك بالتاكيد ضغوطا مشابهة، مادية ومعنوية، تقع على كل الاطراف ومن كل الاطراف الا انه، والحق يقال، ان الضغط قد تكرس بصورة مكثفة وعدوانية اكثر على الشيعة.

هل هناك من حل للوضع العراقي ومخرجا لمازقه الوجودي؟ وإن وِجد هذا الحل فهل هو قابل للتحقق وإثبات الوجود وبالتالي رسم خارطة طريق عملية لبلوغه؟

يبدو الأمر ممكنا من الناحية النظرية، ولكن حظوظه في التحقق واقعيا ضعيفة للغاية. والحل، وهو ليس اجتراحا شخصيا لي وإنما توافقت عليه رؤى كثير من الوطنيين العراقيين، يتلخص في إيجاد كتلة تاريخية عراقية عابرة للطوائف والقوميات تتناسب بإطروحاتها مع بيئة المشكلة العراقية، قوامها مثقفو وساسة البلد وأكاديميوه والوجوه الاجتماعية والدينية والعشائرية فيه من غير المتورطين بالصراع القومي أو الطائفي وممن يلتزمون بوحدة الكيان العراقي ويحترمون الأطراف المكونة له.

وماينبغي ان تقوم به هذه الكتلة هو طرح مشروع مصالحة واسع وحقيقي يتواشج مع رؤية سياسية واقتصادية متوازنة بعيدة عن النظرات الضيقة التي تبحث عن افضليات في المزايا المحلية لتحولها إلى امتيازات، باختصار يجب أن يكون الوطن وثرواته وإدارته مشاركة للجميع بدون تمييز.

هذا حل نموذجي لكنه مثالي وغير قابل للتحقق. فمعطيات الواقع باجمعها، من تفكك وفرقة وتنازع وتخاصم وتنابذ، تقف حائلا دون إمكانية تحقيقه على ارض الواقع. لأن من يحمل هذه الرؤية، بصور متعددة لكنها متقاربة، هم قلة، وهذه القلة سوف تخفق في طرح رؤيتها ناهيك عن فرضها أو إقناع الرأي العام بها أو دفع المعنيين بالأمر لتنفيذها. وفي هذا السياق تبدو (مبادرة النجف*) مبادرة جيدة لكنها ولدت ناقصة، إن لم أقل أنها ولدت ميتة، لأنها حملت لون طيف واحد من المجتمع بينما جوهر الكتلة الذي أتحدث عنه، ولكي يستطيع أن يكون مؤثرا، بنبغي أن يكون جامعا للطيف العراقي بإجمعه دون تمييز أو إقصاء.

ستصطدم مبادرة النجف، كما أي مشروع آخر ينطلق من ذات النوايا ويسعى إلى ذات الأهداف، بالكتلة الصماء التي اسمها (الأتجاه العام) في المجتمع، وهو إتجاه تكرست في وجدانه وعقله روح التخاصم والعداء والشعور بالغبن الذي نسجته لعقود طويلة عقدة المظلومية، لهذا يبدو الميل في الوقت الراهن الى الحلول الأخرى، الأكثر إيلاما والأكثر كلفة، كالأنفصال، هي الحلول التي يرجحها ويفضلها هذا (الاتجاه العام) الاجتماعي.

هذا فضلا عن الاثار السلبية التي يتركها على الواقع تشرذم المثقفين، لدورهم ومكانتهم المهمة والاساسية في جسد الكتلة المرجوة، وتفككهم وانحدار كثيرين منهم إما الى مباوئ الطائفية والتعصب القومي أو الى الارتزاق والإنتهازية، أو في أحسن الفروض، السلبية والنأي عن كل ماله صلة بالواقع.

وفي المحصلة النهائية لدينا حل لمعضلتنا ولكن ليس لدينا من يحققه على أرض الواقع.

***
مبادرة النجف هي مبادرة أطلقها أُدباء وأكاديميون ورجال دين في النجف يوم 8 تموز 2014 بإسم (مبادرة السلم الاهلي في العراق) لمنع الحرب الأهلية دعوا فيها إلى مشروع مصالحة وطنية وإلى استفتاء شعبي على مشروع للعفو العام يكون استهلالا لتنفيذ بنود المبادرة المكون من عشر نقاط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -