الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رغم القهر والدمار في بلادي ما يستحق الحياة

إيمان أحمد ونوس

2014 / 7 / 14
مواضيع وابحاث سياسية





رغم القتل والدمار والخراب الذي عاث بالحجر والشجر والبشر منذ بدء الأزمة وحتى اللحظة، لم أصل لحالة الاعتياد أو التأقلم أو التعايش، فمع كل دوي أو أزيز أو هدير أشعر وكأنها المرة الأولى التي ينتابني فيها القلق ذاته، والرعب ذاته، والرفض لكل ما جرى ويجري. وعند كل خبر استشهاد لإنسان سوري سواء بقذيفة أو انهيار مبنى أو تفجير تنتابني المشاعر ذاتها التي تنتابني عند سقوط قذيفة او صاروخ على بيت او مدرسة او أيّ مكان آخر يذهب ضحيتها اطفال ونساء ورجال لا ذنب لهم سوى أنهم سوريون في زمن أراد لهم الآخرون فيه الموت والدمار تحت ذرائع ومسميات لا علاقة لها بالحضارة والمدنية وحقوق الإنسان.
تتفاعل هذه المشاعر وتضطرب تجاه مُصاب آخرين لا تربطني بهم سوى رابطة الجنسية والمواطنة والإنسانية، لكن، وعندما تمسني الحالة بشكل مباشر فستكون المشاعر مختلفة تماماً، فالجرح كما يقولون لا يكوي إلاّ صاحبه، إنه إحساس آخر ربما أقوى وأعنف عندما أجد نفسي في مواجهة الموت والدمار مباشرة.
فمنذ اثنتي عشر عاماً وأنا دائمة الترحال مع أولادي من بيت لآخر، ومن منطقة لأخرى، حلمي الوحيد في الحياة ان يكون لي ولهم بيتنا الخاص الذي لا نغادره بعد انتهاء العقد، وتحقق الحلم بعد طول تعب وصبر وانتظار، ولكن ما هي إلاّ سنوات حتى اضطررنا لمغادرته مرغمين تحت ضغط الحرب الدائرة، فكان اللجوء لمنطقة خلناها آمنة بعيدة عن الخطر في بيت لا يشبه البيوت باعتباره ملحق فوق سطح بناء من تلك الأبنية التي نهضت بين ليلة وضحاها، بيت تنازل لنا أصحابه عنه بحكم القرابة كي يأوينا ريثما تحط تلك الحرب اللعينة أوزارها، ويعود المهجرون والنازحون لبيوتهم التي غادروها مرغمين تحت وقع الرعب والخوف والهرب من لظى الموت المتأجج في كل مكان. فمع كل ما أصاب تلك البيوت من دمار ونهب وخراب، تبقى المكان الوحيد الذي يشعر فيه الإنسان باستقراره وأمانه وإنسانيته. ولكن هيهات للاستقرار والأمان أن يعمّ فعلاً أماكن اللجوء، فلقد اختارنا القدر ليكون لنا نصيب مما أصاب معظم السوريين، ولكي يكون لنا شرف المشاركة بهذا المصاب كي نكون سوريين حقاً، حيث زارنا صاروخ من تلك الصواريخ والقذائف المعتادة على زيارة معظم مناطق دمشق وريفها، حتى باتت ضيفاً دائماً نفتقده إذا ما تأخر أو توانى عن الحضور، ليكون الطقس الدائم في حياتنا، غنائمه غالباً ما تكون أرواحاً بريئة لا ذنب لها سوى أنها تعيش في زمن الحرب والدمار، فكانت ضيافة الصاروخ المذكور سقف بيتنا الذي نسكن، حيث أطاح به أرضاً، وشرب نخب انتصاره خزانات المياة النائمة على سطح البناء التي تسابقت في الوصول إلى أثاث البيت وأجهزته الكهربائية من تلفزيون وهاتف وكمبيوتر وما شابه، حتى بات البيت أشبه بمسبح تعوم على سطحه قطع الأثاث المتناثرة مع بقايا الشظايا التي خلفها لنا تذكاراً لا يُنسى، مؤلمٌ جداً أن تخرج في الصباح مودعاً بيتك بابتسامة آمنة وراضية، لتعود ظهراً قد تهاوى في غفلة من الزمن والعقل والإنسانية، ومفجع جداً بالنسبة لي تناثر جهاز الكمبيوتر، صديقي الوحيد ورفيق أيامي وكاتم أسراري، ناشر حروفي وآهاتي الذي أودعته ما خط قلمي وما اختارت ذائقتي من عناوين ومواد تروي عطش معرفتي، ومُحزنٌ أكثر أن ترى بعض خصوصياتك وقد تناثرت أشلاءً وعلى مرأى من الجميع الذين استباحوا المكان لغايات مختلفة، البعض من أجل المساعدة، والبعض الآخر من أجل الفرجة والشفقة، وآخرون بحثوا عن غنائم لن تروي عطش جشعهم المتنامي يوماً بعد آخر غير عابئين بمصائبنا وهزائمنا والموت المتربص بنا في كل لحظة. وبدأت رحلة لجوء جديدة حملنا معها قهرنا ووجعنا وبعض رعب ما زال متشبثاً في الروح والذاكرة، رحلة زادنا فيها البحث عن طرائق ومصادر نعيد عبرها ترميم ما تهدّم، لأن أمثالنا من السوريين وهم كُثُر لا يملكون أرصدة مخصصة لاستقبال حالات طارئة، لأنهم لا يملكون إلاّ قوت يومهم.
قدر الفقراء على ما يبدو أن يكونوا على الدوام دافعي الضرائب الأكبر على مدار الزمن والتاريخ وحياة الشعوب في السلم والحرب، أولئك الفقراء الذين يرفضون مغادرة بلدهم إما بحكم فقرهم، وبالأحرى بحكم انتمائهم وتشبثهم بجذورهم الممتدة عميقاً في أرضٍ لم يعرفوا سواها موطناً وملاذاً يقيهم ذُلَّ الغربة وعار حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، رصيدهم الوحيد قوت يومهم وعشقهم لهذا البلد الذي سيظل رغم كل هذا القهر والموت والدمار جنة الله في الأرض، وواحةً للحياة والأمل بمستقبل أكثر محبة وعدالة وإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع