الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتمرد : قراءة في متاهة كامو الخالدة

محمود جرادات

2014 / 7 / 14
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


(على غرار شروحات الأفلام السينمائية ، قرائتك لهذا المقال قبل أن تقرأ الكتاب قد تجعلك متحيزاً في وجهة نظرك عنه منذ البداية ، و ما أسعى إليه هو أن تنسى أيها القارىء كل كلامي و تضرب به عرض الحائط إذا أردت قراءة الكتاب، أما لمن سبق له قرائته، أظن تمام الظن أنه سيكون ملماً بالتفاصيل و الكلام الوارد في هذا المقال ، سواءاً اتفق معي أم لم يتفق ).
ماذا كان يقصد ألبير كامو من خلال المتمرد ؟؟ لست هنا لأشرح أفكاره لأن شبكة الانترنت مليئة بالشروح و التفاصيل ، و لن يكفي لهذا الغرض مقال متوسط الحجم أو حتى مقال من القياس الطويل ، أنا هنا أعرض وجهة نظري في هذه المتاهة الفكرية ، إن صح التعبير.
يقول ألبير كامو في تعليقه على (المتمرد) ، أن هدفه الأساسي كان هجوماً على العدمية ، تلك الأفكار التي تمنح الحق في تقليص الدور البشري و الانحطاط فيه نحو المجهول . لكن الأصدق من هذا التعبير ، إن جاز لي التكلم بلسان كامو ، هو ما قاله في مقدمة الكتاب : نحن لا نبحث عن عالم يختفي فيه القتل ، نحن نبحث عن عالم لا يكون فيه القتل مبرراً .
دعونا نبحث في حيثيات و ظروف تأليف هذا الكتاب ، تلك المتعلقة بكامو و تلك المتعلقة أيضاً بالظروف المحيطة المؤثرة في تأليفه .
كتب ألبير كامو كتابه (المتمرد) في عام 1950م ، و نشره عام 1951 ، أي بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية ، و التي كان من الشهود عليها، بل و مشاركاً فيها من خلال مقاومته للاحتلال النازي في وطنه الأول فرنسا (على اعتبار وجود وطن ثانٍ ينتمي إليه كامو و هي الجزائر التي ولد و عاش طفولته فيها) . كامو كان بلا ايدولوجية محددة، رغم انضمامه فترة من الزمن إلى صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، حيث تعرف هناك إلى نخبة من المفكرين الفرنسيين العظماء في تلك الحقبة ، و على رأسهم جان بول سارتر و موريس ميرلوبونتي و سيمون دو بوفوار و روجيه غارودي ، و احتفظ بصداقته مع الحزب و اعضائه بعد ذلك فترة طويلة حتى نشره هذا الكتاب ، و الذي ستبين معنا لاحقاً ، لماذا بالذات حتى نشره هذا الكتاب بالتحديد.
ظروف أخرى كانت تحيط بتلك الفترة الزمنية ، و هي حقبة الحكم الستاليني للاتحاد السوفييتي ، و التي اصبحت أقوى كثيراً بخروجها منتصرة في حربها ضد ألمانيا ، كان توجه كامو معارضاً ( و بشدة) لحكم ستالين ، ففي الوقت الذي هاجم فيه النازية و أفرد لها فصلاً في كتابه بعنوان (الإرهاب اللاعقلاني) جاء الفصل اللاحق ، و هو أكبر فصول الكتاب ، بعنوان (الإرهاب العقلاني) و هو النعت الذي وصف فيه الاتحاد السوفييتي ، بل و أكثر من ذلك ، الشيوعية بشكل عام.
عودة لأهداف و تفاصيل هذه المتاهة الفكرية ، فبعد أن ذكرنا الظروف المحيطة ، و التوجهات الفكرية الامنتمية لألبير كامو ، يتبين معنا أن هذا الكتاب قد جاء بالأساس ، رد فعل على هذه الظروف و التفاصيل ، رد فعل على اهوال الحرب العالمية،و ما حصل في وطنه فرنسا، رد فعل على القمع و الديكتاتورية السوفييتية/الستالينية ، لكنه لم يكن رد فعل اجوف و سطحي ، لم يكن مجرد مقال ، بل كان استحضاراً لكل الافكار الفلسفية التي شكلت تمرداً على الواقع الذي جائت فيها ، ليس بدءاً من سقراط و سبارتاكوس و ليس انتهاءاً بالحرب العالمية و من قبلها الثورة البلشفية ، كان استحضاراً لحركات التمرد السلمية منها (بالوسائل الأدبية و الفنية) مع التركيز أكثر على الوسائل العنيفة و الأفكار التي قادت لهذا التمرد العنيف، الذي ينتهي بانتصار مبني على قتل البشر للبشر، إنه سلسلة من النصوص التي تدمج فلسفات عدة بشريط تاريخي يبدو في بعض الأحيان، غير منتظم ، لقد تحدث عن التمرد الماورائي (التمرد على الدين) ثم التمرد الرومانسي ثم نيتشة و عدميته و دوره (البريء و غير البريء) في صناعة النازية لاحقاً، مروراً بالحركة السريالية و مؤسسها المهووس اندريه بريتون ، ثم يعود إلى ثورة سبارتاكوس و ينتقل بعدها الى الثورة الفرنسية ثم إلى الأناركية و بعدها تمرد الشعراء و بالأخص شعراء العدمية السوداوية من أمثال بودلير و ارتور رامبو .
يأتي بعد ذلك الجزء الأهم ، الفصل المتعلق بالحركات الفاشية ، حيث يرفض كامو اعتبارها نوعاً من التمرد، بل يعتبرها نوعاً من الجنون و التعصب العرقي الإجرامي ، رغم أن هذا الفصل لم يكن بهذا الحجم الكبير ، لكن ما يبدو واضحاً أن هذا ما هو إلا تمهيد للفصل اللاحق (الذي جئنا على ذكره سابقاً و سنعود إليه) : الإرهاب العقلاني .
كامو هاجم العدمية ؟؟ نعم لكن لغته غير المتجردة ابدت تعاطفاً إلى حد ما ، مع التمرد بوصفه تمرداً ، بغض النظر عن تفاصيل الأفكار ، و التي أوردها في كل فصل ، نعم لقد أيد نيتشة الشخص ، و ليس الأفكار ، أيد (شهداء الأناركية) أولئك الذين قاموا بنشر رسالتهم بالتفجير و الاغتيالات ، في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين ، في حين لم يبدِ نفس التعاطف مع مؤسسي هذا الفكر ، و اسماهم بالممسوسين (المجانين) و هم نيتشاييف و باكونين و بيزاريف ، كذلك أبدى تعاطفاً جزئياً من الحركة السريالية بقيادة اندريه بريتون ، المعاصر له في تلك الفترة (و التي وجدت صعوبة كبيرة في فهمها، أقصد السريالية) .
نعم لم يكن كامو متجرداً ، و لم يطلب منه التجرد في مثل هذا الكتاب ، في مثل هذا التفسير الفلسفي لرفض السلطة العليا ثم بنائها ثم إعادة رفضها و هكذا ،بدءاً بالسلطة الإلهية التي كتب مراراً و تكراراً في ضرورة التخلص منها في البداية كأساس للتمرد البشري، في مثل هذه الظروف تكلم العقل لكنه اختلط مع العاطفة. البشر يقتلون بعضهم من اجل التطور ، و الارتقاء ، لا بل أيضاً من أجل السلطة ، و أكثر من ذلك ، من أجل القتل في حد ذاته، و من ثم تقمص دور الإله الحاكم للعالم . البشر يقتلون بعضهم من اجل تأليه أنفسهم !!
عودةً إلى الفصل الأهم ، التمرد العقلاني ، الهجوم الكاسح الذي شنه كامو على الشيوعية، على الديكتاتورية ، على الاتحاد السوفييتي ، لكن بالأخص ، على جوزيف ستالين شخصياً . و هنا يجرد بنا أن نذكر ما أورده موريس ميرلوبونتي، أنه في عام 1946م ، و بعد أن قام ستالين بتصفية عدد من رموز الثورة البلشفية بتهمة الخيانة ، كان موريس مع سارتر و كامو في مقر الحزب الشيوعي الفرنسي ، حين دافع سارتر عما فعله ستالين بحجة الحفاظ على مكتسبات الثورة ، و سارتر معروف عنه دعمه اللامحدود لستالين و سياساته، فاستشاط كامو غضباً و خرج من مقر الحزب يكيل الشتائم لسارتر و ستالين ، لقد كان ذلك الموقف الأول الذي ظهر فيه كامو بهذه الطريقة، و كأنه انفجر بكل ما كان يحتويه من مواقف مناهضة لم يستطع اخفائها أكثر من ذلك .
لقد فرغ كامو كل افكاره المناهضة لشيوعية الاتحاد السوفييتي و رئيسه في ذلك الزمن ، ستالين، في هذا الفصل من كتابه ، نعم كامو لم يكن شيوعياً ، كان متعاطفاً إلى حد كبير مع ماركس و بدرجة أقل مع لينين، لكن ليس مع خليفته (الإرهابي) على حد وصفه ، و لم يكن في المقابل رأسمالياً ، فهو و إن لم يكن قد هاجمها (الرأسمالية) بشكل واضح في كتابه، فذلك لأنه اعتبر موضوع نقدها (مفروغاً منه) فمسألة انهيارها مسألة وقت ليس إلا . لكن ليست الشيوعية هي البديل ، لن نستبدل إرهاباً بإرهاب آخر ، لن نستبدل استغلال العمال و الفقراء بقتلهم من أجل الجنة الموعودة في قانون (الحتمية التاريخية) !! لن يكون ستالين هو البطل المحرر للكرة الأرضية ، كما لم يكن من سبقه على مر العصور ، هناك مبدأ واحد كان كامو متأكداً منه : التمرد هو فعل لانهائي مستمر بالضرورة ( أنا أتمرد إذاً أنا موجود) ، لكنه قصد التمرد الشريف و ليس الإرهاب على حد وصفه .
نقد الشيوعية استهلك ما يزيد على ربع الكتاب ، لقد دفع ثمنه قطيعةً نهائية مع الحزب الشيوعي الفرنسي ، و مع صديقه الشيوعي المتعصب : جان بول سارتر.
هل الهدف الأساسي هو محاربة العدمية كما قال كامو ؟؟ تلك العدمية المسؤولة عن قتل الملايين من اجل لا شيء سوى العدمية في حد ذاتها ، عدمية الوجود البشري و نفي صفة العقلانية عنه ؟؟ إن كان كذلك ، فإنه فعلياً لم يطرح بديلاً مناسباً ، حتى في الفصل الأخير من كتابه ، أورد كلاماً هو أشبه بالأمنيات أكثر منه شبهاً بالحلول، راهن على التطور البشري مع عامل الزمن ، نعم تحقق جزء من أمنياته، لكنه أمنيته الرئيسية (عالم لا يبرر فيه القتل) لا زال بعيد المنال ، بل و شديد البعد . كامو هاجم الكل ، كل الافكار و الايدولوجيات، بغض النظر عن تعاطفه الشخصي الذي لا يعني في الحقيقة شيئاً . إن كان قد حارب العدمية فإنه استبدلها بالعبثية ، عبثية اللاإنتماء . عبثية التوصيف الرائع لكن مع نهايات مفتوحة ، لا يلام عليها لأن أحداً لم يقدر على انهائها .
السؤال الملح هنا : هل هذا هو الهدف الحقيقي أم أن جزئية محددة هي الهدف ؟؟ أم أن كل ما سبق كان تمهيداً للهجوم على ستالين و الاتحاد السوفييتي (و هذا هو رأي سارتر) . لا لم يكن كامو بريئاً في كتابه ، لقد كتب مقدمة طويلة ، و أسماها كتاباً عن تاريخ التمرد، و تفكيكه نفسياً و فلسفياً ، لكن الكتاب الأصلي كان ذلك الذي استهدف فيه الشيوعية ، ذلك الهدف الذي كان يطارده منذ زمن ، و أخيراً تجرأ على عرضه .
كلُ سينظر من وجهة نظره إلى هذا الكتاب، و الألغاز الفكرية المزروعة فيه ، لا يمكن فعلياً أن تتخذ موقف الحياد من هذه المتاهة الفكرية ، متاهة الدياكتيك التمردي ، أو بالأحرى ، الهدف المخفي في هذه المتاهة الخالدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضباط إسرائيليون لا يريدون مواصلة الخدمة العسكرية


.. سقوط صاروخ على قاعدة في كريات شمونة




.. مشاهد لغارة إسرائيلية على بعلبك في البقاع شرقي لبنان‌


.. صحيفة إيرانية : التيار المتطرف في إيران يخشى وجود لاريجاني




.. بعد صدور الحكم النهائي .. 30 يوما أمام الرئيس الأميركي الساب