الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم غاوية 2

حيدر الكعبي

2014 / 7 / 16
الادب والفن




لقد بعد الزمن الآن بأم غاوية منذ أن جاءت الى البصرة أول مرة إبّانَ الحرب العظمى. كان الإنكليز يتقدمون نحو بغداد بعد أن شجعهم سقوط البصرة السريع. وقد تسربت أنباء عن هزيمةٍ لهم في الكوت. وكان الأتراك يقاتلون الإنكليز بالعرب، والإنكليز يقاتلون الأتراك بـ (الگِرْگِة). وهنا في البصرة تعرفتْ أم غاوية على مسز باربرا، الأرملة البريطانية التي تضع ريشة في قبعتها، ويصحبها كلبها الرمادي چِن، الذي هو من فصيلة الراعي الألماني (جرمان شفرد). كان چن— الشكّاك الحذر لكن الوقور الواثق بنفسه— يتقدم مسز باربرا حيثما ذهبتْ، مربوطاً الى يدها بسلسلة معدنية. وحين مات، قالت مسز باربرا، التي كانت تعتقد أن الصِبْية العرب "أولاد الهرام" هم من قتله رجماً بالحجر وبعلم آبائهم وبتحريض منهم: "أم گاويا، چن مات، آنا يموت." وقد ماتت فعلاً بعد موت چن بقليل.
كانت أمي هي الناجية الوحيدة من أولاد أم غاوية الأربعة، وهما صبيّان وابنتان. الصبي البكر، صلبوخ، مات بالتهاب الكلية وهو في عامه الحادي عشر. كان سيصبح زير نساء لو عاش، فمنذ صغره كان يقول في البنات شِعراً فاحشاً. كان يتغنى بإحدى الصبايا قائلاً: "يَا فْجِيْرِتْها مثلِ النار." وأم غاوية تفخر بإنه كان عاشقاً. وحين مرض أدخلتْه المستشفى فقرر الأطباء منع اللحوم والدهون والملح عنه. كانت نفسه تعاف أكل المستشفى، فراح يشكو لها الجوع في زياراتها له. وتوسلت إلى العاملين في المستشفى أن يسمحوا لها بالمبيت معه فوافقوا. فجلبت له كَرْشة غنم (محموسة) أخفتْها جيداً تحت عباءتها في سفرطاس وأطعمتْه إياها ليلاً. "الچلاب امّوتينك من الجوع، يمه؟ إكل يا بعد امك واهلها." فتدهورت صحته ومات. (هذه رواية أمي، التي لم تكن تحب أمها، لأنها— كما تقول— أجبرتْها على الزواج من أبي، لذا ينبغي أخذ الرواية بحذر). وتضيف أم غاوية أن الصبي الآخر ذبحتْه (الچينكوة)، وهي قطعة من الصفيح المضلّع الثقيل طولها متران وعرضها متر، أطارتها عاصفة فحزّتْ عنقه. أما غاوية فقد عمّرت أطول، لكنها لم تكن قد تعدَّتْ مرحلة الصبا حين ماتت هي الأخرى مع من مات في وباء الهيضة. تقول أم غاوية إنها حين جاءت الى البصرة كانت حبلى بأمي، وإن غاوية ماتت قبل أن أولد أنا بشهر واحد. وكنت أسأل جدتي: "بيبي، أمي أحلى لو غاوية؟" فتتجهم سحنتها وترد: "ياء! تجيب أمك لغاوية؟ أمك غَبْره، يمه. خشمها أفطس، براطمها كبار، عيونها چنهن زروف مس . . " فأقاطعها: "وغاوية؟" فتجيب مستفزة: "ياء! غاوية مثل الغَنِد، يمه، شايف الغَنِد؟ العين ساعة، والوجه طرگاعة، والخشم طايح بالحلگ، والضروس ليلو."
وكانت أم غاوية تنسى غضبها كلما ألمَّتْ نائبة بالعائلة الكبيرة، فتتجشم مشقة السفر لتشارك في الهم، ثم تعود الى البصرة لتستأنف غضبها. فحين بلغها نبأ اعتقال زغيّر ابن أخيها ضُمَد في سجن الحلة، حزمت أمرها حالاً وذهبت الى هناك، مستدلة بالسابلة في ذهابها وإيابها، هي التي لم تر الحلة من قبل. وحين سألها حراس السجن عن علاقتها بالسجين، قالت: "إبني، يمة." وحين سألوها: "إبنچ شيوعي لو قومي؟" ردت: "عيب اعَرِف، يمه." ولدى مواجهتها إياه في باحة السجن لم يفُتْها أن تسأله: "يمه انتَ شوعي لو غومي؟" فانفجر ضاحكاً وقال: "ياهو علّمچِ ها الحچي، يمه؟" قالتْ: "يمه غير نشدوني بالباب؟" قال لها: "المرّة الجاية صيحي بعالي حسِّچ شيوعي، شيوعي، شيوعي." في زيارتها التالية، سألها الحرس: "إبنچ شيوعي لو قومي؟" فلوحت بعباءتها، وردست في باحة السجن وصاحت: "شوعي، شوعي، شوعي."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل