الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسافةُ الجماليَّة بين المتلقَّي والنَّص في ديوان أنس مصطفى ((سُهدُ الرُّعاة))

عزالدين ميرغني

2014 / 7 / 18
الادب والفن



((هل الشَّاعرُ بلبلٌ يُطرب ويسجَّي بأفراح قلبه وأحزانه، أم تراه عرَّافٌ يهذي بأفراح مجتمعهِ وأحزانهِ وبأفراحِ الإنسانيةِ وأحزانها)). لويس عوض

ديوان ((سُهدُ الرُّعاة)) هو الديوان الثاني للشاعر أنس مصطفى بعد ديوانه الأول ((نثار حول أبيض))، والديوان الأول قد كتبه بتقنية قصيدة النثر مع الميل إلى شعر التفعيلة قليلاً، وهذا الديوان كتب قصيدة النثر بوعييها الكتابي والفني كاملين، هذه القصيدة النثرية أتاحت له أن يتعمق في الأزمنة الإنسانية الثلاث ((الماضي، الحاضر والمستقبل)) وأتاحت له كما يقول الشاعر اليوناني ((يانيس ريستوس)) أن يعبر عن نفسه نفسياً وإجتماعياً ووجودياً. في هذه المستويات الثلاثة يختلف الخطاب الشعري والتعبير الشكلي واللغوي بين الديوانين، فالشاعر أنس مصطفى لا يقلد غيره ولا يأكل من سنامه الشعري وإنما يضيف إليه ولا يخصم منه.
ديوانه الأول ((نثار حول أبيض)) يميل إلى كتابة الحزن والحنين إلى المكان الجميل الذي كان ((قد يكون مكاناً نفسياً أو جغرافياً)) وإلى الزمن الذي مضى ولن يعود، هذا الفقد الزمكاني هو الذي ألهمه الديوان الأول، وهو الذي حاول فيه أن يستدين بلاداً وناس:
((ها أنت تحزن، ويأتيك حنين، كم مرَّةً تستدين بلاداً وناس..؟ لست هنا، الأوقاتُ الخضراء،
البابُ الصَّغير، تتذكَّر..أنَّها غطَّتك، أنَّها حضرت، فغبتَ بها..))
فزمانه ليس أخضراً ومكانه ليس فردوساً وصحبته ليسو ناساً، أما في الديوان الثاني فقد حاول أن يتسامى بحزنه وأن يصنع من هذا الحزن قارباً يطوف به في مراتع الحكمة والفلسفة والتأمُّل، يرى ويحس بالآخرين الذين قد تكون أحزانهم هي نفسها التي يحس بها. لقد حاول بهذا التسامي أن يعبر إلى مسارب الروح وأن يكون خطابه الشعري أقرب إلى حكمة الفلسفة وعمق التصوف:
((هكذا لا نزال مشجَّرين، وعلى قيدِ ناس، نؤخَّرُ أيامنا بجروحٍ أكيدة، أشياء من هذا الحنين..))
فهو لايزال مشجَّراً مع الآخرين، لاتزال أيامه دائرة ولا يزال مجروحاً، فحزنه مستمرٌ منذ الديوان الأول وحتى الآن، لا يستطيع أن يعيش بدونه، فالمكان لم يتغير، والزمن ما يزال راكضاً، الديوان الثاني هو ديوان التكملة وليس ديوان التكرار، لأنه لا يزال يحتاج لوعدٍ ما، لمكانٍ آمنٍ ، وبصيص ضوء.
((قولي لم الأشياء تُحزِنُ هكذا..؟ قولي لم النوَّارُ يمكثُ برهةً زمنَ الخريف..؟))
فليس له باب ليطرقه مثل الغريب، هو غريب المكان، منفي فيه، ليس له موعدٌ مع أحد، وليس له حلمٌ ليجلو الحنين، ولا يزال يبحث عن الناس وسط الزحمة، يبحث حتى عن الجغرافيا والحياة الإجتماعية: ((وهل لايزال مكانٌ بعيدٌ، وغيمٌ وقهوة، ولازال في المغربيات ناس؟))، لا يزال يحن لأناسٍ (( يتجاذبون أطراف الحنين، لا يودعون أحداً))، مثل الهدندوة والذين يمثلون عنده أصل النقاء والبراءة التي لاتزال موجودة ((الآن بلا تلاويح، فالهدندوة وحدهم، يتجاذبون أطراف الحنين، لا يودعون أحداً))، وعذابه وحنينه مستمرٌ منذ الديوان الأول ((فالمحطَّات الأخيرة محطَّاتٌ أيضاً)).
كانت الأنثى عند الشاعر أنس مصطفى رمزاً مفتوح الدلالة وليست كائناً مجسداً، ففي الديوان الأول كانت ((مريم)) التي لولاها لأنطفأ باكراً ((كانت تمطر، كانت تلك أوقاتُ مريم، وكانت مريمُ لا تنتهي أو كأنَّها..))، ورغم غيابها أحياناً فهي موجودة بداخله، وفي الديوان الثاني كانت ((فاطمة)) هي الرمز الأنثوي والتي لولاها لأحس باليتم في المكان الغريب، وهي واحته التي يعود إليها في آخر الطرقات الضريرة، يسرد لها حرقة الأيام، وتسمعه بسماحٍ وعذوبة، فرغم هذه الطرقات الضريرة، ورغم حزن الأيام وحرقتها هناك من يسمعه بسماحةٍ وطيبة، لا يزال هنا أثرٌ من ناس، فمريم تمثل الفردوس المكاني والأخضر المفقود، فهي ذاكرة مكانية يفتقدها الآن، وهذا المكان الأخضر يحلم بإستعادته في داخله أو بالعودة إليه، فالمكان عنده مفتوح الدلالة، وفاطمة هي الجواب لسؤالٍ كبيرٍ بداخله وهي رابطة الماضي الجميل ((الطريق إلى فاطمة يمرُّ بأغنياتٍ قديمة))، يقول: ((في تلكَ الأوقاتِ لم تكن السِّياجات بعد، كان في الدنيا عيونٌ طيبة، وصباح تعدُّه فاطمة))، فهي لحظة إستدعاء زمانية تلطف وقع الحاضر المر الذي لا يزال يعيش فيه، لا يزال يعيشُ في المكان الخطأ في المدينة التي هي ((أكداسُ السنواتِ المرمية، سفرُ الملامحِ في الليل، عتمةُ المحطَّات، الحشودُ من الوحشة، حزنُ الرُّعاة، الكلمة الجارحة، اللحظة المجروحة، والرحلةُ منفرداً وأعزل)) وهو وصف إجتماعي ونفسي ووجودي في غاية الروعة للمدينة، يؤكد المستويات الثلاثة التي ذكرتها من قبل، وكلمة ((أعزل)) تمثل الذات المتشظيَّة، فهو أعزل إلا من عتمةِ المحطَّات، وحشود الوحشة والكلمة الجارحة واللحظة المجروحة، فالمكان الآني الذي يفتقد فيه مريم ويتلطف فيه بفاطمة هو حزنه ومأساته الأولى ولكن لا مفرَّ منه ((المدينة حيث لا ندرك من أخطأ ومن أحتمل، من غاب ومن سيغيب))، فالعزلة كاملة، و((من)) هنا ليس لديه جواب لها.
أعتبر شعر أنس مصطفى هو شعر ((الحكمة المكانية))، فبمثل ما هو يتيم الروح فالمكان الذي يوجد فيه هو أيضاً يتيمٌ مثله، البيوت اليتيمة، ((هاهي المغاربُ تصعدُ جدرانَ البيوتِ الصَّغيرة، البيوت التي فتحت أبوابها لمرَّة، فانفتحَ ألف دربٍ من اليأسِ والحنين)).
وفي ((سهد الرعاة)) لا يزال مواصلاً للحلم، يحلم رغم أنه لم يعد في الليل يسمع صوت الأغنيات البعيدة، رغم أنه أوصد العالم مرَّةً وإلى الأبد ((حينما لم نعد في الليلِ نسمعُ صوتَ الأغنياتِ البعيدة، ولم تعد الطيورُ تؤوبُ في المغارب، أوصدتُ العالمَ مرَّةً وإلى الأبد))، لكنه يحلم، والحلم هو أمله الوحيد، يحلم مع فاطمة وبفاطمة:
((لكني حلمت، حلمتُ بعينيكِ تطوَّفانِ في المكان، تقولان لليل: (يا ليلُ كُن دِفئَاً وسلاماً) فيكون دفئاً وسلاماً..))
لقد امتطى الشاعر أنس مصطفى في ديوانيه الإثنين صهوة المجاز وطوَّعه للحداثة فأطاعه، وأفاد قصيدة النثر أكثر مما أفادته، وخطابه الشعري ومفرداته وجمله رغم وضوحها فقد استخدم بذكاء في الكتابة الشعرية تقنية المراوغة وتعدد الدلالات والتأويلات، وهو يحاول أن يرصد الواقع الزمكاني داخل صيغ جديدة ((فمريم وفاطمة والهدندوة)) هي أسماء يتجاوزها إلى دلالات أبعد من المباشرة المسماة والمحدودة، يتسامى بحزن الذات وبالمباشر من الأسماء إلى رؤية فكرية وفلسفية، هذه الرؤية أحياناً تتسع حتى تضيق العبارة وتصبح الجملة الشعرية كلمة واحدة مستقلة لوحدها ((الشَّجر: الحبيب، الوحيد، الرحيم، الغريب، الجسور، النهوض، القريب، الأمل))، كما يستخدم تقنية الفراغات القابلة للتكملة في ذهن المتلقي تحفيزاً وتواصلاً معه لإحساسه بأن رؤيته في حاجة إلى الإندياح وأن المتلقي بحاجة إلى أن يشاركه الرؤى، فالشعر عنده يتحول في خطابه إلى سرد رائع وجميل.
وبهذا السرد يؤكد وحدة المعنى، ليس في القصيدة الواحدة فحسب، وإنما وحدة المعنى في الديوان كله، فقصيدة ((أوبهر)) تتسع العبارة فيها وتتسرب الفكرة والحكمة رويداً رويداً، فلكل مقامٍ حالةٍ ومقال، يقول: ((هو البحرُ إذاً، لكني لا أعرف كيف يكتبُ البحر، البحرُ حزن، أو هو ملجأ الحزنِ كلَّه في الأكوانِ كلها، يسلمهُ أول الليلِ الطُّيور، تسلمهُ آخر الليلِ الكائنات، والطيورُ أجملُ الحزن، لأنها آمنت، لأنها أجمل من آمن، لكني لا أعرف كيف يكتب الحزن،كما لا أعرف كيف تطوى الحيرة، كما لا أعرف لم لسنا طيوراً، محض جناحٍ وعذوبة)) فالنص بإتساعهِ يفتحُ أبواباً واسعة للمتلقي بالسرد محفزاً للمتابعة حتى النهاية.
لقد استخدم الشاعر أنس مصطفى عدة تقنيات شعرية ذات صبغة حداثوية مواكبة للتطور الشعري، وأهمها تقنية ((الإضافة))، فقد وظفها الشاعر توظيفاً جيداً في لحظات تنويرية كما تفعل القصة القصيرة الحديثة وهي إثراء المعنى وتكثيف اللغة، وهي تؤكد قوة النص وتضامن كل كلماته مع بعضها البعض في خدمة الدلالة والفكرة، وهي مقدرة شعرية ليست سهلة أو مجانية، كما أن له مقدرة إستخدام تقنية التكرار للإضافة والتضاد وتكبير البؤرة الضوئية حول المعنى، ويستخدم الإستطراد والتعريف، وتقنية السؤال وجواب السؤال الذي يدور في ذهن المتلقي، وله مقدرة إستخدام التأكيد بعده. يقول في قصيدة ((زرقة)):، ((فِي اللَّيلِ الَّذِي يَغمُرُ المدينَةِ بِزُرْقَةٍ صَافِيَة، فِي السُّفِنِ الَّتي سَكنَت عَلى أرصِفَتِهَا ولَم تُغَادِر، في الفنَارَاتِ تَذرُفُ في العُمرِ خُضرَة نُورِهَا وَلا تَنتَهي..لا شَيء هُنَا يَنَتهي، ولا أحَدَ يَنَام، فَالَّذِي يَعرِفُ البَحرَ لا يَنَام، المدينَةُ لا تَنَام، وَالفَنَارَاتُ لا تنَاَم، كلُّ الأكوانِ هُنا سَاهِرَة، كلُّها مُطمئنَّة)) ففي هذا المقطع استخدم ووظف كل التقنيات التي ذكرتها، والشاعر أنس مصطفى يطوع أيضاً أدوات التشبيه بعيداً عن رتابة الإستطراد في اللغة العربية وبعيداً عن التقريرية الخبرية ((تَشدُو الأَنوَارُ عَلى المياهِ أنَاشِيدَهَا القَدِيمَة، مثلَ طُفُولَة)) ((مثل الطيور أنتِ، يأتي الخريف لمرَّة، ما بعده ذاكرةُ الخريف))، ((كتومين كالغرباء))، ((لَمْ يَذهَب أَحَد، ولا أحَدَ يَغيب، كُلُّ الأشياءِ هُنَا حَاضِرَة، وكُلُّها مُطمَئِنَّة، وَكَأنَّها الأبديَّة..وكأنَّها الوَهلَة..)).
إذا كان إستخدام الكثير من هذه التقنيات عند بعض شعراء الحداثة أو مدَّعيها قد أضرَّ كثيراً من النهوض بالمعنى فإنها عند الشاعر أنس مصطفى قد تطوَّع لخدمته، وليست هناك قطيعة بين النص والمتلقي، وإنما هناك حميمية وفهماً متاحاً فالنص سلَّم مفاتيحه للمتلقي بسماحة فائقة، ويقول في ذلك الفرنسي رولان بارت: (( النص حرز، وإن هذا الحرز ليرغبني والنص يختارني، أداته في ذلك ترتيب كامل لشاشات خفية وتدبير منظم لمماحكات إنتقائية، فثمة المفردات والمراجع وقابلية المقروء للقراءة))، فالنص عند الشاعر أنس مصطفى يرغِّب المتلقي ويرغَبُه فالرغبة متبادلة ((حميمية الكتابة)) وهذه الرغبة المتبادلة جاءت بحيث لا يوجد تكدس في المعاني وإنما الجملة والإضافة وُظَّفت لحشد المعنى في ذهن المتلقي بحيث يجعل منه متعة ذهنية كبرى وكما يقول في ذلك أيضاً رولان بارت: ((إن حرارة النص والتي من غيرها لا يوجد نص في النتيجة ستكون إرادته في المتعة، هنا بالذات حيث يفرط في الطلب، ويتعدى التغلفة ويحاول أن يتجاوز النعوت، وأن يخرق سيطرتها فهي أبواب اللغة التي ينفذ منها المتحيل والآيلوجيا بدفقٍ كبير.))
اللغة في هذا الديوان ابتعدت عن المباشرة والتعبير العقلاني فقصيدة النثر عند الكثيرين تحدث لغتها الخاصة، لتصبح لغة السحر الإيحائي، أو لغة الروح التي لا تستطيع اللغة المباشرة اللحاق بها فهي اللغة التي تخدم المعنى وتخدم نفسها في نفس الوقت، فالمتلقي يستمتع بجمال الموصِل والموصول، وكما يقول المثل السوداني ((سمح النبق في الطبق))، لقد قرَّب هذا الإستمتاع بين المتلقي وقصائد هذا الديوان فهموم الشاعر هي هموم المتلقي ((حزن المدن، والمنافي، والمكان اللامكان، والزمن الذي ليس كما كان)) ولغة الكتابة هي اللغة التي يتوق المتلقي للتعبير بها لكن الشاعر استطاع أن ينوب عنه في ذلك.
لقد إستطاع ديوان ((سهد الرعاة)) أن يستوعب كل هذه التقنيات الشعرية الحديثة مما جعل الشاعر أنس مصطفى يدخل في باب التمكُّن الشعري بحضور مميز ومشهود مما يجعل مفرداته وجمله الشعرية قابلة للتناص في كتابات الآخرين بسهولة فائقة، ((فالوسامة تنفد، والدمعةُ النبيَّة، والنهاياتُ المرسومةُ فوق ترابِ المسافاتِ البعيدة، ومن أسلم أشجاره إلى حزنٍ لن يعودَ إلى أشجارهِ أبداً، والغربةُ تربيتةُ الغرباء، والمدينةُ صباحٌ لا ينتظره أحد، وليس الحزنُ في الفِراق الحزنُ في النَّدم)) وهي ألفاظٌ جزلة، سهلة الحفظ مغرية للتناص والإستشهاد وهي تؤكد مقولة الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت: ((إن الشاعر الكبير هو الذي يجعلنا نتعرف على أنفسنا من خلال الشعر الذي يكتبه.))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو