الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جثة أجمل رجل أزرق- قرنق محارب حتى السلام و مسالم حد الموت

أميرة الطحاوي

2005 / 8 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


عندما استقبلته الملايين بالخرطوم الشهر الماضي، رد على هتافاتهم القائلة لا جنوب بدون شمال ولا شمال بدون جنوب «المهم يكون في سودان»، فهكذا كانت دوماً أهداف حركته غير مقتصرة على مطالب الجنوبيين، فوصف كثيرا بأنه وحدوي. أضاف «جئت لكي نعمل سوياً.. نحقق للسودان نقلة حقيقية لوضع جديد يكون نموذجاً للتاريخ الحديث في المنطقة وافريقيا والعالم... سيكون لدي كلام كثير، أتيت فقط لكي أسلم عليكم في المؤتمر، وأقول السلام عليكم».

لكن أحدا لم يمهله لينفذ ما قاله، أو ليكمل ما أراد قوله يومها في الساحة الخضراء، فقد رحل جون قرنق دي مابيور وما زال يرن في الصدى آخر ما خاطب به الجماهير وجها لوجه «السلام عليكم»، فالسلام عليك أيها الشهيد. والآن هل نتوجه بعزائنا أولا للسيدة ربيكا صاحبة الحزن الأكبر بفقدان الزوج والنصير في هذا العالم المليء بصوت الصراخ وهدير المدافع، والملوثة أجواؤه بدخان معارك ما لبثت أن انتهت وأخرى بدأت لتوها، لكم هي قوية هذه المرأة، ترى ماذا قلت أيتها المناضلة عندما أخبروك بأنهم عثروا على جثة الزوج والرفيق، هذا الذي كان حتما في ناظريك أجمل رجل أزرق بالعالم؟.

لقد دعت ربيكا الحكومة والحركة للتمسك بالاتفاقية والتحلي بالشجاعة والقوة في تنفيذها، وأن السلام الذي كان يدعو له الدكتور قرنق سلام حقيقي، وأن قرنق مات لكن نظريته لن تموت وأنها ستتابع نظريته. وأكدت أن قيادة الحركة قوية وجادة في تحقيق السلام في السودان، وان الدكتور كان يقول ان السلام ليس ملكه، بل ملك كل الشعب السوداني.

لا يستطيع المتابع للشأن السوداني أن يخفي إعجابه بقدرات هذا الرجل، فقد كان حتى اللحظة الأخيرة حكيما وحذرا لما بعد رحيله عندما أصر على أن يبقى للحركة جيشها الذي يقارب الـ 100 ألف مقاتل للدفاع عن اتفاقيات السلام إذا نكص عنها الطرف الآخر، متفاديا تكرار ما سماه هو بـ «الخطأ الاستراتيجي» الذي وقعت فيه حركة المتمردين الأولى (أنانيا) عندما حلّت جيشها بعد اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972، مما أعطى الرئيس السابق جعفر محمد نميري الفرصة لعدم احترام الاتفاق.

وفي آخر أيامه ذهب إلى الرئيس الأوغندي موسيفيني ربما ليقنعه مصدقاً أن السلام حقيقي هذه المرة، طوال مسيرته كان لدى قرنق مقربون من الشمال، مستشاره السياسي هو السياسي الشمالي المحنك د. منصور خالد وزير خارجية نظام نميري والذي وقع معاهدة السلام 1972، وهناك أيضا كوماندور ياسر عرمان وآخرون من ملل ونحل السودان، لم تبهره السلطة فعندما أرسلوه ليقضي على قلاقل بالجنوب باعتباره عسكريا في حكومة الخرطوم، ذهب وانضم للمتمردين لأنه وجد مشروعية لمطالبهم، وطوال مسيرته لم يستخدم قرنق فصيلا أو ميليشيات أو دعما من خارج البلاد ضد فصيل جنوبي رغم تكرار خلافاته مع بعض هذه الفصائل، كما لم يستدع قرنق جيوش دول مجاورة على أي فصيل جنوبي آخر، والأهم أنه لم يستدع أو يتآمر مع حكومة الخرطوم ضد فصيل جنوبي آخر، كل هذه الأخطاء فعلتها بلا خجل وكررتها غير مرة قيادات حركات قومية أخرى بالمنطقة، لذا ستبقى تداور في مكانها حتى لو وصلت لأعلى المناصب ولن تجد الزخم الشعبي الذي قوبل به قرنق عند عودته من شماليين وجنوبيين، فالشعوب لا تغفر هكذا ببساطة ولا تعلي إلا من يستحق.

ورغم أنه قابل الترابي بعد أن غدر بالأخير صديق الأمس البشير، لكن قرنق أبدا لم يصدر عنه تصريح واحد يجمل فيه تاريخ الترابي، ولم يفعل مثل آخرين ممن يهللون على الفور لخروج أحد أركان نظام فاشي بسبب اختلاف على تفاصيل لا جوهر، ويقربونهم لهم، وبالمقابل كان متفهما لعودة الكثير من فصائل وقيادات جنوبية عن تعاونها مع حكومة الخرطوم ضد قرنق نفسه، وأدرك أن لحظة تنوير ستحدث ليكتشفوا أن النظام لن يعطيهم سوى الفتات فيعودون له وكان هو بدوره يحسن استيعابهم، صحيح أنه فاجأ المعارضة السودانية باتفاق مشاكوس الذي رحبت به فصائل وعارضته أخرى، لكنه أبدا لم يفاجئ رفاقه باتفاقات سرية عرجاء تكبل العمل الوطني لسنوات، كما أنه لم يفاوض سرا على شيء ويعلن تمسكه بآخر، كما فعلت حركات أخرى بالمنطقة.

ثابر قرنق كثيرا ولم يتنازل عن أفكاره العلمانية، طرح فكرة العاصمة القومية لكل السودانيين، لم يتمكن أن يحقق حلمه لكنه لم يتنصل مما طالب به، كان يفكر في الخرطوم وفي كل السودان، لم يخن قرنق المعارضة السودانية ولا خرج عن مقررات أسمرا، لم يقم بمغامرات خرقاء كأن يعود للخرطوم من دون حساب أو ضمانات ثم بعد أشهر يبكي ويشكو ليظهر في الميديا من جديد باعتباره ضحية تستوجب التعاطف معها.

في يوم تنصيبه نائبا لرئيس الجمهورية لم تصبه عدوى الزعامات المتهالكة فلم يلق كلمة ترحيبية مجاملة ولا عبارات رنانة بل قدم ما يشبه برنامجا للعمل على الصعيد الوطني والإقليمي، مشيراً الى أنه يريد للسودان أن يكون مثالا يحتذى بالقارة الأفريقية التي أرهقتها الحروب والانقلابات.

لا أحد بوسعه أن ينسى حضور هذا الرجل في ندوة أو احتفالية، قفشاته الحاضرة وردوده الحاسمة، أتذكر نقلا عن مصدر أنه سمع قرنق يقدم ـ ربما بسخرية لا تخلو من حكمة ـ نظريته «كأس الجعة» عن سودان شمالي يحكمه المتأسلمون، وجنوب علماني، يشتاق مواطن الشمال لكأس جعة فيذهب نهاية الأسبوع لجوبا ـ عاصمة الجنوب ـ لاحتسائها ثم يعود للخرطوم ليفكر أنه آن الأوان ليصبح الشمال هو الآخر علمانيا ويناضل من أجل هذا.

في حفل قسم اليمين كنائب للرئيس يفاجئ قرنق الحضور بدعابات روحه المرحة، وإذ به يأخذ بيد أكبر مسؤول دولي ـ كوفي عنان ـ ليعيده لجذوره الأفريقية راقصا معه بكل فرح، كاشفا عن قلب ممتلئ بالأمل في غد جديد، ومصدقا أن السلام لا رجعة عنه حسبما أعلن مرارا.

كان مبدئيا على الدوام منتصرا لما يدعوه الـ«نيو سودان»، أو السودان الجديد، كان يحلم بهذا بثقة المتيقن أنه سيحدث، وصلني الخبر من صديق سوداني فتابعت وصدقت بغواية من قلبي رواية تلفزيون الخرطوم أنه نجا، ففرحت بكل ما أملك من قدرة على تحمل البهجة، في اليوم التالي قرأت الخبر غير مصدقة بغواية من أملي ألا يكون هذا ما حدث، لكن هذا ما كان: رحل «الزول السمح» إذن. لكنه ترك لنا الكثير من ميراث العمل النضالي في جبهات القتال وعلى مائدة المفاوضات، ليواصل بنوه ـ أبناء كل السودان ـ المسيرة من بعده، فلا تخذلوه رجاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تعيش باميلا كيك حالة حب؟ ??????


.. نتنياهو يعلق على تصريحات بايدن بشأن وقف إرسال أسلحة لإسرائيل




.. مغنيات عربيات.. لماذا اخترن الراب؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بوتين يوافق على سحب قوات روسية من مناطق مختلفة في أرمينيا




.. باريس: سباق البحث عن شقة للإيجار • فرانس 24 / FRANCE 24