الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاز!

سليمان جبران

2014 / 7 / 19
الادب والفن



أنا سمّيته، وما زلت، الفهلوي. يمكن تسميته الخنفشاري أيضا. أما على لسان أبي، وكلّ أبناء قريتنا، فكان اسمه الأستاز. نعم بالزاي. بخلاف لهجتنا نحن في القرية. يكفي أن تقول إنك سمعت المسألة من الأستاز ليصدّقك كلّ سامعيك، حتّى المشكّكون. لا أحد من أبناء القرية يعرف ما هي ثقافته الرسميّة فعلا. هو الأستاز وكفى. فضله على كلّ أبناء البلد. في الماضي البعيد تعلّم في المدينة البعيدة، وعاد إلينا أستازا يعلّم صغار القرية، ويوقّره فيها الوقار كلّه، الصغار والكبار.
أبي كان من أكثر المعجبين به. كان في نظره أديبا عظيما، لكنّ الحظّ خذله فلم يواصل دراسته في الجامعة. لو أكمل دراسته يومها لكان اليوم في شهرة طه حسين أو توفيق الحكيم. وإلا فما معنى الكتب التي تغطي حيطان الديوان كلّها في بيته، من الأرض إلى السقف؟ هل في القرية كلّها من قرأ هذه الكتب، أو يعرف حتى أسماءها؟ أستاز عظيم، لكنّ الحظّ لم يخدمه، و"كم قضى الحظُّ على موهبةٍ..."!
أنا أيضا كنت معجبا بالأستاز، مثل والدي. كنت أنتظر اليوم الذي أنهي فيه تعليمي وأصير أستازا. مثله أو أقلّ قليلا. سألته مرّة، في الصفّ، لماذا وردت كلمة الأهرام، في القصيدة التي علّمنا، مرّة بالضمّ وأخرى بالفتح. عندما تكبر، قال لي، تتعلّم وتعرف. وإذا كنت أحببت العلم، واللغة العربيّة بالذات، فلكي أكبر وأفهم، كما وعدني، سبب الضمّة والفتحة في آخر الكلمة ذاتها، وفي القصيدة ذاتها!
لم يكن في قريتنا مدرسة ثانويّة. بعد إنهاء الصفّ الثامن في القرية، كنت مضطرّا إلى السفر إلى المدينة البعيدة، لأقيم هناك، وأتابع دراستي، مثل تلاميذ كثيرين من قريتنا ومن المنطقة كلّها. بعد إنهاء الصفّ التاسع في المدينة، عدت في أواخر حزيران، إلى أهلي في قريتنا، مرفوع الرأس! ناولت والدي الشهادة، وأنا واثق أنّ الأرض لن تسعه عندما يرى علاماتي. لكنّ فرحة الفقير لا تتمّ، كما كنا نسمعها من أمّنا دائما. قرأ والدي علاماتي، والفرحة تتدفّق من وجهه وعينيه. ينظر في الشهادة مرّة، وفيّ مرّتين، وأنا جالس بقربه، سلطان زماني. لكنّ الفرحة لم تتمّ!
فجأة ظهر الأستاز بالباب. دعاه والدي إلى الدخول فدخل. قبل السؤال عن الصحّة، وكلمات الترحيب العاديّة، رأيت والدي يناوله الشهادة، قائلا: انظر شهادة الصبي. انظر علاماته الممتازة. في صفّه تلاميذ من كلّ البلاد، وعلاماته أحسن علامات. تناول الأستاذ الشهادة، وأخذ ينقّل نظره فيها. لا أظنّه قرأها كلّها. فجأة وضعها أمامه، ونظر إليّ: كيف تعرب يا عليقِ الحمارَ، ما دمت ممتازا في العربي؟ سألني متحدّيا. أجبته بسرعة أن العليق يجب أن تكون بالفتح، لا بالكسر، لأنّها منادى مضاف يجب فيه النصب. والحمار يجب جرّها لأنها مضاف إليه. ضحك ضحكة العالِم بكلّ أسرار الوجود، ثمّ قال لي بصوت خفيض: غلط طبعا. غدا تكبر يا شاطر وتعرف. المسكين والدي أسرع إلى نجدتي: أظنّ أنّهم لم يتعلّموها بعد. الحقّ على معلّمه. أمّا أنا فتبخّرت فرحتي في لحظة، ولعنت في سرّي الحمار وعليقه، والساعة التي دخل فيها الأستاز بيتنا، وعرض عليه والدي الشهادة.
في الصفّ العاشر أيضا، لم أخلص من اختبارات الأستاز وتقييماته. اختلفت مع أخي مرّة، وكان أصغر مني، في الصفّ الثامن، على قراءة كلمة معيّنة في بيت من الشعر ذكره أخي في مساجلتنا الشعريّة. كنت يومها بدأت أكتب الشعر الصبياني، لكنّني كنت ملمّا بالأوزان والتقطيع تماما. أخي أيضا كان يعرف الوزن "سماعا"، لكنه لا يعرف مثلي البحور كلّها والتقطيع، ولا سمع بالعروض السهل حتّى. طبعا لم يكن أمامنا من يحكم في الخلاف العروضي بيننا سوى الأستاز. لذا، فرحنا غاية الفرح حين دخل الأستاز بيتنا يوما، فبادر أخي إلى سؤاله، دونما مقدّمات: احكم بيننا يا أستاز، أيّ قراءة أصحّ، قراءتي أم قراءة أخي؟
اتّكأ الأستاذ على كرسيّه إلى الخلف، ثمّ أردف قائلا: هذه تحتاج إلى قعدة، وتحليل البيت، بحسب أحكام العروض. كيف يا أستاذ تكتب الشعر إذن، ألا تعرف الوزن سماعا؟ سأله أخي والغرابة تفترش وجهه كلّه. أعرفه طبعا، أجاب الأستاز، لكن هذا البيت من الأوزان النادرة. يجب تقطيع البيت على رواق، والعودة بعد التقطيع إلى كتاب العروض والقافية، تأليف الخليل بن أحمد الفراهيدي. يومها عرفت أنا ، وعرف أخي الصغير، وعرف أبي حتى، أنّ الأستاز ليس أستاذا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حصريا.. مراسل #صباح_العربية مع السعفة الذهبية قبل أن تقدم لل


.. الممثل والمخرج الأمريكي كيفن كوستنر يعرض فيلمه -الأفق: ملحمة




.. مخرجا فيلم -رفعت عينى للسما- المشارك في -كان- يكشفان كواليس


.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا




.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ